molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: من حسن إسلام المرء - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:12:03 | |
|
من حسن إسلام المرء
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أما بعد: فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ حقّ التقوى، واعلموا أن الله قد أحاط بكل شيء علما.
عباد الله، من أعظم ما منّ الله به على ابن آدم وميّزه به على سائر الحيوان أن خصّه بلسان يتكلّم به، أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ [البلد:8، 9]، وما أصغر حجم اللسان، ولكن ما أعظم أثره على الإنسان، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18].
ولقد جعل الله عز وجل الحذر من اللسان والتحفّظَ منه من علامات حسن إسلام العبد المؤمن، فروى الإمام الترمذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)).
فهذا الحديث أصل عظيم من أصولِ الأدب، يقول ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله: "جماع آداب الخير وأزمَّتُه تتفرّع من أربعة أحاديث"، وذكر منها هذا الحديث.
عباد الله، إنّ من حسُن إسلامُه ترَك كلَّ ما لا يعنيه من قولٍ أو فعل، واقتَصَر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال، وليس المراد أن يتركَ الإنسان ما لا يعنيه بحكم الهوى وطلب النفس، بل بحكم الشّرع والإسلام، ولهذا جعله من حسنِ الإسلام، فإذا حسن إسلام المرء ترك ما لا يعنيه في الإسلام من الأقوال والأفعال.
يقول ابن رجب رحمه الله: "وأكثر ما يراد بترك ما لا يعني حِفظُ اللسان من لغو الكلام، وفي المسند من حديث الحسين رضي الله عنه أن النبي قال: ((إنّ من حسن إسلام المرء قلّة الكلام فيما لا يعنيه))، ويقول أبو الدرداء: (من فقه الرجل قلّة كلامه فيما لا يعنيه)، وروى الخرائطي أن رجلاً أتى النبي فقال: يا رسول الله، إني مطاع في قومي، فما آمرهم؟ قال: ((مرهم بإفشاء السلام وقلّة الكلام إلا فيما يعنيهم))، ولقد قال عمر بن عبد العزيز: من عدّ كلامه من عمله قلّ كلامه فيما لا يعنيه، وهو كما قال رحمه الله فإن كثيرًا من الناس لا يعدّ كلامه من عمله، فيجازف فيه ولا يتحرّى؛ ولهذا خفي هذا الأمر على معاذ رضي الله عنه حتى سأل عنه النبي فقال: أنؤاخَذ بما نتكلم به؟! فقال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي، ويقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (تعلموا الصمت كما تتعلمون الكلام، فإن الصمت حكم عظيم، وكن إلى أن تسمع أحرصَ منك إلى أن تتكلّم، ولا تتكلّم في شيء لا يعنيك، ولا تكن مضاحكًا من غير عجب، ولا مشّاءً إلى غير أرب) يعني إلى غير حاجه، ويقول الحسن البصري رحمه الله: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه؛ خذلانًا من الله عز وجل له".
عباد الله، كم من كلمة قالت لصاحبها: دعني، كم من كلمةٍ سلبت نعمةً وجلبت على صاحبها نقمة. إن الكلمة إذا خرجت لا يمكن استردادها، وقد يصعب تدارك خطرها، الملائكة كتبوا، والناس سمعوا، والمرجفون علقوا وشرحوا وزادوا، وأنت وحدك الذي تتحمل كل هذه التبعات، لذلك يقول النبي : ((إنّ العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبيّن فيها يهوي بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب)) رواه مسلم، وروى البخاري: ((إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم)). يقول مورق العجلي: أمرٌ أنا في طلبه منذ كذا وكذا سنة لم أقدر عليه، ولست بتاركٍ طَلَبَه ما بقيت، قالوا: وما هو؟ قال: الكفّ عما لا يعنيني.
أيها الناس، لقد جعل الله من أوصاف عباده المؤمنين أنهم لا يتكلّمون باللغو وهو ما لا يعني: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، ثم قال سبحانه: وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:1-3].
الله سبحانه طيب، لا يقبل إلا طيبًا، ويحب الطيب من القول، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، ولقد أمر الله عباده أن يخاطبوا بأحسن القول: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا [البقرة:83].
عباد الله، إن المؤمن متى استشعر قرب الله منه واطلاعه عليه قلّ كلامه في غير طاعة الله، قال بعضهم: "إذا تكلمتَ فاذكر سمع الله إليك، وإذا سكتّ فاذكر نظرَ الله إليك"، ويقول ابن القيم رحمه الله: "من العجَب أن الإنسان يهون عليه التحفّظ والاحتراز من أكل الحرام والسرقة وشرب الخمر ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، حتى ترى الرجل يشار إليه بالدين أو بالزهد أو بالعقل وهو يتكلم بالكلمات من سخط الله لا يلقي لها بالاً".
فاتقوا الله عباد الله، وكونوا على حذر مما تقولون، فإن الله لا تخفى عليه خافية، وكل كلام تقوله فهو يعلمه، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61]، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19]، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرشد أمته إلى الطيب من القول وحذرهم من قول الزور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم النشور، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، فإن تقوى الله هي الواقية لجوارح المرء عن كل ما لا يعنيه.
عباد الله، لقد نفى الله سبحانه الخير عن كثير من كلام الناس: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء: 144]، روى الترمذي وابن ماجه من حديث أم حبيبة رضي الله عنها أن النبي قال: ((كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذكر الله عز وجل))، وقد تعجّب قوم من هذا الحديث فعن سفيان الثوري قال: "وما يعجبكم من هذا؟ أليس الله يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ [النساء:114]؟! أليس الله يقول: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا [النبأ:38]؟!".
عباد الله، كم من مجالس عقدت وولائم نصبت وليالٍ قد مضت كلها على كلام لا حاجة للإنسان فيه، بل عليه وزره، وإن المرء ليعجب من حبّ الناس للحديث في أمور نجّى الله أيديهم وأرجلهم منها، وأبوا مع ذلك إلا أن يتحدثوا فيها.
يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: (أنصِف أذنيك من فمك، فقد جعل الله لك أذنين وفمًا واحدًا؛ لتسمع أكثر مما تقول)، ويقول أحد السلف: "إن الرجل ليتكلم في ساعةٍ ما يعجز عنه في شهر".
ما أحوجنا ـ عباد الله ـ إلى أن ننظر في حالنا وفي مجالسنا بأيّ شيءٍ نمضيها، فوالله لنُسألنَّ عنها: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النور:24].
ألا وصلوا ـ عباد الله ـ على رسول الهدى وإمام الورى، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
| |
|