molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: خطورة البدع وأهلها- عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:19:31 | |
|
خطورة البدع وأهلها
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أمَّا بَعد: فَإِنَّ أَصدَقَ الحدِيثِ كِتَابُ اللهِ تَعَالى، وخيرَ الهديِ هَديُ مُحمدٍ ، وَشَرَّ الأمورِ مُحدثاتُهِا، وَكُلَّ مُحدثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ، وَكلَّ ضَلاَلَةٍ فِي النَّارِ.
وَبَعْدُ: أَيُّهَا النَّاسُ، فَلَقَد كَانَ رَسُولَ اللهِ يَفْتَتِحُ مَوَاعِظَهُ وَخُطَبَهُ وَكَلاَمَهُ لأصْحَابِه بِهَذِه الخُطْبَةِ العَظِيمَة الَّتِي تُسَمَّى خُطْبَةَ الحَاجَةِ، كَانَ يُعَلِّمُهَا أَصْحَابَهُ فِي شَأنِهمْ كُلِّهِ؛ وَلهذَا قَالَ شَيخُ الإسلاَمِ ابنُ تَيْمِيَّة رَحَمِهُ اللهُ: "إِنَّ هَذِهِ الخُطْبَةَ عِقدُ نِظَامِ الإسلاَمِ وَالإِيمَان". وإنْ كانَ عَجِيبٌ فَعَجَبًا أنَّ هَذِه الخُطْبَةَ كَانتْ سَببًا لِحَقْنِ دِمَاءِ قَومٍ مِنَ العَرَبِ وَدُخُولِهم فِي الإسلاَمِ.
رَوَى الإمَامُ مُسلمٌ في صَحِيحِه عَنْ ابن عَباسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا أنَّ ضِمَادَ بنَ ثَعلَبةَ قَدِم مَكَّةَ وَكَانَ مِن أزدِ شَنُوءةَ، وَكَانَ يَرقِي مِنْ هَذهِ الرِّيحِ ـ وَهو نَوعٌ مِنْ المرَضِ ـ، فَسمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أهلِ مكَّةَ يقولُون: إنَّ محمدًا مجنونٌ، فقالَ ضِمَادُ: لَو أَنِّي أَتيتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ أنْ يَشفيَهُ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ: فَلَقِيَهُ فَقَال: يَا مُحمَّدُ، إِنِّي أرْقِي مِنْ هَذهِ الرِّيحِ، وَإنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدَيَّ مَنْ شَاءَ، فَهلْ لَكَ أنْ أرقِيَكَ؟ فقال رسول الله : ((إِنَّ الحمدَ لِله، نَحْمَدُهُ وَنَستَعِينُهُ، مَن يهدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهْ، وَأشهَدُ أَنْ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ وحَدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهَ، وَأشهدُ أَنَّ محمَّدًا عبدُه وَرسُولُهُ، أمَّا بعدُ))، قَالَ: فَقَالَ ضِمَادُ: أعِدْ عليَّ كَلِماتِكَ هؤلاءِ ، فأعادَهُنَّ عليهِ رسولُ اللهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، قال: فقالَ ضِمادُ: لَقَدْ سَمعتُ قَولَ الكَهَنَةِ وَقولَ السَّحَرَةِ وقَولَ الشُّعَراءِ، فَمَا سَمِعتُ مِثلَ كَلَماتِكَ هَؤلاءِ، وَلقَدْ بَلَغَتْ نَاعُوسَ البَحرِ ـ يَعنِي أَنَّ بَلاغَةَ كَلاَمِكَ وَصَلتْ إلى قَعرِ البَحرِ مِنْ رَوْعَتِهَا ـ، ثُمَّ قَالَ ضِمَادُ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايعكَ عَلَى الإسلاَم، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسَولُ اللهِ : ((وَعَلَى قَومِكَ))، قَالَ ضِمَادٌ: وَعَلَى قَومِي، قَالَ: فَبَعَثَ الرَّسُولُ سَرِيَّةً فَمَرّوا بقَومِهِ فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ للجَيشِ: هَل أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤلاءِ شيئًا؟ فَقَالَ رَجلٌ مِنَ القَومِ: أصَبتُ مَطهرَةً، فَقَال: رُدَّهَا فَإِنَّ هَؤلاءِ قَومُ ضِمَادَ.
عِبادَ الله، إِنَّ خُطبَةً بَلَغَتْ هَذِهِ المَنْزِلَةَ جَدِيرَةٌ أن يُعِيدَ الْمرءُ النَّظَر في مَضَامِينِها وَمَا اشْتَمَلَت عَليهِ، إنَّهَا حَوَتْ عُيونَ المَدْحِ وَالثَّناءِ عَلَى اللهِ خَالِقِ الأرضِ وَالسَّمَاءِ، تَضَمَّنَتْ عُبُودِيَّةَ المرْءِ وَحَاجَتَهُ إِلى إلَههِ وَمَعْبُودِهِ وَاسْتِعَانَتَهُ بِه فِي كُلِّ أُمُورِهِ وَجَميعِ شُؤُونِه، لَقَدْ طُرِّزَتْ هذِهِ الخُطبَةُ بِثَلاثِ آيَاتٍ جَامِعَاتٍ للوصِيَّةِ بِتَقَوى اللهِ سُبْحَانَهُ الَّتِي هِيَ مِنْ أَجلِّ الوَصَايا؛ لأنَّ مَنْ اتَّقَى اللهَ خَافَ مِنهُ وَحَذِرَ بَطْشَهُ. إنَّ هَذِهِ الخُطْبَةَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ جَاءتْ لِتَقْرِيرِ أصْلَينِ عَظِيمَينِ هُمَا قُطبُ رَحَى الإسْلاَمِ وَعِمَادُهُ: الإقَرارُ لِلهِ سُبْحانَهُ باِلتَّوحِيدِ الَّذيِ يُوجِبُ الإِخْلاَصَ لَهُ فِي كُلِّ الأُمُورِ، وَالشَّهَادَةُ لمحمَّدٍ بالرِّسَالةِ التي تُوجِبُ مُتَابَعَتَهُ في كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبيرٍ.
عِبادَ اللهِ، إنَّ تَكرَارِ النبيِّ لِهذِهِ الخُطْبةِ في أمُورٍ كَثيرةٍ وَتَعْليمهِ لأصْحَابِهِ لَها كَمَا ورَدَ ذَلِكَ عَنِ ابن مَسْعودٍ قَالَ: عَلَّمَنا رَسُولُ اللهِ خُطْبَةَ الحاجةِ فِي النِّكَاحِ وَغَيرِه، ثُمَّ ذََكَرهَا. رَوَاه أحمدُ وَأبو داودَ والنَّسَائِيُّ وَغيرُهم. كُلَّ هَذا يُوجِبُ التَّأملَ في المَقصُودِ مِنْهَا.
ألا وَإنَّ مَما ظَهرَ وَاضحًا في هذه الخُطبَةِ تَحذيرُه مِنَ البِدَعِ وَالإحدَاثِ في الدِّين، يَقولُ سُبْحَانَه وَتَعَالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة: 3].
يَقُولُ ابنُ كَثِيرٍ فِي تَفسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "هَذِهِ أَكبرُ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ الأمَّةِ، حَيثُ أَكْمَلَ لَهمْ دِينَهُمْ، فَلاَ يَحْتَاجُونَ إِلى دِينٍ غَيرِهِ، وَلاَ إِلى نَبيٍّ غَيرِ نَبِيِّهم، وَلهَذََا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالى خَاتَمَ الأنبِيَاءِ، وَبَعَثَهُ إِلى الإِنسِ وَالجِنِّ، فَلاَ حَلاَلَ إلاَّ مَا أَحَلَّهُ، وَلاَ حَرَامَ إلاَّ مَا حَرَّمَهُ، ولاَ دِينَ إلاَّ مَا شَرَعَهُ، وَكُلُّ شَيءٍ أَخَبَر بِهِ فَهُو صِدْقٌ وَحَقٌّ لاَ كَذِبَ فِيه وَلا خُلْفَ، كَمَا قَالَ تَعَالىَ: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً [الأنعام: 115]، أي: صِدْقًا في الأَخبَارِ وَعدْلاً فِي الأَوَامرِ وَالنَّوَاهِي، فَلمَّا أَكمَلَ لَهمُ الدِّينَ تَمَّتْ عَلَيهمْ النِّعْمَةُ".
أَيُّها النَّاسُ، إِنَّ البِدَعَ أَصلُ كُلِّ بَلاءٍ وَفتْنَةٍ، وَإِنَّ الشَّيطَانَ هُوَ أَوُّلُ الدَّاعِينَ إِليهَا، وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء: 119]. البِدَعُ هَدمٌ لأَسَاسِ الدِّينِ وَعَمُودِهِ وَهُوَ الإِخلاَصُ لِلهِ سُبْحَانَهُ والمُتَابَعَةُ لِرَسُولِهِ، يَقُولُ عُمَرُ بنُ عَبدِ العَزِيزِ: "سَنَّ رَسُولُ اللهِ وَخُلَفَاؤهُ مِنْ بَعْدِهِ سُنَنًا؛ الأَخذُ بِهَا تَصْدِيقٌ لِكِتَابِ اللهِ وَاسْتِكْمَالٌ لِطَاعَةِ اللهِ وَقُوَةٌ عَلَى دين اللهِ، لَيسَ لأَحَدِ تَغْييرٌ فِيهَا، وَلاَ النَّظَرُ فِي رَأي يُخَالِفُهَا، مَنِ اقْتَدَى بِهَا فَهُوَ مُهْتَدِي، وَمَنْ خَالَفَهَا وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِهَا وَلاهُ اللهُ مَا تَوَلَّى وَأَصَلاَهُ جَهَنِّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا".
البِدَعُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ كُلُّ مَا أُحدِثَ فِي الدِّينِ مِنْ طَرِيقَةٍ يُقْصَدُ بِهَا التَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ تَعَالى، وَهِيَ فِي ذَاتِهَا مُضادَّةٌ لِغَيرَِها مِنَ العِبَادَاتِ.
البِدَعُ تَبدأُ صَغِيرَةً يَسْتَهينُ بِهَا النَّاسُ، ثُمَّ تَكْبرُ حَتَّى تُصْبِحَ عِنْدَ النَّاسِ مِنَ المُسَلَّمَاتِ، يَقُولُ عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ أيضًا في خُطْبَةٍ خَطَبَهَا لَمَّا تَولَّى الخِلاَفَةَ: "أَلاَ وَإنِّي أُعَالِجُ أمرًا لاَ يُعِينُ عَلَيهِ إلاَّ اللهُ، قد فَنِيَ عليه الكَبيرُ وَكَبُرَ عَليهِ الصَّغيرُ، وَفصَحَ عَليهِ الأعْجَمِيَّ وَهَاجَرَ عَليهِ الأعرَابيُّ، حَتَّى حَسِبُوهُ دِينًا لاَ يَرونَ الحَقَّ غَيرَهُ".
أيُّهَا النَّاسُ، البِدَعُ والمحدَثَاتُ وَاقِعَةٌ في الأمَّةِ كَمَا أخبرَ نَبِيُّنا ، فَإِنَّهُ أخبرَ أَنَّ هَذِه الأمةَ ستَسيرُ على ما سارَ عليه اليهودُ والنَّصَارَى، وَإنَّمَا ضَلَّ أُولَئِكَ حينَ زَيَّن لهم الشَّيطَانُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقصَ عَلَى حَسَبِ أَهوَائِهم.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَالإِمَامُ أَحمدُ وَابنُ أبي عَاصِمٍ عَن أبِي وَاقِدٍ الليثيِّ قَالَ: خَرَجنَا مَعَ النَّبيِّ قِبَلَ حُنَيْنٍ وَنَحنُ حَدِيثُو عَهدٍ بكُفرٍ وَلِلمُشْرِكينَ سِدْرَةٌ يَعْكُفُونَ حَولَها ويَنُوطُونَ بها أَسلحَتَهم يُقَالَ لَها: ذَاتُ أَنوَاطٍ، فمَرَرَنَا بِسِدرَةٍ فَقلنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْواطٍ كما لهم ذاتُ أنْواطٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((اللهُ أكبرُ! هَذَا كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: اجْعَل لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138]، لَتَركَبُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لَو دَخَلَوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوه))، قَالُوا: مَنْ هُم يا رَسُولَ اللهِ؟ قال: ((اليَهُودُ والنَّصَارَى)).
عِبادَ اللهِ، إِنَّ البدَعَ تَشوِيهٌ لِجَمالِ الدِّينِ وَطَمسٌ لِمَعَالمِ السُّنَنِ وَحيْلُولَةٌ بيَنَ النَّاسِ وَبَينَ دِينهِم الصَّحِيحِ. إِنَّ أصحَابَ البِدَعِ منذُ أَنَّ ابتَدَؤُوا بِخُروجِ الخَوَارجِ عَلَى عَثْمَان إِلى وَقْتنَا هَذَا مِنَ الصَّعْبِ حَصْرُهُمْ أَو الكَلاَم عَلَى جَمِيعِهم، وَلَكِنْ يَكْفِي أَنْ نَعْلَمَ أَنَّهُ يَجْمَعُهم صِفَتَانِ:
الأُولَى: الخُرُوجُ عَنْ مَنهَجِ السَّلَفِ الصَّالحِ في السَّيرِ عَلَى الدَّليلِ، يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ ابنُ تَيْميَّةَ رَحمَهُ اللهُ: "وأَمَّا أَهلُ البِدَعِ فَهُم أَهلُ أَهوَاءٍ وَشُبُهَاتٍ، يَتَّبِعُونَ أَهَوَاءهُم فِيمَا يُحبُّونَهُ وَيُبْغِضُونَهُ، وَيَحكُمُونَ بِالظَّنِّ وَالشُّبَهِ، فَهُم يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ وَمَا تَهوَى الأَنْفُسُ، وَلَقَد جَاءهُمْ مِنْ رَبهمْ الهُدَى، فَكُلُّ فَرِيقٍ مِنهُمْ قَدْ أَصَّلَ لِنَفْسِهِ أَصْلَ دِينٍ وَضَعَهُ؛ إِمَّا بِرَأيهِ وَقِياسِهِ الَّذِي يُسَمِّيهِ عَقْلِياتٍ، وَإِمَّا بذَوقِهِ وَهَواهُ الَّذي يُسَمِّيهِ ذََوقيَّاتٍ، وَإمَّا بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ القُرآنِ وَيُحرِّفُ فيهِ الكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيقُولُ: إِنَّمَا يَتَّبِعُ القُرآنَ كالخَوارِجِ، وإِمَّا بِمَا يَدَّعِيهِ مِن الحدِيثِ وَالسُّنَّةِ وَيَكُونُ كَذِبًا وَضَعِيفًا كَمَا تَدَّعِي الرَّوَافِضُ مِنَ النَّصِّ وَالآياتِ، وَكَثيرٌ مِمَّنْ يَكُونُ قَد وضَعَ دِينَهُ بِرَأْيِهِ أَو ذَوقِهِ يَحْتَجُّ مِنَ القُرآنِ بِمَا يَتأوَّلُهُ عَلَى غَيرِ تَأوِيلِهِ، ويجعَلُ ذَلك حُجَّةً لاَ عُمدةً، وَعُمدتُهُ فِي البَاطِنِ عَلَى رَأيهِ" اهـ.
وَيَقُولُ الشَّاطِبيُّ رحمهُ اللهُ: "لاَ تَجدُ مُبْتَدِعًا مِمَّنْ يَنتسِبُ إِلى المِلَّةِ إِلاَّ وَهُو يَسْتَشْهدُ عَلى بِدْعَتِهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ، فَيُنْزِلهُ عَلَى مَا وَافَقَ عَقْلَهُ وَشَهْوَتَهُ"، وَيقَولُ ابنُ أَبِي العِزِّ: "كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أرْبابِ البِدَعِ يَعْرِضُ النُّصُوصَ عَلَى بِدْعَتِهِ وَمَا ظَنَّهُ مَعْقُولاً، فَمَا وَافَقَه قَال: إِنَّهَ مُحْكَمٌ وَقَبِلَهُ واحْتَجَّ بِهِ، وَمَا خالَفَهُ قَالَ: إِنُّه مُتَشَابِهٌ ثُمَّ رَدَّهُ، وَطَرِيقَةُ أَهلِ السُّنَّةِ أَن لاَ يعدِلُوا عَنِ النَّصِّ الصَّحِيحِ وَلاَ يَعَارِضُوهُ بِمَعْقولٍ وَلاَ قَولِ فُلاَنٍ" اهـ.
اللَّهمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ، وَالحمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
الخطبة الثانية
أمَّا بعدُ: فَإِنَّ الصِّفَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي تَجْمَعُ أَهْلَ البِدَعِ هِيَ الخُرُوجُ عَنْ جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ، وَيَتَمَثَّلُ ذَلِكَ فِي الخُرُوجِ عَلَى إِمَامِ المُسْلِمِينَ وَمَنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ، وَلَو تَأَمَّلتُم ـ عِبادَ اللهِ ـ فِرَقَ أهْلِ البِدَعِ والضَّلاَلِ مِنْ عَهدِ الخُلَفَاءِ الرَّاشدِينَ إلَى وَقْتِنَا هَذَا لَوَجَدْتُّمُوهُم بَدَؤوا أَوّلاً بِلبَاسِ الدِّين وَالتَّجْديدِ وَإحْيَاءِ الإسْلاَمِ مِنْ رَقْدَتِهِ وَمُوَاكَبَتهِ لِلأُمَمِ الأُخْرَى، حَتَّى إذَا قَوِيَ عُودُهَا وَاشْتَدَّ سَاعِدُهَا أظْهَرَتْ هَدَفَهَا وَهُو الخُروجُ عَلَى السُّلْطَانِ.
وَلَكم أَنْ تَعْجَبُوا كَيفَ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يُبَايعُ أَصْحَابَهُ فِي بِدَايَةِ إسْلاَمِهمْ عَلَى أمَرٍ لاَ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ في عَهْدِهِ، وَهُو الإِقْرَارُ بالجَمَاعَةِ وَعَدَمِ الخُرُوجِ عَلَيهَا، مَا فَعَلَه إلاَّ إشَارَةً إلى وُقُوعِهِ فِيمَا بَعْدَهُ. جَاءَ فِي الصَّحِيحين وَغَيرهِمَا عَنْ عُبادَةَ بن الصَّامِتِ قال: بَايعنَا رَسولَ اللهِ عَلَى السَّمعِ والطَّاعَةِ في المَكْرَهِ وَالمنْشَطِ وَالعُسْرِ وَاليُسرِ وَالأَثَرَةِ عَلَينَا وَأن لاَ نُنَازِعَ الأمْرَ أَهلَهُ، وَفِي روَايةٍ: وَعَلَى أنْ نَقُولَ الحقَّ أينَمَا كنا لا نَخَافُ في اللهِ لَومَةَ لاَئِمٍ. يَقَولَ العُلَيمِي رَحمَه اللهُ: "إِنَّ أصْحَابَ الأَهْوَاءِ مِثلَ العَقَارِبِ، يَدْفِنُونَ أَجسَامُهمْ وَأَيدِيهمُ فِي التَّراب وَيُخْرجُونَ رُؤوسَهُمْ، فَإِذَا تَمَكَنُوا لَدَغُوا، وَكَذِلِكَ أَهلُ البِدَعِ هُمْ مُخْتَفُونَ بَينَ النَّاسِ، فإِذَا تَمَكنُوا بَلَغُوا مَا أرَادُوا".
عِبادَ اللهِ، لاَ يَقْوَى أَمرُ البِدَعِ وَأهْلِهَا إلاَّ إذَا تَوفّرَ لَها سَبَبَانِ:
أَوَّلُهمَا: قِلَّةُ العُلَمَاء واندِثَارُهُم أو سُكُوتُهم عَنْ تَبِليغِ الحَقِّ وَالإِنكَار عَلَى البَاطِل، عِنْدئِذٍ تَصِيرُ البِدَعُ وَكَأَنَّهَا مْقَرَّرَاتٍ وَشَرائع مُحَرَّرَاتٍ، يَقُولُ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِه البِدَعُ: "مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَيسَ بِعَالمٍ فَضَلَّ وَأَضَلَّ".
نَعم أَيُّهَا النَّاسُ، تَكَلَّمَ فِي الدِّينِ الطَّبِيبُ وَالمُهَنْدِسُ وَالبَيطَرِيُّ، وَصَارَتْ الفَتوى عُرضَةً لِكُلِّ نَاعِقٍ. وَلَقد أَخْبَرَ عَنْ أَثَرِ فُقدَانِ العُلَمَاءِ وَمَوتِهم وَمَا يُحْدِثُ ذَلِكَ مِنَ الفَجْوَة فِي الدِّينِ.
وَثَانِي الأَمْرَينِ اللَّذَين يَزِيدَانِ مِنِ انْتِشَارِ البِدَع: اتِّصَالُ النَّاسِ بأمَمِ الكُفْرِ وَالإِلْحَاد اتِّصَالاً يَجْعَلُهمْ يَبْتَعدُونَ عَنِ دِينِهم، وَخُذُوا مِثَالاً عَلَى ذَلِكَ بِدْعَةَ القَولِ بِخَلقِ القُرآنِ، بِدْعَةٌ تَشْمَئزُّ مِنْهَا الفِطَر، قَالَ العُلَمَاءُ: إِنَّ وُقُوعهَا كان بعَدَ أَنْ تَرْجَمَ المَأمَونُ كُتَبَ اليُونَانِ وَانْتَشَرتْ بَينَ النَّاسِ. وَمَا أَظُنُّ اتِّصَالاً وَقَعَ فِيمَا مَضَى كَاتِّصَالِ النَّاسِ اليومَ بَعضِهم بِبَعضٍ، وَلَكِنْ يأبَى اللهُ إلاَّ أنْ يَكُونَ البَقَاءُ لِدِينهِ فَقَط.
بَقِيَ أنْ تَعْلَمُوا ـ أيُّها النَّاسُ ـ أنَّ أَهلَ البِدَعِ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ تَمسُّكًا بآرَائهم وَدِفَاعًا عَنْهَا، وَهُم مِنْ أَكْسَلِ النَّاسِ عَنِ الطَّاعة وَأكثرِهمْ بُغْضًا للسُّنَّةِ، وَأمَّا نَشَاطُهم في إحْيَاء بِدْعَتِهم فَيَقَولُ تَعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية: 2، 3]، يَقولُ ابن كثيرٍ: "هَذِه عَامَّةٌ فِي كَلِّ مَنْ عَبدَ اللهَ عَلَى غَيرِ طَرِيقِ الحَقِّ، يَحسب أَنَّه مصِيبٌ فِيهَا وأن عَمَلهُ مَقُبولٌ وَهُوَ مخطِئٌ وَعَمله مَردُودٌ".
عباد الله، إن الله وملائكته يصلون على النبي...
| |
|