molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: لزوم الجماعة - عبد الرحمن السديس إمام الحرم الأربعاء 30 نوفمبر - 9:34:56 | |
|
لزوم الجماعة
عبد الرحمن السديس إمام الحرم
الخطبة الأولى
أمَّا بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله؛ فبالتقوى ينقادُ للأمَّة ما استعصَى والتوَى، ويتَحقَّقُ لكلِّ فردٍ من الخير ما انتَوى، والزَموا -رحمكم الله- حِياضَ الجماعة؛ فإنها نعمتِ الآصِرةُ أوان الفتن وفي كلِّ ساعة، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 52].
أيّها المسلِمون، في هذا الأوانِ الَّذي تلاطمَت أمواجُه، وامتَزَجَ حُلوهُ وأُجاجُه، ورفَعَت فيه الفتنُ أجيادَها، واستَنفرَت أجنادَها؛ تبرُزُ قضيّةٌ سنيَّةٌ عريقة، بلجاءُ وريقَة، هي مِن ضرورات الدّين ومُحكَماته، وأصوله ومُسلَّماته، كما هي من أساس الأمن والاطمئنان، ودعائمِ الحضارةِ والعمران؛ بل هي مِعراجٌ لبلوغ مرضاةِ الديَّان، وخيرُ عنوانٍ لسلامة الأديان. وتلكم القضية -يا رعاكم الله- ما استَمسَكَت بها أمةٌ إلا أفلَحَت وقادَت، وبلغَت الأوجَ وسادَت، وكانت شجًى في حُلوقِ عِداتها، وقذًى في عيون لِداتها.
وبرهان ذلك النظرُ والأثر وما سطَّره التأريخ بشاهد الصدق من الخبر، إنها شعيرةُ لزوم الجماعة، وما تقتضيه من السمع والطاعة.
يقول عزَّ من قائل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103]، قال ابنُ مسعودٍ : (حبلُ الله هو الجماعة)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((لن تجتمِعَ أمَّتي على ضلالة، فعليكم بالجماعة؛ فإنَّ يدَ الله على الجماعة)) أخرجه الترمذي والطبراني بإسنادٍ صحيح. وما ذلكم -يا عبادَ الله- إلا لأنَّ الخروج عن الجماعة والشذوذَ عن الطاعة يُمزِّقُ الشملَ النظيمَ بددًا، ويُحيلُه طرائق قِددًا.
معاشرَ المسلمين، وفي وَبيلِ عاقبةِ من مات مارقًا، ولأهل الاعتصامِ والجماعَة مُفارِقًا، يقول فيما يرويه أبو هريرةَ : ((من خرجَ عن الطاعةِ وفارق الجماعةَ فمات ماتَ ميتةً جاهليّةً، ومن قاتل تحت رايةٍ عُمِّيّة، يغضبُ لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصُر عصبية، فقُتِل فقِتلَتُه جاهليّة، ومن خرج على أمتي يضربُ برَّها وفاجِرَها، لا يتحاشَى من مؤمِنِها، ولا يفِي بعهدِ ذي عهد؛ فليس مني ولستُ منه)) أخرجه مسلم وغيره.
إخوةَ الإيمان، وامتثالاً لهذهِ الشعيرةِ السامية فقد تحقَّق بها الأسلافُ الكرامُ في ذَوَاتهم، ودعَوا إليها في مجتَمَعاتهم، ونصُّوا علَيها في مُصنَّفاتهم، يقول الإمام الطحاويُّ رحمه الله: "ونرَى الجماعةَ حقًّا وصَوَابًا، والفُرقَةَ زيغًا وعذابًا"، وفي الأثر عن ابنِ مسعود أنه خطب الناس فقال: (إنَّ الذي تكرهون في الجماعة خيرٌ ممّا تحبّون في الفُرقة).
فمن شقَّ عصا الطاعة وتنصَّل من الجماعة زلَّ وزَلَج، وما أفلحَ ولا فلَج؛ بل أوبقَ نفسَه وهوى، وأسلم أرسانَه لمُردِيات الهوى، يقول : ((ثلاثةٌ لا يغِلُّ عليهنّ قلبُ امرئٍ مسلمٍ: إخلاصُ العمل لله، ومناصحةُ ولاة الأمر، ولزومُ جماعةِ المسلِمين)) أخرجه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم وصحَّحه.
وفي معنى ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ثمّ إنَّ الاعتصامَ بالجماعة والائتلافَ أصلٌ من أصول الدين"، ويقول العلامة ابن القيِّم رحمه الله: "ولزومُ الجماعة مما يُطهِّر القلبَ من الغلِّ والغش؛ فإنَّ المسلم للزومه جماعةَ المسلمين يحبُّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكره لهم ما يكرَه لها، بخلاف من انحازَ عنهم، وانشغَل بالطعن عليهم والذمِّ لهم" انتهى كلامُه رحمه الله.
أمّةَ الإسلام، ولن تَلتَئِم من الأمّةِ مصالحُها وتتَحقَّق مناجحُها إلا بالجماعَةِ، ولا جماعةَ إلا بإمَامٍ، ولا إمامَ إلا بسمعٍ وطاعَة؛ عن عُبادةَ بنِ الصامت قال: بايَعنَا رسولَ الله على السمعِ والطاعةِ، في العُسر واليُسر، والمنشَط والمكرَه، وعلى أثَرَةٍ عَلَينا، وعلى أن لا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه. رواه الشيخان. وفي سُلطة الإمام وأمره وبليغ نهيِه وزجره يقول أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله يَزَعُ بالسلطانِ ما لا يزَعُ بالقرآن). ولله درُّ الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله حيث يقول:
إن الجماعة حبلُ الله فاعتصِموا منه بعُروته الوُثقى لمن دانَا
كم يدفعُ الله بالسلطانِ مُعضِلةً في دينِنا رحمةً منه ودُنيانَــــا
لولا الإمامةُ لم تُؤمَن لنــــــا سُبُلٌ وكان أضعفُنا نهبًا لأقوَانــــا
معاشرَ المؤمنين، فأهلُ السّنّة والهدى على الجماعةِ والحقِّ يأتلِفون، ولوُلاتهم سميعون مُطيعون، بكلِّ الحبِّ والاستبشار، دون استنكافٍ أو استكبار، عقيدةً ودِيانةً وعبادَة، لا عُرفًا وعادَة، ووُجوب ذلك مُتأكِّدٌ في كلِّ وقتٍ وحين، لكنَّه زمنَ الفِتَن والأزمات والنوازلِ والمُلِمَّات آكَد وأشدّ، وأوفَقُ وأسَدّ، وما ذاك إلا امتثالاً لما قصَدَه الشارعُ من تحقيق المصالحِ وتكميلِها، ودرءِ المفاسِد وتقلِيلِها؛ كيف وفي الجماعةِ يتحقَّقُ الأمنُ ويتأكَّد، ويعُمُّ الأمانُ ويتَوطَّد، ويزدهِرُ الإنماءُ والإعمَار، وينحسِر الاضطرابُ والبَوَار.
فلِلَّه ثم لله! لله ثم لله! كم للزومِ الجماعة من الفضائل والبركات والآثار السنيَّات! ففي الجماعة: نصرُ الله الخفيّ، وتوفيقُه الحفِيّ، المُتضوِّعُ بأهنى عيشٍ، والمُتحصِّنُ بأقوى جيشٍ؛ إذ هي رابطةُ الأمّة، منعَتُها في قوَّتها، ووهَنُها من ضَعفِها، فيها يعبدُ المسلمُ ربَّه آمنًا، ويدعو إليه تعالى مُؤيَّدًا، المُستضعَفُ في كنَفِها قويّ، والمظلومُ في ميدانها أبِيّ، والظالمُ مُدان، والعاجِزُ في ظلِّها مُعان.
بالجماعة وحُسنِ الطاعةِ فيما يُرضِي المولى سبحانه تعِزُّ الأمَّة وتبقَى، وفي ذُرَى المجدِ تعلُو وترقَى، وبها ت+ُو المقاصِدُ وتتحقَّقُ، وتعُمُّ الرَّحماتُ وتتدفَّق، وتنتَفِي التعصُّبات العِرقيّة والنَّعَراتُ الجاهلية والأهواء الزرِيَّة والحِ+يَّاتُ الردِيَّة.
فيا إخوةَ الإسلام، يا أهلَ المُعتقَد الصحيح والمنهج اللاحِبِ الصريح، استشعِروا جلالَ الأُلفة والجماعة، اللهَ اللهَ في الائتلافِ والائتِساء بما كان عليه الأسلاف، احذروا مِزعَ الآراءِ والأهواء؛ فإنها الشرُّ المُستطير وبِئس الداء، وحيَّهلاً حيَّهلاً إلى لفيفِ الجماعَة، كونوا جماعةً واحِدةً في التمسُّك بسنَّة خيرِ البريَّة عليه أفضل الصلاة والسلام والتحيَّة، جماعةً في العقيدةِ والمنهَج والفِكرِ ورعاية الأمنِ والسلوك، جماعةً في الطموحاتِ والأهدافِ السنيَّة، جماعةً في الأمانةِ والنزاهةِ والمسؤوليّةِ، جماعةً في التراحُمِ والمودَّة والحبِّ، جماعةً فيما يُرضِي ربَّنا ويحِبّ، جماعةً في تعزيزِ الوسطيَّة والاعتدال وترسيخِها مُعتقدًا لدى الأجيال، جماعةً ضدَّ الفُرقة وكلِّ مُنازِع، جماعةً صَوبَ أنبَلِ المنازِع؛ تغنَموا بإذن الله وتنعَموا.
معاشرَ الأحِبَّة الأكارِم، تلك هَتفةٌ تقُضُّ مضاجِعَ الشانِئين، وتُنبِّه عقولَ الغافِين؛ بل هي دَعوةٌ تشُدُّ من أزر الصادقين، وتبعثُ مزيدَ الأملِ والتآصُر في عَزائم أهل الحقّ المُبين؛ للثبات على غَرزِ السنة والجماعَة، وتلكم -وايمُ الحقّ- قاعدةُ الفلاح والصّلاح الرَّصينة، وأسوارُ الأمن والسُّؤدَد الرَّصينة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران: 105].
اللّهمّ بارِك لنا في القرآنِ العظيمِ، وانفَعنا وارفَعنا بهديِ سيِّد المرسلين، وثبِّتنا على السنّة والجماعةِ والصراط المستقيم، وأجِرنا بمنِّك وكرَمِك من العذابِ الأليم، إنك جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي غفورٌ ودود.
الخطبة الثانية
الحمدُ لله، أمَرَ بالائتلافِ والجماعَةِ عدلاً وإِرشادًا، وبُلوغًا لذُرَى الخيريَّة وإسْعادًا، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له شَهادةً نَ+و بها حالاً ومَعادًا، وأشهد أنَّ نبيَّنا محمَّدًا عبد الله ورسوله أبانَ معالم السنة والجماعة، فكان الحقُّ والهدى غايةً ومُرادًا، اللّهمّ فصلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى آله وصحبِهِ البالغين من الترابُط أمجَادًا، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدّين.
أمَّا بعد: فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله حقَّ تُقاته، واجتمِعوا على وحدَتكم وائتلِفوا، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا [آل عمران: 105]، واعلَموا أنَّ أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهدي هدي محمَّد ، وشرَّ الأمور مُحدثاتها، وعليكم بالجماعَةِ؛ فإنَّ يدَ الله مع الجماعَةِ، ومن شذَّ شذَّ في النّار.
إخوةَ الإيمان، ومن آثار السمعِ والطاعةِ وترابُط أهلِ السنّة والجماعةِ ائتلافُ دروبهم، وتوادُدُ قلوبهم، ودَحرُهم للأراجيفِ والشائعات والأباطيل السّافرات من جلاوِزَة الفِتَن وخفافيشِ الإحَن، ممن قال اللّهُ فيهم: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47].
نعم يا عبادَ الله، إنها الفتنةُ بالتّشكيك والإرجافِ، والمُزايَدةِ بيَسير الأخطاءِ وبثِّ الاختلاف، فلا يقرُّ لهم حال ولا ينعمَون بِبَال إلا برفعِ عقيرَتهم لبثِّ الفُرقة ووَأد الائتلاف بكلِّ رُعونةٍ واعتِساف، وإصلاتِ سيف التفريق في صفوفِ الأمّة بكل تنحُّلٍ وانجراف، ذلك دَيدنُهم وهِجِّيراهم، وذاك أرَبُهم ومُنتواهُم، سواءٌ أكان في مجال العقيدةِ أم الفكرِ أم السلوكِ، مُتناسين أنَّ من أبوابِ الخروج على الجماعة مخالفةَ عقيدتها الصحيحة ومنهجها السليم وفكرها القويم وسلوكها المُستقيم، والإخلالَ بأمنها واستقرارها، والعَبَثَ بمُقدَّراتها ومُكتسباتها.
وإنَّك لوَاجِدٌ في المواقع والمُنتَدَيات عبرَ شبكات المعلومات من ذلك عَجَبًا عُجابًا، وما تلك إلا مُديَةٌ يَزعُمُون أنهم يجَؤُونَ بها خَواصِر أهلِ الإسلام في لَيلٍ حالِكِ الدُجُنَّة والظلام، ولكن ثمّ لكن لن تَزيدَ ألسِنةُ الحِقدِ وأقلامُ الحسدِ المؤمنين الصادقين إلا ثباتًا ورُسوخًا وقوَّةً وشموخًا، فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [النساء: 175].
وقد أرشَدَ الرؤوفُ الرحيمُ بأمَّتِه إلى أصلِ العواصِمِ منَ الفتن القواصِم بقولِه في حديثِ حذيفةَ المشهورِ في الفتن: ((تلزمُ جمَاعةَ المسلمين وإِمامَهم)).
اللَّهمَّ ارزُقنا الثباتَ على الإيمان والطاعَة، ولزوم السنة والجماعَة، واعصِمنا من طريقِ أهلِ الفتن والتفريط والإضاعَة، إنك جوادٌ كريم.
هذا؛ وصَلُّوا وسلِّموا -رحمكم الله- على خير الورَى آلاً وصِحابًا، من ألَّف بإذن ربه الأشتاتَ سِمطًا عُجابًا، فغدَوا في العالمين أبهى انتِسابًا، صلاةً تَعبقُ أنسامًا عِذابًا، كما أمركم المولى الجليلُ في مُحكَم التنزيل، فقال تعالى قولاً كريمًا لُبابًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
ونُهدِي صَلاةَ الله خالقِنــــا علــــــى نبيٍّ عَظيــــــمِ القــــدرِ للرُّسْل خــــــاتَمِ
صلاةً وتَسليمًا يدُومان ما سَرَى نسيمُ الصَّبَا وانهلَّ صوبُ الغمائمِ
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على نبيِّنا محمَّد بن عبد الله ما ذكره الذاكِرون الأبرار، وصلِّ عليه ما تعاقبَ الليلُ والنّهار، وصلِّ عليه وعلى آلهِ الأطهار وصحابته الأخيار، المهاجرين منهم والأنصار، وارضَ اللّهمّ عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحُنفاء...
| |
|