molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: مفهوم الأمانة - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الخميس 22 ديسمبر - 5:59:21 | |
|
مفهوم الأمانة
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، في كتاب ربِّنا بيانٌ لأخلاق المؤمنين، بيانٌ لصفاتِهم الحميدة وأخلاقِهم الكريمة، وذاك دعوةٌ للأمّة المؤمنة أن تأخذَ بتلكم الأخلاق وتتَّصف بتلكم الصفات. فيذكر الله أهلَ الإيمان، يذكر أخلاقَهم وأعمالهم، وهو حثٌّ لنا جميعًا على الأخذ بها والعمل بمقتضاها، كما يذكر أخلاقَ المنافقين وصفاتِهم وأخلاقَ الكافرين، ليكونَ المسلم على علمٍ بتلكم الصفات والأخلاق، فيبتعد كلَّ البُعد عنها.
أيّها المسلم، وأنت تقرأ كتابَ الله تمرُّ بك آية، وهي قول الله جلّ جلاله في صفات المؤمنين: وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ [المؤمنون:8]. فوصف الله أهلَ الإيمان بأنّهم راعون لأماناتهم، حافظون لأماناتهم، وَٱلَّذِينَ هُمْ لأمَـٰنَـٰتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رٰعُونَ، فهم يرعَون الأمانَة حقَّ الرعاية، ويقومون بمقتضاها حقَّ القيام، تلكم الأمانةُ التي عرضها الله على السموات السَّبع والأرضين السّبع والجبال، عرضها عليهم لا عرضَ إلزام، فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا، لا عصيانًا لله، ولكن إشفاقًا من حملها، إلا أنَّ الإنسان حَملها لظلمِه وجهله، وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أيّها المسلم، فالأمانةُ التي كُلِّفتَ بها والتي طُولبَ منك رعايتُها أمانةٌ عامّة فيما بينك وبين الله، وفيما بينك وبين نفسك، وفيما بينك وبين عباد الله، أمانةٌ شاملةٌ لخيرَي الدنيا والآخرة، شاملة لمصالح الدين والدنيا معًا، فالمؤمن في هذه الحياة يحمِل أعباءَ هذه الأمانة، ويرعاها حقَّ الرّعاية، ويقوم بها خيرَ قيام، طاعةً لله وتقرّبًا إلى الله.
أيّها المسلم، فالعباداتُ الشرعيّة أمانةٌ عندك بأن تؤدِّيها إخلاصًا لله، وموافقةً لشرع الله، لا تبتدِعُ فيها، لا تزيدُ فيها، ولا تنقصُ منها، وإنما تؤدّيها على وفقِِ ما شرع الله ورسوله، فأنت مخلِصٌ لله في عبادتك، في توحيدِك لله مخلصٌ في ذلك، معتقد حقًا أنّ الله المعبودُ بحقّ، وأنّ ما سواه معبودٌ بالباطل، معتقدٌ اتباعَ سنّة محمّد ، وأنّه عبد الله ورسوله الذي أرسله الله ليقيمَ حجَّته على العباد، وأنَّ الواجبَ اتباعُه والعمل بشريعته.
فأنت مؤتَمَنٌ على هذا الأصل العظيم، فأنت تؤمِن بذلك إيمانًا ظاهرًا وباطنًا، تنطِق بكلمةِ التوحيد "لا إله إلا الله"، تنطق بها بلسانك، معتقِدًا معناها بقلبك، عاملاً بمقتضى ما دلَّت عليه، تنطِق شهادةَ أنَّ محمدًا رسول الله مخلِصًا لله في ذلك، قولاً وعملاً واعتقادًا، تعتقِد أنّه رسول الله حقًا، فتتبع سنّتَه، وتسير على نهجه ظاهرًا وباطنًا، تؤدِّي عبادةَ الله من صلاةٍ و+اةٍ وصوم وحجٍّ وبرّ وصِلة، وكلّ الواجبات الشرعيّة تؤدّيها بإخلاصٍ لله، واتّباع لشريعة محمّد ، فإنّ الله لا يقبَل العملَ إلا إذا كان خالصًا له وكان على وفق ما شرع الله، فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَـٰلِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا [الكهف:110].
أيّها المسلم، ففيما بينك وبين الله في عبادتِه الإخلاصُ والاتّباع.
إنّك تتوضّأ للصلاة، والوضوء الذي هو شرطٌ لصحّة الصلاة أنتَ مؤتمنٌ عليه في إسباغ الوضوء وإتمامِه وعدمِ الإخلال بشيء منه، رأى النبيّ بعضَ أصحابه وقد تركُوا غسلَ بعض القدم، فنادى فيهم: ((ويلٌ للأعقاب من النار))[1]، وقال: ((أسبغ الوضوءَ، وخلِّل بين الأصابع، وبالِغ في الاستنشاق إلا أن تكونَ صائمًا))[2]. فالوضوء أمانةٌ تؤدِّيه كما أمرَ الله صادقًا مخلصًا، وما ائتمَن الله عبدًا على شيء ما ائتمنَه على غسل الجنابة.
تؤدّي الصلواتِ الخمس بأمانة، بأن تؤدِّيَها في الوقت الذي عيَّنه الله لأدائها، تؤدّيها في وقتِها، فأنت مؤتمنٌ على وقتِها، فلا تؤخِّرها عن وقتها بلا عذر شرعيّ، فإنّ الله وقَّتها بأوقات، طالبنا بأن نوقعَها فيها، إِنَّ ٱلصَّلَوٰةَ كَانَتْ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ كِتَـٰباً مَّوْقُوتاً [النساء:103]. تؤدّيها بأمانة، فلا تخِلُّ بأركانها ولا بواجباتها ولا بشيء مطلوبٍ فيها، ولذا لمّا رأى النبيّ المسيءَ في صلاته الذي لا يُتمّ الركوعَ والسجود قال له: ((صلِّ فإنّك لم تصلِّ))، فلمّا قال الرّجل ثلاثَ مرّات: يا رسول الله، والذي بعثك بالحقّ نبيًّا ما أحسنُ غيرَ هذا فعلِّمني، فعلّمه رسول الله صفةَ أداء الصلاة، وأمره بالطّمأنينة في كلِّ أركانها وواجباتها[3].
أيّها المسلم، وأنت مؤتمَنٌ على زكاةِ مالك، فالله سيحاسبك على ذلك، فاتّق الله في أدائها وإخراجها على وفق ما شرع الله، على وفق ما أمرك الله به، وأحصِها وأخرِج +اتها طيِّبة بذلك نفسُك، فإنّك أمين، والله يعلم خائنةَ الأعين وما تخفي الصدور، أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ [الملك:14].
أيّها المسلم، والصومُ أمانةٌ والحجّ أمانة، كلّ هذه الأركان الإسلاميّة أمانةٌ عند المسلم، يؤدّيها كما شرع الله.
البرّ والصّلة والواجبات الشرعيّة كلّها يؤدّيها المسلم؛ لأنّه مؤتمنٌ على أدائها، فلا بدّ من الأداء.
أيّها المسلم، واعلم أنّ الله مطَّلع عليك وعالم بسرِّك وعلانيتك، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوٰهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
تتركُ المحرّمَات طاعةً لله في موضع لا يراك إلا الله، إنّما ذلك خشية من الله، إِنَّ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِٱلْغَيْبِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [الملك:13].
وإنَّ أمانتك فيما بينك وبين الخلق تعاملُهم بما تحبّ أن يعاملوكَ به، تعاملهم بالصِّدق والأمانة كما تحبُّ أن يعاملوك به، فلا يؤمِن أحدكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه. فلا تكن غاشًا لهم، ولا خائنًا لهم، ولا ساعيًا في المكائد لهم، وإنما تعاملهم بمثل ما تحبُّ أن يعاملوك به، فتلك الأمانة في التعامل مع العِباد.
أيّها المسلم، وإنّك مؤتمنٌ في أحوالك كلِّها، ففي البَيع والشّراء مؤتمنٌ على بيعك، بأن يكون بيعك بيعًا صادقًا، لا غشَّ ولا خيانة، لا تدليسَ ولا خِداع، ولكن بيعُ المؤمن الصادِق، يعرض سلعتَه فلا كذب ولا أيمان فاجِرة يروّج بها سلعتَه، ولكن الصدق والبرّ خلقُ المؤمن. وأنت ـ أيّها المشتري ـ أمين أيضًا في إعطاء الناس حقوقَهم وعدم المماطلة وعدم الكذب والغشّ والخداع. وأنت ـ أيّها المؤمن ـ مؤتمنٌ في بيعك وشرائك، مؤتمنٌ فيما تعامِل به النّاس، فيما اؤتمِنتَ عليه، فأنت ـ أيها المستأجِر للدّور ـ مؤتَمن على ما استأجرتَه بأن تسلِّم ما استأجرتَه من غير إخلال ولا إلحاق ضرَر بما استلمتَه من ذلك العقار، استأجرتَ مسكنا تسكنه فأدِّ أمانتَه بأن تسلِّمه لمؤجِّره من غير نقصٍ لحِق به، من غير إخلال بذلك.
أيّها المسلم، أنتَ مؤتمنٌ على ما وُكِل إليك من أعمال، فيا من هو وكيلٌ على أموال الأيتام، اعلم أنَّ الله سائلك عمّا ائتمنك عليه، ويناقشك الحسابَ يوم القيامة، إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰلَ ٱلْيَتَـٰمَىٰ ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء:10]. المسؤول عن قِسمة المواريث مؤتمنٌ في الإحصاء وضبطِ الأمور وإعطاء كلِّ ذي حقّ حقَّه. المسلم مؤتمنٌ إن كان مسؤولاً عن وصايا وأوقاف أن يتّقي الله فيما اؤتُمن عليه، فلا يخون ولا يكذب ولا يلبِّس، وإنّما يُظهر الصدقَ ويؤدِّي الأمانة فيما اؤتُمن عليه.
أيّها المسلم، أنت مُؤتمنٌ على زوجتِك من حيث النصيحة، من حيث التوجيهُ والقيام بالواجب وإعطاؤها حقَّها المشروع وعدم الإضرار والمماطلة بذلك، كما أنتَ مؤتمنٌ على أخلاقِها وأعمالِها لأنّك راعٍ والله سائلك عن رعيّتك، كما أنَّ المرأةَ المؤمنةَ مؤتمنةٌ على بيتها ومال زوجها وفراش زوجها، فتؤدِّي أمانتَها على الوجه المرضيّ.
أيّها المسلم، أمانتُك تصحبُك أيضًا في أولادك من بنين وبنات، أنت مؤتمنٌ على الأولاد من بنين وبنات، تربيةً وتعليمًا وتوجيهًا وحملاً على الخير وتحذيرًا من أسبابِ الشّرّ، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ [التحريم:6]، فإنّك مؤتمَن على أولادك، أن تربِّيَهم التربية الإسلامية، أن تكون قدوةً لهم في الخير وأسوةً لهم في الهدى ليقتدوا بك ويتأسَّوا بك في أعمالِك الطيّبة، فما مِن مولود إلا يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه.
أنت مؤتمنٌ عليهم في تأليف قلوبِهم وإصلاح ذاتِ بينهم، فلا تفضِّل أحدًا على أحد، ولا تجعَل لأحدٍ فضلاً على أحَد، بل اتَّق الله واعدِل في أولادك في العطاء والهبات، حتى يكونوا لك قلبًا واحدًا، واحذَر أن توقِد بينهم نارَ العداوة والبغضاء بأن تفضِّل بعضًا على بعض، تقرِّب ذا وتُقصي ذا، وتترك النّار تشتعل في نفوسهم، فتكون سببًا للقطيعة بينهم والعياذ بالله.
أنت مؤتمنٌ فيما توصي به من وصايا، فلا تكُن وصيتُك وصية جَور وظلم، بل تكون وصيةً عادلة، متَّقيًا الله فيها، إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا [النساء:135]، لا تحابِ ولا تجُر ولا تفضِّل أحدًا بأيّ طريقة سلكتَ، فإنّ الله مطّلع عليك وعالم بسرّك ونجواك.
أنت مؤتمَن على البنات فتختار لهنّ مَن فيه خير لهنّ في أمرِ الدين والدنيا، لا تردَّ كُفئًا تقدَّم إليك تعلم خيرَه وصلاحَه، ((إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوِّجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))[4]. وكم من معوِّق لزواج الفتيات لمصالحَ يريدها منهم، إمّا اكتسابٌ من راتبهنَ أو طمعًا في خدمتهنَ أو نحو ذلك، ويردّ الكفءَ في الصلاح والدين لمصلحة دنيويّة حقيرة، فتلك خيانة لأمانتِك أيها المسلم.
أيّها المسلم، إنَّ الشهادةَ التي تؤدّيها أنت مؤتمن عليها، فتتَّقي الله، وتصدق في شهادتك، وتؤدِّي الشهادةَ على علم وبصيرة، لا على ظنٍّ ومجاملة، قال الله جلّ وعلا في كتابه العزيز: إِلاَّ مَن شَهِدَ بِٱلْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف:86]، وحذَّرنا من كتمان الشهادة، وَلاَ تَكْتُمُواْ ٱلشَّهَـٰدَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]. فلا تشهَد إلا بما تعلم، ولا تشهَد بلا علم ولا لمجاملة، فإنّ الشهادة أمانة عند الشاهد، أن ينطق بالحقّ لا يخاف في الله لومةَ لائم.
أيّها المسلم، القاضي في محكمته مؤتمنٌ على القضايا، ومؤتمنٌ على ما يسمعه من الخصوم، فإن اتَّقى الله في أمانته وسمع من الجميع وأدَّى الحقَّ الذي أوجب الله عليه كان من الناجين يوم القيامة.
المسؤولون عن التّحقيق في كلِّ المجالات، سواء مروريّة أو غيرها، هم مسؤولون أمام الله، إن اتَّقوا الله فيما حقَّقوا وفيما كتبوا كانوا أمناء، وإن خانوا وخدَعوا وجاملوا كانوا من الخائِنين.
كلّ صاحب وِلايةٍ ما من ولايات الأمّة المسلمة قلَّت تلك الولاية أو كثرت صغُرت أم كبرة، فكلُّ مسؤول مؤتمَنٌ على مسؤوليّته، والله سائله يوم القيامة، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ [النساء:58]. وحذَّرنا الله من خيانة الأمانة فقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَـٰنَـٰتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [الأنفال:27].
السرُّ بينك وبين من ائتمنك على سرِّه أمانةٌ فلا تفشِ ذلك، ما بين الرّجل وبين امرأتِه فيما يجري بينهما أمانة، حرامٌ عليها أن تفضيَ للناس ما بينها وبين زوجها، أو أن يفضيَ هو الناسَ ما بينه وبين امرأته.
الأبوان أمانة عند الأولاد لا سيّما في كبر سنِّهما وضعفِهما، فالأبناء مسؤولون جميعًا عن آبائهم وأمّهاتهم، البرّ والإحسان والقيام بالواجب، فإنّ الأبوين أمانةٌ عند الأبناء.
فليتَّق المسلم ربَّه، وليراقِب اللهَ فيما اؤتُمن عليه، فإنّ المسلمَ إذا أدَّى الأمانةَ كان من المؤمنين حقًا، ولا دينَ لمن لا أمانة له، فالأمانةُ من الإيمان، تكون أمينًا على حقوق الناس بَرِّهم وفاجرهم، فاتّق الله فيما اؤتمنتَ عليه، واعلم أنّ الأمة المسلمة اللهُ كلّفها وأوجب عليها حفظَ هذا الدين، والقيام بواجب هذا الدين، دعوة إلى الله ونصيحة للأمة والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحقّ أطرًا، فإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانةٌ في أعناق الأمّة، ((لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهوُنَّ عن المنكر، ولتأخذُنّ على يد الظالم، ولتأطرنَّه عن الحقّ أطرًا، أو ليوشكنَّ الله أن يضربَ قلوب بعضكم ببعض، ثم يلعنُكم كما لعنهم))[5]، لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِى إِسْرٰءيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في العلم (60، 96)، ومسلم في الطهارة (241) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[2] أخرجه أحمد (4/33)، وأبو داود في الطهارة (142)، والترمذي في الصوم (788)، والنسائي في الطهارة (87)، وابن ماجه في الطهارة (407) من حديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (80)، وابن خزيمة (150، 168)، وابن حبان (1054، 1078، 4510)، والحاكم (7094)، والنووي في شرح صحيح مسلم (3/105)، وابن حجر في الإصابة (5/685)،
[3] حديث المسيء في صلاته أخرجه البخاري في الأذان (757، 793)، ومسلم في الصلاة (397) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] أخرجه الترمذي في كتاب النكاح (1084)، وابن ماجه في كتاب النكاح (1967) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الحاكم (2/164-165), وتعقبه الذهبي بأن فيه عبد الحميد بن سليمان قال فيه أبو داود: "كان غير ثقة"، وفيه أيضًا ابن وثيمة لا يعرف، ثم اختلف في إسناده، فنقل الترمذي عن البخاري أنه يرجح انقطاعه، ولكن للحديث شواهد يتقوّى بها، ولذا حسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1022).
[5] أخرجه أحمد (1/391)، وأبو داود في الملاحم (4336) واللفظ له، والترمذي في التفسير (3047)، وابن ماجه في الفتن (4006) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب"، وقد اختلف في إرساله ووصله، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (1105).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: أيّها المسلمون، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إنّ من خصال المنافق خيانةَ الأمانة، ولذا يقول : ((آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتُمن خان))[1]، فلمّا فقد الإيمانَ كان خائنًا لأمانته فيما بينَه وبين الله، وفيما بينه وبين عباد الله. كم خان المنافقون أماناتِهم، وكم شمَتوا بالمسلمين، وكم أرجفوا برسول الله وصحابتِه الكرام، وكم قالوا وافترَوا، ولكنّ الله لهم بالمرصاد؛ لأنّهم أظهَروا الإيمانَ وأبطنوا الكفرَ المحض، فالخيانة من أخلاقهم، أمّا المؤمنُ فبع+ ذلكَ، الأمانة خلقُه، والخيانة بعيدٌ عنها كلَّ البعد، فلنتّق الله فيما اؤتمنَّا عليه.
أيّها المعلّم، إنّك أمين على ما تقول، وعلى ما تلقِي من دروس، وعلى ما توجِّه به النشء، فالمعلم والمعلّمة أمناء على التلاميذ جميعًا بالتّوجيه والقيام بالواجب والدّعوة إلى الخير والطّريق المستقيم، ليكن المعلّم ولتكن المعلّمة كلّ منهما حريصًا على الخير وساعيًا في تثقيف الأمّة وتوجيهها وإبعادها عن كلِّ ما يخالِف شرعَ الله، من غلوّ غالٍ وجفاء جافٍ وإفراط مفرّط وبعدِ من بَعُدَ عن الهدى.
أيّها المسلم، إنّ نبيّنا قال: ((الخازنُ المسلم الأمين الذي يؤدِّي ما أُمر بأدائه موفَّرا طيّبةً بها نفسه أحدُ المتصدّقَين))[2]، فجعل الأمانة مع القيام بالواجب نوعٌ من الصّدقة وإن كان ذلك عملَه، وتلك وظيفته، لكن لمّا اتقى الله وأدّى الأمانة التي حُمِّلها ودفع ما أُمِر بدفعِه طيّبةً بذلك نفسه صار أحدَ المتصدّقَين، فالحمد لله على فضله. فاتّق الله فيما اؤتُمنت عليه من قليل أو كثير، اتّق الله في أمورك كلّها، فإنّك حامل لتلك الأمانة، فاسعَ في حفظِها، لتلقى الله وأنت من المحافظين عليها، لتلقى الله وأنت من أهل الأمانة الصّادقة.
جعلني الله وإياكم ممّن أدّى الأمانة التي أُمر بأدائها، إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
أيّها المسلم، إنَّ مِن الأمانة إعطاءَ العمّال الضعفاء حقوقَهم، وعدمَ التلاعب والتهاون بذلك، فالعمّال الأجراء عندك هم [أمانة] تحت يدك، أنت مسؤول عن حقوقهم وواجباتِهم، فإن أخللتَ بشيء أو ماطلت بشيء أو حاولتَ التهرُّب أو النقص أو الإساءة فاعلم أن يد الله فوق يدك، واتق الله، ولا تبخَس الناسَ أشياءهم، وأعطِ الناسَ حقوقَهم، أعطِ العامل أجرَه، أعطه حقوقه وإيّاك والتهاونَ وعدم المبالاة بحجّة ضعفهم وقدرتِك على التهرّب وقدرتك على الروغان، اتّق الله في نفسك، وأعطِ الناس حقوقهم، فتلك أمانة اللهُ سائلك عنها، إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَـٰنَـٰتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58].
اللهمَ أعزّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحّدين، واجعل اللهمّ هذا البلد آمنًا مطمئنًا وسائر بلاد المسلمين يا ربّ العالمين.
اللهمّ ارضَ عن خلفاء نبيك الطيّبين الطاهرين، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر أصحاب نبيّك أجمعين، وعن التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيّكم محمّد كما أمركم بذلك ربكم: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد...
[1] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الزكاة (1438)، ومسلم في ال+اة (1033) من حديث أبي موسى رضي الله عنه.
| |
|