بَاب مَا يُذْكَرُ فِي الْمُنَاوَلَةِ وَكِتَابِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْعِلْمِ إِلَى الْبُلْدَانِ وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ نَسَخَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ الْمَصَاحِفَ فَبَعَثَ بِهَا إِلَى الْآفَاقِ وَرَأَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ ذَلِكَ جَائِزًا وَاحْتَجَّ بَعْضُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي الْمُنَاوَلَةِ بِحَدِيثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ كَتَبَ لِأَمِيرِ السَّرِيَّةِ كِتَابًا وَقَالَ لَا تَقْرَأْهُ حَتَّى تَبْلُغَ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ الْمَكَانَ قَرَأَهُ عَلَى النَّاسِ وَأَخْبَرَهُمْ بِأَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( بَاب مَا يُذْكَر فِي الْمُنَاوَلَة )
. لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَقْرِير السَّمَاع وَالْعَرْض أَرْدَفَهُ بِبَقِيَّةِ وُجُوه التَّحَمُّل الْمُعْتَبَرَة عِنْد الْجُمْهُور , فَمِنْهَا الْمُنَاوَلَة , وَصُورَتهَا أَنْ يُعْطِي الشَّيْخ الطَّالِب الْكِتَاب فَيَقُول لَهُ : هَذَا سَمَاعِي مِنْ فُلَان , أَوْ هَذَا تَصْنِيفِي , فَارْوِهِ عَنِّي . وَقَدْ قَدَّمْنَا صُورَة عَرْض الْمُنَاوَلَة وَهِيَ إِحْضَار الطَّالِب الْكِتَاب , وَقَدْ سَوَّغَ الْجُمْهُور الرِّوَايَة بِهَا , وَرَدَّهَا مَنْ رَدّ عَرْض الْقِرَاءَة مِنْ بَاب الْأَوْلَى .
قَوْله : ( إِلَى الْبُلْدَان )
أَيْ : إِلَى أَهْل الْبُلْدَان . وَكِتَاب مَصْدَر وَهُوَ مُتَعَلِّق إِلَى , وَذَكَرَ الْبُلْدَان عَلَى سَبِيل الْمِثَال , وَإِلَّا فَالْحُكْم عَامّ فِي الْقُرَى وَغَيْرهَا . وَالْمُكَاتَبَة مِنْ أَقْسَام التَّحَمُّل , وَهِيَ أَنْ يَكْتُب الشَّيْخ حَدِيثه بِخَطِّهِ , أَوْ يَأْذَن لِمَنْ يَثِق بِهِ بِكَتْبِهِ , وَيُرْسِلهُ بَعْد تَحْرِيره إِلَى الطَّالِب , وَيَأْذَن لَهُ فِي رِوَايَته عَنْهُ . وَقَدْ سَوَّى الْمُصَنِّف بَيْنهَا وَبَيْن الْمُنَاوَلَة . وَرَجَّحَ قَوْم الْمُنَاوَلَة عَلَيْهَا لِحُصُولِ الْمُشَافَهَة فِيهَا بِالْإِذْنِ دُون الْمُكَاتَبَة . وَقَدْ جَوَّزَ جَمَاعَة مِنْ الْقُدَمَاء إِطْلَاق الْإِخْبَار فِيهِمَا , وَالْأَوْلَى مَا عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ اِشْتِرَاط بَيَان ذَلِكَ .
قَوْله : ( نَسَخَ عُثْمَان الْمَصَاحِف )
هُوَ طَرَف مِنْ حَدِيث طَوِيل يَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ فِي فَضَائِل الْقُرْآن إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَدَلَالَته عَلَى تَسْوِيغ الرِّوَايَة بِالْمُكَاتَبَةِ وَاضِح , فَإِنَّ عُثْمَان أَمَرَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مَا فِي تِلْكَ الْمَصَاحِف وَمُخَالَفَة مَا عَدَاهَا , وَالْمُسْتَفَاد مِنْ بَعْثه الْمَصَاحِف إِنَّمَا هُوَ ثُبُوت إِسْنَاد صُورَة الْمَكْتُوب فِيهَا إِلَى عُثْمَان , لَا أَصْل ثُبُوت الْقُرْآن فَإِنَّهُ مُتَوَاتِر عِنْدهمْ .
قَوْله : ( وَرَأَى عَبْد اللَّه بْن عُمَر )
كَذَا فِي جَمِيع نُسَخ الْجَامِع " عُمَر " بِضَمِّ الْعَيْن , وَكُنْت أَظُنّهُ الْعُمَرِيّ الْمَدَنِيّ , وَخَرَّجْت الْأَثَر عَنْهُ بِذَلِكَ فِي " تَعْلِيق التَّعْلِيق " وَكَذَا جَزَمَ بِهِ الْكَرْمَانِيُّ , ثُمَّ ظَهَرَ لِي مِنْ قَرِينَة تَقْدِيمه فِي الذِّكْر عَلَى يَحْيَى بْن سَعِيد أَنَّهُ غَيْر الْعُمَرِيِّ لِأَنَّ يَحْيَى أَكْبَر مِنْهُ سِنًّا وَقَدْرًا , فَتَتَبَّعْت فَلَمْ أَجِدهُ عَنْ عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب صَرِيحًا , لَكِنْ وَجَدْت فِي كِتَاب الْوَصِيَّة لِأَبِي الْقَاسِم بْن مَنْدَهْ مِنْ طَرِيق الْبُخَارِيّ بِسَنَدٍ لَهُ صَحِيح إِلَى أَبِي عَبْد الرَّحْمَن الْحُبُلِيّ - بِضَمِّ الْمُهْمَلَة وَالْمُوَحَّدَة - أَنَّهُ أَتَى عَبْد اللَّه بِكِتَابٍ فِيهِ أَحَادِيث فَقَالَ : اُنْظُرْ فِي هَذَا الْكِتَاب , فَمَا عَرَفْت مِنْهُ اُتْرُكْهُ وَمَا لَمْ تَعْرِفهُ اُمْحُهُ . . فَذَكَرَ الْخَبَر . وَهُوَ أَصْل فِي عَرْض الْمُنَاوَلَة . وَعَبْد اللَّه يَحْتَمِل أَنْ يَكُون هُوَ اِبْن عُمَر بْن الْخَطَّاب , فَإِنَّ الْحُبُلِيّ سَمِعَ مِنْهُ . وَيَحْتَمِل أَنْ يَكُون اِبْن عَمْرو بْن الْعَاصِي , فَإِنَّ الْحُبُلِيّ مَشْهُور بِالرِّوَايَةِ عَنْهُ . وَأَمَّا الْأَثَر بِذَلِكَ عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد وَمَالِك فَأَخْرَجَهُ الْحَاكِم فِي عُلُوم الْحَدِيث مِنْ طَرِيق إِسْمَاعِيل بْن أَبِي أُوَيْس قَالَ : سَمِعْت خَالِي مَالِك بْن أَنَس يَقُول : قَالَ لِي يَحْيَى بْن سَعِيد الْأَنْصَارِيّ لَمَّا أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى الْعِرَاق : اِلْتَقِطْ لِي مِائَة حَدِيث مِنْ حَدِيث اِبْن شِهَاب حَتَّى أَرْوِيهَا عَنْك , قَالَ مَالِك : فَكَتَبْتهَا ثُمَّ بَعَثْتهَا إِلَيْهِ . وَرَوَى الرَّامَهُرْمُزِيّ مِنْ طَرِيق اِبْن أَبِي أُوَيْس أَيْضًا عَنْ مَالِك فِي وُجُوه التَّحَمُّل قَالَ : قِرَاءَتك عَلَى الْعَالِم , ثُمَّ قِرَاءَته وَأَنْتَ تَسْمَع , ثُمَّ أَنْ يَدْفَع إِلَيْك كِتَابه فَيَقُول : اِرْوِ هَذَا عَنِّي .
قَوْله : ( وَاحْتَجَّ بَعْض أَهْل الْحِجَاز )
هَذَا الْمُحْتَجّ هُوَ الْحُمَيْدِيّ , ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كِتَاب النَّوَادِر لَهُ .
قَوْله : ( فِي الْمُنَاوَلَة )
أَيْ : فِي صِحَّة الْمُنَاوَلَة , وَالْحَدِيث الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ لَمْ يُورِدهُ مَوْصُولًا فِي هَذَا الْكِتَاب , وَهُوَ صَحِيح , وَقَدْ وَجَدْته مِنْ طَرِيقَيْنِ : إِحْدَاهُمَا مُرْسَلَة ذَكَرَهَا اِبْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي عَنْ يَزِيد بْن رُومَان , وَأَبُو الْيَمَان فِي نُسْخَته عَنْ شُعَيْب عَنْ الزُّهْرِيّ كِلَاهُمَا عَنْ عُرْوَة بْن الزُّبَيْر . وَالْأُخْرَى مَوْصُولَة أَخْرَجَهَا الطَّبَرَانِيّ مِنْ حَدِيث جُنْدُب الْبَجَلِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن . ثُمَّ وَجَدْت لَهُ شَاهِدًا مِنْ حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد الطَّبَرِيّ فِي التَّفْسِير . فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الطُّرُق يَكُون صَحِيحًا . وَأَمِير السَّرِيَّة اِسْمه عَبْد اللَّه بْن جَحْش الْأَسَدِيِّ أَخُو زَيْنَب أُمّ الْمُؤْمِنِينَ , وَكَانَ تَأْمِيره فِي السَّنَة الثَّانِيَة قَبْل وَقْعَة بَدْر , وَالسَّرِيَّة بِفَتْحِ الْمُهْمَلَة وَكَسْر الرَّاء وَتَشْدِيد الْيَاء التَّحْتَانِيَّة الْقِطْعَة مِنْ الْجَيْش , وَكَانُوا اِثْنَيْ عَشَر رَجُلًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ .
قَوْله : ( حَتَّى تَبْلُغ مَكَان كَذَا وَكَذَا )
هَكَذَا فِي حَدِيث جُنْدُب عَلَى الْإِبْهَام . وَفِي رِوَايَة عُرْوَة أَنَّهُ قَالَ لَهُ : " إِذَا سِرْت يَوْمَيْنِ فَافْتَحْ الْكِتَاب " . قَالَا " فَفَتَحَهُ هُنَاكَ فَإِذَا فِيهِ أَنْ اِمْضِ حَتَّى تَنْزِل نَخْلَة فَتَأْتِينَا مِنْ أَخْبَار قُرَيْش , وَلَا تَسْتَكْرِهَنَّ أَحَدًا " قَالَ فِي حَدِيث جُنْدُب : فَرَجَعَ رَجُلَانِ وَمَضَى الْبَاقُونَ فَلَقُوا عَمْرو بْن الْحَضْرَمِيّ وَمَعَهُ عِير - أَيْ : تِجَارَة لِقُرَيْشِ - فَقَتَلُوهُ . فَكَانَ أَوَّل مَقْتُول مِنْ الْكُفَّار فِي الْإِسْلَام , وَذَلِكَ فِي أَوَّل يَوْم مِنْ رَجَب , وَغَنِمُوا مَا كَانَ مَعَهُمْ فَكَانَتْ أَوَّل غَنِيمَة فِي الْإِسْلَام , فَعَابَ عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ , فَأَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى : ( يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْر الْحَرَام قِتَال فِيهِ ) الْآيَة . وَوَجْه الدَّلَالَة مِنْ هَذَا الْحَدِيث ظَاهِرَة , فَإِنَّهُ نَاوَلَهُ الْكِتَاب وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْرَأهُ عَلَى أَصْحَابه لِيَعْمَلُوا بِمَا فِيهِ , فَفِيهِ الْمُنَاوَلَة وَمَعْنَى الْمُكَاتَبَة . وَتَعَقَّبَهُ بَعْضهمْ بِأَنَّ الْحُجَّة إِنَّمَا وَجَبَتْ بِهِ لِعَدَمِ تَوَهُّم التَّبْدِيل وَالتَّغْيِير فِيهِ لِعَدَالَةِ الصَّحَابَة , بِخِلَافِ مَنْ بَعْدهمْ , حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ . وَأَقُول : شَرْط قِيَام الْحُجَّة بِالْمُكَاتَبَةِ أَنْ يَكُون الْكِتَاب مَخْتُومًا وَحَامِله مُؤْتَمَنًا وَالْمَكْتُوب إِلَيْهِ يَعْرِف خَطّ الشَّيْخ , إِلَى غَيْر ذَلِكَ مِنْ الشُّرُوط الدَّافِعَة لِتَوَهُّمِ التَّغْيِير وَاَللَّه أَعْلَم