بَاب مَا جَاءَ فِي الْعِلْمِ وَقَوْلِهِ تَعَالَى
وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا
الْقِرَاءَةُ وَالْعَرْضُ عَلَى الْمُحَدِّثِ وَرَأَى الْحَسَنُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ جَائِزَةً وَاحْتَجَّ بَعْضُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ بِحَدِيثِ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَاللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَهَذِهِ قِرَاءَةٌ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ ضِمَامٌ قَوْمَهُ بِذَلِكَ فَأَجَازُوهُ وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِالصَّكِّ يُقْرَأُ عَلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُونَ أَشْهَدَنَا فُلَانٌ وَيُقْرَأُ ذَلِكَ قِرَاءَةً عَلَيْهِمْ وَيُقْرَأُ عَلَى الْمُقْرِئِ فَيَقُولُ الْقَارِئُ أَقْرَأَنِي فُلَانٌ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَامٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْوَاسِطِيُّ عَنْ عَوْفٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ لَا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِمِ وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَبْرِيُّ وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ قَالَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْمُحَدِّثِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَقُولَ حَدَّثَنِي قَالَ وَسَمِعْتُ أَبَا عَاصِمٍ يَقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَسُفْيَانَ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْعَالِمِ وَقِرَاءَتُهُ سَوَاءٌ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( بَاب الْقِرَاءَة وَالْعَرْض عَلَى الْمُحَدِّث )
إِنَّمَا غَايَرَ بَيْنهمَا بِالْعَطْفِ لِمَا بَيْنهمَا مِنْ الْعُمُوم وَالْخُصُوص ; لِأَنَّ الطَّالِب إِذَا قَرَأَ كَانَ أَعَمّ مِنْ الْعَرْض وَغَيْره , وَلَا يَقَع الْعَرْض إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْعَرْض عِبَارَة عَمَّا يُعَارِض بِهِ الطَّالِب أَصْل شَيْخه مَعَهُ أَوْ مَعَ غَيْره بِحَضْرَتِهِ فَهُوَ أَخَصّ مِنْ الْقِرَاءَة . وَتَوَسَّعَ فِيهِ بَعْضهمْ فَأَطْلَقَهُ عَلَى مَا إِذَا أَحْضَرَ الْأَصْل لِشَيْخِهِ فَنَظَرَ فِيهِ وَعَرَفَ صِحَّته وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يَرْوِيه عَنْهُ مِنْ غَيْر أَنْ يُحَدِّثهُ بِهِ أَوْ يَقْرَأهُ الطَّالِب عَلَيْهِ . وَالْحَقّ أَنَّ هَذَا يُسَمَّى عَرْض الْمُنَاوَلَة بِالتَّقْيِيدِ لَا الْإِطْلَاق . وَقَدْ كَانَ بَعْض السَّلَف لَا يَعْتَدُّونَ إِلَّا بِمَا سَمِعُوهُ مِنْ أَلْفَاظ الْمَشَايِخ دُون مَا يُقْرَأ عَلَيْهِمْ , وَلِهَذَا بَوَّبَ الْبُخَارِيّ عَلَى جَوَازه وَأَوْرَدَ فِيهِ قَوْل الْحَسَن - وَهُوَ الْبَصْرِيّ - لَا بَأْس بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِم . ثُمَّ أَسْنَدَهُ إِلَيْهِ بَعْد أَنْ عَلَّقَهُ وَكَذَا ذُكِرَ عَنْ سُفْيَان الثَّوْرِيّ وَمَالِك مَوْصُولًا أَنَّهُمَا سَوَّيَا بَيْن السَّمَاع مِنْ الْعَالِم وَالْقِرَاءَة عَلَيْهِ . وَقَوْله : " جَائِزًا " وَقَعَ فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ " جَائِزَة " أَيْ : الْقِرَاءَة ; لِأَنَّ السَّمَاع لَا نِزَاع فِيهِ .
قَوْله : ( وَاحْتَجَّ بَعْضهمْ )
الْمُحْتَجّ بِذَلِكَ هُوَ الْحُمَيْدِيّ شَيْخ الْبُخَارِيّ قَالَهُ فِي كِتَاب النَّوَادِر لَهُ , كَذَا قَالَ بَعْض مَنْ أَدْرَكْته وَتَبِعْته فِي الْمُقَدِّمَة , ثُمَّ ظَهَرَ لِي خِلَافه وَأَنَّ قَائِل ذَلِكَ أَبُو سَعِيد الْحَدَّاد , أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الْمَعْرِفَة مِنْ طَرِيق اِبْن خُزَيْمَةَ قَالَ : سَمِعْت مُحَمَّد بْن إِسْمَاعِيل الْبُخَارِيّ يَقُول : قَالَ أَبُو سَعِيد الْحَدَّاد : عِنْدِي خَبَر عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقِرَاءَة عَلَى الْعَالِم . فَقِيلَ لَهُ , فَقَالَ : قِصَّة ضِمَام بْن ثَعْلَبَة قَالَ : آللَّه أَمَرَك بِهَذَا ؟ قَالَ نَعَمْ . اِنْتَهَى . وَلَيْسَ فِي الْمَتْن الَّذِي سَاقَهُ الْبُخَارِيّ بَعْد مِنْ حَدِيث أَنَس فِي قِصَّة ضِمَام أَنَّ ضِمَامًا أَخْبَرَ قَوْمه بِذَلِكَ , وَإِنَّمَا وَقَعَ ذَلِكَ مِنْ طَرِيق أُخْرَى ذَكَرَهَا أَحْمَد وَغَيْره مِنْ طَرِيق اِبْن إِسْحَاق قَالَ : حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الْوَلِيد بْن نُوَيْفِع عَنْ كُرَيْب عَنْ اِبْن عَبَّاس قَالَ : بَعَثَ بَنُو سَعْد بْن بَكْر ضِمَامَ بْن ثَعْلَبَة , فَذَكَرَ الْحَدِيث بِطُولِهِ , وَفِي آخِره أَنَّ ضِمَامًا قَالَ لِقَوْمِهِ عِنْدَمَا رَجَعَ إِلَيْهِمْ : " إِنَّ اللَّه قَدْ بَعَثَ رَسُولًا وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابًا , وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْده بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ " قَالَ : فَوَاَللَّهِ مَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْم وَفِي حَاضِره رَجُل وَلَا اِمْرَأَة إِلَّا مُسْلِمًا . فَمَعْنَى قَوْل الْبُخَارِيّ " فَأَجَازُوهُ " أَيْ : قَبِلُوهُ مِنْهُ , وَلَمْ يَقْصِد الْإِجَازَة الْمُصْطَلَحَة بَيْن أَهْل الْحَدِيث .
قَوْله : ( وَاحْتَجَّ مَالِك بِالصَّكِّ )
قَالَ الْجَوْهَرِيّ : الصَّكّ - يَعْنِي بِالْفَتْحِ - الْكِتَاب , فَارِسِيّ مُعَرَّب . وَالْجَمْع صِكَاك وَصُكُوك . وَالْمُرَاد هُنَا الْمَكْتُوب الَّذِي يُكْتَب فِيهِ إِقْرَار الْمُقِرّ ; لِأَنَّهُ إِذَا قُرِئَ عَلَيْهِ فَقَالَ : " نَعَمْ " سَاغَتْ الشَّهَادَة عَلَيْهِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَلَفَّظ هُوَ بِمَا فِيهِ , فَكَذَلِكَ إِذَا قُرِئَ عَلَى الْعَالِم فَأَقَرَّ بِهِ صَحَّ أَنْ يُرْوَى عَنْهُ . وَأَمَّا قِيَاس مَالِك قِرَاءَة الْحَدِيث عَلَى قِرَاءَة الْقُرْآن فَرَوَاهُ الْخَطِيب فِي الْكِفَايَة مِنْ طَرِيق اِبْن وَهْب قَالَ : سَمِعْت مَالِكًا , وَسُئِلَ عَنْ الْكُتُب الَّتِي تُعْرَض عَلَيْهِ أَيَقُولُ الرَّجُل حَدَّثَنِي ؟ قَالَ : نَعَمْ , كَذَلِكَ الْقُرْآن . أَلَيْسَ الرَّجُل يَقْرَأ عَلَى الرَّجُل فَيَقُول : أَقْرَأَنِي فُلَان ؟ وَرَوَى الْحَاكِم فِي عُلُوم الْحَدِيث مِنْ طَرِيق مُطَرِّف قَالَ : صَحِبْت مَالِكًا سَبْع عَشْرَة سَنَة , فَمَا رَأَيْته قَرَأَ الْمُوَطَّأ عَلَى أَحَد , بَلْ يَقْرَءُونَ عَلَيْهِ . قَالَ : وَسَمِعْته يَأْبَى أَشَدّ الْإِبَاء عَلَى مَنْ يَقُول : لَا يَجْزِيه إِلَّا السَّمَاع مِنْ لَفْظ الشَّيْخ , وَيَقُول : كَيْف لَا يَجْزِيك هَذَا فِي الْحَدِيث , وَيَجْزِيك فِي الْقُرْآن , وَالْقُرْآن أَعْظَم ؟ قُلْت : وَقَدْ اِنْقَرَضَ الْخِلَاف فِي كَوْن الْقِرَاءَة عَلَى الشَّيْخ لَا تَجْزِي , وَإِنَّمَا كَانَ يَقُولهُ بَعْض الْمُتَشَدِّدِينَ مِنْ أَهْل الْعِرَاق , فَرَوَى الْخَطِيب عَنْ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد قَالَ : لَا تَدَعُونَ تَنَطُّعكُمْ يَا أَهْل الْعِرَاق , الْعَرْض مِثْل السَّمَاع . وَبَالَغَ بَعْض الْمَدَنِيِّينَ وَغَيْرهمْ فِي مُخَالَفَتهمْ فَقَالُوا : إِنَّ الْقِرَاءَة عَلَى الشَّيْخ أَرْفَع مِنْ السَّمَاع مِنْ لَفْظه , وَنَقَلَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي غَرَائِب مَالِك عَنْهُ , وَنَقَلَهُ الْخَطِيب بِأَسَانِيد صَحِيحَة عَنْ شُعْبَة وَابْن أَبِي ذِئْب وَيَحْيَى الْقَطَّان . وَاعْتَلُّوا بِأَنَّ الشَّيْخ لَوْ سَهَا لَمْ يَتَهَيَّأ لِلطَّالِبِ الرَّدّ عَلَيْهِ . وَعَنْ أَبِي عُبَيْد قَالَ : الْقِرَاءَة عَلَيَّ أَثْبَت وَأَفْهَم لِي مِنْ أَنْ أَتَوَلَّى الْقِرَاءَة أَنَا . وَالْمَعْرُوف عَنْ مَالِك كَمَا نَقَلَهُ الْمُصَنِّف عَنْهُ وَعَنْ سُفْيَان - وَهُوَ الثَّوْرِيّ - أَنَّهُمَا سَوَاء , وَالْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور أَنَّ السَّمَاع مِنْ لَفْظ الشَّيْخ أَرْفَع رُتْبَة مِنْ الْقِرَاءَة عَلَيْهِ . مَا لَمْ يَعْرِض عَارِض يُصَيِّر الْقِرَاءَة عَلَيْهِ أَوْلَى , وَمِنْ ثَمَّ كَانَ السَّمَاع مِنْ لَفْظه فِي الْإِمْلَاء أَرْفَع الدَّرَجَات لِمَا يَلْزَم مِنْهُ مِنْ تَحَرُّز الشَّيْخ وَالطَّالِب . وَاَللَّه أَعْلَم .
قَوْله : ( عَنْ الْحَسَن قَالَ : لَا بَأْس بِالْقِرَاءَةِ عَلَى الْعَالِم )
هَذَا الْأَثَر رَوَاهُ الْخَطِيب أَتَمَّ سِيَاقًا مِمَّا هُنَا , فَأَخْرَجَ مِنْ طَرِيق أَحْمَد بْن حَنْبَل عَنْ مُحَمَّد بْن الْحَسَن الْوَاسِطِيِّ عَنْ عَوْف الْأَعْرَابِيّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ الْحَسَن فَقَالَ : يَا أَبَا سَعِيد مَنْزِلِي بَعِيد , وَالِاخْتِلَاف يَشُقّ عَلَيَّ , فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَى بِالْقِرَاءَةِ بَأْسًا قَرَأْت عَلَيْك . قَالَ : مَا أُبَالِي قَرَأْت عَلَيْك أَوْ قَرَأْت عَلَيَّ . قَالَ : فَأَقُول حَدَّثَنِي الْحَسَن ؟ قَالَ : نَعَمْ , قُلْ حَدَّثَنِي الْحَسَن . وَرَوَاهُ أَبُو الْفَضْل السُّلَيْمَانِيّ فِي كِتَاب الْحَثّ عَلَى طَلَب الْحَدِيث مِنْ طَرِيق سَهْل بْن الْمُتَوَكِّل قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن سَلَام , بِلَفْظِ : " قُلْنَا لِلْحَسَنِ : هَذِهِ الْكُتُب الَّتِي تُقْرَأ عَلَيْك أَيْش نَقُول فِيهَا ؟ قَالَ : قُولُوا : حَدَّثَنَا الْحَسَن "