molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: فضل بيت المقدس - عبد الباري بن عوض الثبيتي الخميس 24 نوفمبر - 8:08:35 | |
|
فضل بيت المقدس
عبد الباري بن عوض الثبيتي
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ونَفسي بتَقوى الله تعالى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
وصَف القرآنُ الكريم في كثيرٍ من آياتِه بيتَ المقدس ومسجدَه بالبَرَكة، وهي النّمَاء والزيادةُ في الخيرات، حيث قال سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [الإسراء:1]، وقال تَعَالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:71]، وقال تَعالى: وَأَوْرَثْنَا القَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأعراف:137]. وفي قصّة سليمان عليه السّلام يقول سبحانَه وتعالى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا [الأنبياء:81]، وقال تعالى على لسانِ موسى: يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة:21]. وعند حديثِ القرآن عن رغَد عيشِ أهلِ سبَأ يقول سبحانه: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القُرَى الَتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً [سبأ:18]، وهي قُرى بيتِ المقدس.
وصَف القرآن أرضَها بالرَّبوَة ذاتِ الخصوبَةِ، وهي أحسن ما يكون فيه النَّبات، وماءَها بالمعين الجاري، قال تعالى: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ [المؤمنون:50]، قال الضحاك وقتادة: "هو بيتُ المقدس".
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا [البقرة:114] قال كثير من المفسرين: "هو مسجد بيتِ المقدس". وقال تعالى: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا [الإسراء:7]، أجمَع المفسِّرون على أنَّ المسجدَ المذكورَ هنا هو المسجدُ الأقصى.
المسجد الأقصى هو ثاني مسجِدٍ بنِيَ في الأرض، لما في الصّحيحين عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، أيّ مسجدٍ وضِع في الأرض أوّل؟ قال: ((المسجد الحرام))، قال: قلت: ثمّ أيّ؟ قال: ((المسجد الأقصى))، قلت: كم كان بينهما؟ قال: ((أربعون سنة، ثمّ أينما أدرَكتك الصلاة بعدُ فصلِّهِ فإنّ الفضلَ فيه))[1].
بيت المقدس لا يدخُلُه الدجّال، فقد روى جنادة بن أبي أميّة قال: أتينا رجلاً من الأنصار من أصحابِ رسول الله فدخلنا عليه، فقلنا: حدِّثْنا ما سمعتَ من رسول الله ، فذكر الحديث وفيه: ((عَلامتُه يمكُث في الأرضِ أربعين صباحًا، يبلغ سلطانُه كلَّ منهلٍ، لا يأتي أربعةَ مساجد: الكعبةَ ومسجِدَ الرّسولِ والمسجِدَ الأقصى والطّور)) رواه أحمد ورجاله ثقات[2].
وعن أبي ذرٍّ رضي الله عنه قال: تذاكرنا ونحن عند رسول الله أيّهما أفضل: مسجِد رسول الله أم بيت المقدس؟ فقالَ رسول الله : ((صلاةٌ في مسجدِي هذا أفضلُ من أربَعِ صلوات فيه، ولَنِعمَ المصلَّى هو، وليوشكَنَّ أن يكونَ للرّجل مثلُ شطنِ فرسه من الأرض حيث يَرَى منه بيتَ المقدس خيرٌ له من الدنيا جميعًا)) أو قال: ((خير له من الدّنيا وما فيها)) أخرجه الحاكم وصحّحه ووافقه الذهبيّ[3].
وفي مسندِ أحمدَ وسُنن أبي داود وابن ماجه عن ميمونة مولاة النبيِّ قالت: يا نبيَّ الله، أفتِنا في بيت المقدس، فقال: ((أرض المحشَر والمنشَر، ائتوهُ فصلُّوا فيه؛ فإنَّ صلاةً فيه كألفٍ فيما سواه))[4].
تُشَدّ الرحال إلى المسجِدِ الأقصى، فعَن أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله : ((لا تشدُّوا الرحالَ إلا إلى ثلاثةِ مساجد: مسجدي هذا والمسجدِ الحرام والمسجدِ الأقصَى))[5]، فقد بيّن النبيّ الارتباطَ الوثيق بين هذه المساجدِ، وهو مشروعيّة شدِّ الرحال إليها لقصدِ التعبُّد فيها؛ لأنها كلَّها مساجد الإسلامِ والمسلمين مهما اختلَفَت ديارهم، وتبايَنت ألوانهم، أو تباعدَت عصورهم، فأيّ مسلمٍ أراد أن يشدَّ رحلَه إلى أحدِ هذه المساجد كان ذلك حقًّا له.
الشارِع ينهَى عن السفر إلى أيّ مكانٍ مسجدًا كان أو غيره لقصدِ العِبادة ما عدا المساجد الثلاثة المذكورة في الحديث. وحديث شدِّ الرحال يدلّ على الاهتمام الذي أولاه الرسولُ للأقصى المبارك، وربَطَ قيمتَه وبركته مع قيمةِ وبركةِ هذين المسجدَين الشريفين، ودلَّ أنه جعل هذه الثلاثةَ مساجد متقارِبةً في الفضل متنافِسَة في الأجر، فقد أخرج البزّار وحسّنه [و]الطبرانيّ وابن خزيمةَ من حديثِ أبي الدّرداء رضي الله عنه أنه قال: ((الصّلاةُ في المسجد الحرام بمائةِ ألف صلاة، والصلاة في مسجدي بألفِ صَلاة، والصّلاة في بيتِ المقدس بخمسمائة صلاة))[6].
إتيانُ المسجد الأقصى بقصدِ الصلاة فيه يكفِّر الذنوب ويحُطّ الخطايا، فعَن عبد الله بن عمرو عَن النبيِّ قال: ((لمّا فرغ سليمانُ بن داود من بناءِ بيت المقدس سأل الله ثلاثًا: حُكمًا يصادف حكمَه، وملكًا لا ينبغي لأحدٍ من بعده، وأن لا يأتيَ هذا المسجد أحدٌ لا يريد إلاّ الصلاةَ فيه إلاّ خرج من ذنوبه كيومَ ولدَته أمُّه))، فقال النبيّ : ((أمّا اثنتان فقد أعطِيَهما، وأرجو أن يكونَ قد أعطِيَ الثالثة)) رواه أحمد والنسائيّ وابن ماجه[7].
بشَّر النبيُّ بفتحِ بيت المقدس، ومِن مؤيِّداتِ هذه البشارةِ حديثُ عوفِ بنِ مالك عن النبيِّ قال: ((اعدُد ستًّا بين يدي الساعة: موتِي ثمّ فتح بيت المقدِس)) رواه البخاري[8].
القدسُ حاضِرَة الخلافة الإسلاميّة في آخر الزمان، فعن عبد الله بنِ حَوالَة الأزديّ قال: وضَعَ رسول الله يدَه على رأسِي أو قال: على هامتي، ثم قال: ((يا ابنَ حَوالة، إذا رأيتَ الخلافةَ قد نزَلَت الأرضَ المقدَّسة فقد دنت الزلازلُ والبلابِل والأمور العظام، والساعةُ يومئذٍ أقربُ من الناس من يدِي هذه من رأسِك)) رواه أبو داود وأحمد[9].
إنَّ شأنَ القدس شأنُ المسلمين كلِّهم بنصِّ كتابِ الله وسنّة رسولِه ، لِكلِّ مسلمٍ حقّ في تلك الأرض المباركة، يقابِلُه واجبُ النُّصرة بكلِّ صوَرِه، فالحجّة تبقى قائمةً مع الحقِّ وأهله، وعلى الظلمِ وأهلِه إلى يوم الدين.
جمَع الله تعالى لنبيِّنا الأنبياءَ عامّة، وأنبياء بني إسرائيلَ خاصّة؛ حتى يسلِّموا له بالنبوّة، وفاءً لما عاهدوا الله تعالى عليه، كما أشار إلى ذلك قولُه سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].
اقتَرَن المسجد الأقصى بالمسجدِ الحرام في قِبلَةِ التعبُّد للرحمن، وذلك في مسألةِ التوجُّه شطرَه في الصلاة، فقد كان المسجدُ الأقصى قبلةَ الأنبياء السابقين، فما مِن نبيٍّ إلاّ وأعلَنَ أنَّ دينَه الإسلام وإن اختَلَفتِ الشرائع بينهم، وقد كان على سَنَن الأنبياءِ قَبلَه: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام:90].
وكان من اقتدائه بهم أن يتوجَّهَ إلى البيتِ المقدس في صلاتِه اتِّباعًا لشرعِ الله. ظلَّ على ذلك مدَّةَ نبوَّتِه في مكّة، وهو يرَى الكعبةَ أمامَه، ويطمع في التوجُّه إليها، ولا يسَعُه ذلك لعدمِ شرعِ الله تعالى له، حتّى نزل قوله تعالى: قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ [البقرة:144]. ولعلَّ في استقبالِ بيتِ المقدس أوّلاً ثمّ تحويله إلى بَيتِ الله الحَرَام تنبِيهَ المسلمِين إلى ما يجِبُ عليهم القِيامُ به نحوَ بيت المقدِس مِنَ الحِفاظِ عليه من أن يُدَنَّسَ برجسِ الوثنيّة أو المعاصِي السيّئة، ولِتبقَى القدس خالدةً في أذهان المسلمين حتى لا تنسَى ما بقِي فيهم القرآن الكريم وما بقيت قلوبهم عامرةً بالإيمان، وليبقَى هذا الحديثُ في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا مِن خلفِه.
لقد مكَّن الله تعالى للمسلمين فتحَ بيت المقدس في الصَّدرِ الأوّل من الإسلام، أقاموا فيه الصلاةَ، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر، وثبَت دين الله تعالى في الأرض، وما زال والحمدُ لله تعالى كذلك وإن قام الطغيان فيه وصال وجال ردحًا من الزمن، فإنّه لا بدَ زائل كما أذِن الله تعالى بذَلك في قوله: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء:5، 6].
هذا البيتُ المقدَّس الأقصى بقِي وسيبقى على الرّغم من المِحَن التي عصَفَت وتعصِف بالمسلمين حصنَ الإسلامِ معقِلَ الإيمان إلى قيامِ الساعة، قال : ((لا تزال طائفةٌ من أمّتي على الحقّ ظاهرين لعدوِّهم قاهِرين، لا يضرّهم من خالَفهم إلاّ ما أصابهم مِن لأوَاء حتى يأتيَهم أمر الله وهم كذَلك))، قالوا: يا رسولَ الله، وأينَ هُم؟ قالَ: ((ببيتِ المقدِس وأكنافِ بيتِ المقدِس)) رواه أحمد[10].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء (3366)، صحيح مسلم: كتاب المساجد (520).
[2] مسند أحمد (5/435)، وأخرجه أيضا عبد الله في السنة (1016) عن أبيه، والطحاوي في شرح المشكل (14/376)، قال ابن حجر في الفتح (13/105): "رجاله ثقات"، وقال الهيثمي في المجمع (7/343): "رجاله رجال الصحيح".
[3] مستدرك الحاكم (8553)، ورواه أيضا الطبراني في الأوسط (6983، 8230)، والبيهقي في الشعب (3/486)، قال المنذري في الترغيب (2/142): "إسناده لا بأس به"، وقال الهيثمي في المجمع (4/7): "رجاله رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (6/2/954).
[4] مسند أحمد (6/463)، سنن أبي داود: كتاب الصلاة (457)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1407)، ورواه أيضا ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (3448)، وأبو يعلى (7088)، والطبراني في الكبير (25/32) والأوسط (8445)، والبيهقي في الكبرى (2/441)، قال الذهبي في المهذب (2/869)، والألباني في ضعيف سنن ابن ماجه (298): "منكر".
[5] صحيح البخاري: كتاب أحاديث الحج (1864)، صحيح مسلم: كتاب الحج (827).
[6] أخرجه ابن عدي في الكامل (3/398)، وابن عبد البر في التمهيد (6/30) من طريق البزار، ونقل تحسينه للحديث، وقال الهيثمي في المجمع (4/7): "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات، وفي بعضهم كلام، وهو حديث حسن"، وضعفه الألباني في تمام المنة (ص293)، وانظر: الإرواء (1130).
[7] مسند أحمد (2/176)، سنن النسائي: كتاب المساجد (693)، سنن ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة (1408)، وأخرجه أيضا الطبراني في الأوسط (8989)، والبيهقي في الشعب (3/494)، وصححه ابن خزيمة (1334)، وابن حبان (1633، 6420)، والحاكم (83، 3624)، والنووي في تهذيب الأسماء (1/233)، والقرطبي في الجامع لأحكام القرآن (4/137، 14/282)، وابن القيم في المنار المنيف (161)، والألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1156).
[8] صحيح البخاري: كتاب الجزية (3176).
[9] مسند أحمد (5/288)، سنن أبي داود: كتاب الجهاد (2535)، وأخرجه أيضا البيهقي في الكبرى (9/169)، وصححه الحاكم (8309)، وهو في صحيح سنن أبي داود (2210).
[10] رواه عبد الله وجادة عن خط أبيه (5/269) عن أبي أمامة رضي الله عنه، وأخرجه أيضا الطبراني في الكبير (8/145)، وقال الهيثمي في المجمع (7/288): "رجاله ثقات"، لكن الراوي عن أبي أمامة فيه جهالة، ولذا وضعفه المعلمي في الأنوار الكاشفة (ص130).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله وكفَى، وسلامٌ على عبادِه الذين اصطفى، أحمده سبحانَه وأشكره في الآخرةِ والأولى، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحدَه لا شريكَ له، له الأسماءُ الحسنى والصِّفات العُلا، وأشهَد أنّ سيِّدنا ونبيَّنا محمّدًا عبده ورسولُه، القدوة المجتبى والحبيب المصطَفى، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه وسلَّم تسليما كثيرا.
أمّا بعد: فأوصيكم ونفسِي بتقوى الله.
لقد سجَّل القرآن الكريم مكانَةَ القدسِ حين بيَّن أنَّ الله سبحانه أسرَى بعبدِه محمّدٍ من المسجدِ الحرام إلى المسجدِ الأقصى. وقد مرّ الرّسول في رحلتِه إلى المسجدِ الأقصَى ثمّ وصَل إلى بيتِ المقدِس، فوجد فيه إبراهيمَ وموسى وعيسى في جمعٍ من الأنبياء والمرسلين، صلَّى بهم جميعًا، ثمّ عرِج به إلى السماء، رأَى من آيات ربِّه الكبرى، ولما عادَ مِن رحلتِه المباركة وأخبَرَ قومَه كان مِنهم من صدَّق ومنهم من كذَّب، وذهَب بعضهم إلى أبي بكر الصديقِ رضي الله وأخبَروه، فما كان جوابُه إلاّ أن قال لهم: والله، لئن كان قالَه لقد صدَق، قالوا: تصَدِّقه على ذلك؟! قال: إني أصدِّقه على أبعدَ من ذلك، أصدِّقه على خبَر السّماء[1].
تمادَى القومُ في لجاجهم وحوارِهم يسألونَ رسولَ الله في تعنُّتٍ عن بيتِ المقدس، ومنهم من كان قَد رَآه، وظنّوا أنهم سيوقعونه في حرجٍ، ولكنه وهو المؤيَّد من ربِّه وصَف لهم بيتَ المقدس وصفًا كامِلاً، وأخبرهم عن آياتِه، يقول : ((فذهبتُ أنعَت، فما زِلت أنعَت حتى التبَس عليَّ بعضُ النّعت)) قال: ((فجِيء بالمسجِدِ وأنا أنظر حتى وضِعَ دون دارِ عُقَيل))، فقال القوم: ((أمّا النعتُ فوالله لقد أصابَ)) رواه أحمد[2].
وكان أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه كلّما وصَف لهم الرَّسولُ وصفًا يقول: صدقتَ أشهدُ أنّك رسول الله[3]، ثم قال : ((ثم دخلتُ المسجد فصلَّيت فيه ركعتين، ثم خرجتُ فجاءني جبريل عليه السلام بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبن، فاخترتُ اللّبَن، فقال جبريل : اخترتَ الفطرة)) رواه أحمد[4]، وفي رواية أبي أمامَةَ عند الطبرانيّ مرسلا: ((ثم أقِيمَت الصلاة فتدافَعوا حتى قدَّموا محمّدًا ))[5]، فصلّى إمامًا بالأنبياءِ جميعًا في المسجدِ الأقصى. وهكذا كانت إمامةُ الرسول للأنبياءِ والمرسلين في هذا المكانِ المقدَّس إعلانًا بختم رسالاتِ السماء، وأن رسالتَه خاتمةٌ، وأنّه خاتَم الأنبياءِ والمرسلين.
وإن حادثَ الإسراء والمعراج ليضَع في أعناق المسلمين في كلِّ الأرض أمانةَ القدس الشريف، والتفريطُ فيه تفريطٌ في دين الله، وسَيسأَل الله تعالى المسلمين عن هذه الأمانة إن فرَّطوا في حقِّها أو تَقاعَسوا عن نصرَتها وإعادَتها.
نعم، على كلِّ مسلمٍ أن يعرفَ للأقصى المبارك قدرَه، وأن يرتبطَ به ارتباطَ حبٍّ وإيمان، مدافِعًا عن طهره، منافِحًا عن كرامَتِه، باذلاً الغاليَ والرخيص في سبيل نصره وعزِّه.
ألا وصلّوا ـ عبادَ الله ـ على رسولِ الهدَى، فقد أمرَكم الله بذلك في كتابِه فقال: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربَعَة الراشدين...
[1] رواه الحاكم (4407) عن عائشة رضي الله عنها وصححه، وهو في السلسلة الصحيحة (306). وعزاه ابن حجر في الفتح (8/392) وفي التغليق (4/240) لقاسم بن ثابت في الدلائل مرسلا.
[2] مسند أحمد (1/309) عن ابن عباس رضي الله عنهما، ورواه أيضا ابن أبي شيبة (6/313-314، 7/334-335)، والنسائي في الكبرى (6/377)، والطبراني في الكبير (12/167) والأوسط (2447)، والبيهقي في دلائل النبوة (2/363)، قال الهيثمي في المجمع (1/65): "رجال أحمد رجال الصحيح"، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (3021). وقصة وصفه بيت المقدس لكفار قريش أخرجها البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
[3] انظر: السيرة النبوية (2/245).
[4] رواه مسلم في الإيمان (162) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
[5] المعجم الأوسط (3879) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى مرسلا، قال الهيثمي في المجمع (1/77): "رواه الطبراني في الأوسط هكذا مرسلا، وقال: لا يروى عن ابن أبي ليلى إلا بهذا الإسناد، ومع الإرسال فيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو ضعيف".
| |
|