molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: بين همي الدنيا والآخرة - سليمان بن حمد العودة الأحد 13 نوفمبر - 7:29:14 | |
|
بين همي الدنيا والآخرة
سليمان بن حمد العودة
الخطبة الأولى
أما بعد:
فاتقوا الله معاشر المسلمين فتلك وصية الله للأولين والآخرين: ولله ما في السموات ومافي الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله [النساء:131].
وبنظرة متأملة في كلمات هذا الحديث الشريف يتبين أولا أن الغنى ليس عن كثرة العرض، إنما الغنى غنى النفس، كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديث آخر.
ويشهد الواقع أن عددا من الناس يملكون القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، والخيل المسومة، والأنعام والحرث، ومع ذلك يعيشون النكد في حياتهم ولا يشعرون بلذة المال، ولا راحة البدن، كدحا وتفكيرا، وهموما، ومشاجرة وخصومة، ومنعا وحرمانا للفقراء والمساكين، والأصحاب والأقربين.
ويهدي الحديث ثانيا إلى أن الآخرة هي الأصل في تفكير الإنسان، وهي التي ينبغي أن تستحوذ على تفكير الإنسان بسبب الانشغال بما ما كتب الله له من نصيبه في الحياة الدنيا.
وفي مقابل ذلك فإن كثرة التفكير في الدنيا لا يدعو إلى الغنى ولا يسلم صاحبها من تشتت الشمل، بل هو طريق إلى الفقر، إذ ليس يأتى للمرء من الدنيا إلا ما قدر الله له وقضى.
وعلينا – إخوة الإسلام – ونحن نعي هذا الحديث جيدا أن نعي معه الحديث الآخر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن لكل أمة فتنة وفتنة أمتي المال))(1).
والله تعالى يمتحن الناس بهذا المال، كما يمتحنهم بالأزواج والأولاد، قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم [التغابن14-15].
فمن الناس من يتخذ المال وسيلة للكبر والبطر، أو الشح والبخل، أو للغفلة عن ذكر الله والطغيان على عبودية لله رب العالمين. قال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى [العلق:6-8].
قال إنما أوتيته على علم عندي أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعاً ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون [القصص:78].
ومن الناس من يسعده المال، ويسعد هو بالمال، فهو يعرف لله فيه حقا، ينفق منه ذات اليمين، وذات الشمال، يأخذه من حله، ويصرفه في مصارفه الشرعية، لا يلهيه عن ذكر الله، ولا يطغيه ولا يدعوه لازدراء خلق الله، أولئك في أموالهم حق للسائل والمحروم، وأولئك من أهل الإيمان والتقى كما قال تبارك وتعالى: إن المتقين في جنات وعيون آخذين ما آتاهم ربهم إنهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون وفي أموالهم حق للسائل والمحروم [الذاريات:15-19]
إخوة الإيمان: وليس يخفى أن أودية الدنيا سحيقة، وشعابها كثيرة متفرقة، والخلاص من فتنتها والسمو عن زخرفها والنجاة من غرورها يحتاج إلى مجاهدة للنفس، واستعانة بالعلى الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس، وتحبون المال حباً جماً [الفجر:20].
وكلما زاد المال أو تقدم بالإنسان السن زاد ولعه وتعلقه بالدنيا، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول: ((يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على العمر، والحرص على المال (2))).
عباد الله: وإذا كانت تلك حقائق يشهد الواقع بها ويؤكدها القرآن والسنة، فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟
إن أول طريق للخلاص هو التفكير المستمر في الآخرة، وإعطاؤها ما تستحق من الجهد والوقت والتفكير، ففي القلب استعداد للانصراف للآخرة، كما فيه استعداد للانصراف للدنيا، وحين تزاحم إحداهما الأخرى، فسيكون نصيب المغلوب ضئيلا، سواء كان ذلك للآخرة أم الدنيا، وليختر العاقل ما شاء بين متاع الغرور وبين النعيم الدائم والحبور.
وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله والكفاف بالعيش، وفى الحديث الصحيح: ((طوبى لمن هدي للإسلام، وكان عيشه كفافا، وقنع(3))).
والإسلام يصحح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن، والعافية والقوت القليل تعدل الدنيا بأسرها، فعن عبيد الله بن محصن الخطمي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا))(4).
ذلك يعدل النظرة السائدة.. ويطامن من كبرياء النفوس نحو التعلق بالمال، وجمع الحطام، ويدعو إلى القناعة والرضى والعفاف، بل هو سبيل إلى عدم التشاغل والتلهي الزائد بالدنيا، كما قال تعالى: ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر [التكاثر:1-2].
عن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ: ألهاكم التكاثر قال: ((يقول ابن آدم: مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت(2))).
أيها المسلمون، ومما يعين على الخلاص من فتنة المال، أن يعلم الناس أن المسكنة ليست عيبا، فهذا صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم كان يدعو ويقول: ((اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة(3))).
ويسري عن الفقراء وهو يخبر أنهم يدخلون الجنة قبل الأغنياء فيقول: ((يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم، وهو خمسمائة عام(4))).
وفي رواية: ((يدخل فقراء المسلمين قبل أغنيائهم بأربعين خريفا(5))).
إخوة الإيمان: وتاملوا هذا العلاج النبوي للخلاص من هموم الدنيا، يصفه النبي صلى الله عليه وسلم لكل محتاج ويقول: ((من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل(6))).
إنه التوكل الحق على الله، والاستغناء به وحده عما سواه، وسؤال الله وحده والالتجاء إليه لكشف الكربه، وإزالة الغمة، والله هوالغني الحميد، وهو أكرم الأكرمين، ومن رفع يديه إليه سائلا لا يمكن أن تعود إليه صفر اليدين، إنها دعوة للتعفف عما في أيدى الناس، وهي تحذير عن المسألة إلا في حدود المأذون بها شرعا، فأين الواثقون بالله يسد فاقتهم، أين المستيعنون بالله وحده يقضي حوائجهم؟!
أيها المسلمون: إن فضل الله الواسع، ورحمته تنال في الدنيا والآخرة لمن وفقه الله، وهمة المرء ينبغي ألا تكون قصرا على الدنيا.
فالله تعالى يقول: من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعاً بصيراً النساء:24].
والمعنى: يامن ليس همه إلا الدنيا، اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والاخرة، كما قال تعالى: فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار أولئك لهم نصيب مما +بوا والله سريع الحساب [البقرة:200-202].
قال ابن كثير: وزعم ابن جرير أن المعنى في قوله: من كان يريد ثواب الدنيا أي من المنافقين الذين اظهروا الإيمان لذلك فعند الله ثواب الدنيا أي ما حصل لهم من المغانم وغيرها مع المسلمين، وقوله والآخرة أي وعند الله ثواب الآخرة، وهو ما ادخره لهم من العقوبة في نار جهنم.
قال ابن كثير: ولا شك أن هذه الآية معناها ظاهر، وأما تفسير الآية الأولى بهذا ففيه نظر، فإن قوله: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة ظاهر في حضور الخير في الدنيا والاخرة.. فلا تقتصرن يا قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط، بل لتكن همتك سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة(3).
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون [يونس:58].
نفعني الله واياكم بهدي كتابه. .
(1) حديث صحيح رواه الترمذي ، صحيح سنن الترمذي 2/73.
(2) حديث صحيح رواه الترمذي وابن ماجه ، صحيح سنن الترمذي 2 / 273 .
(3) صحيح سنن الترمذي 2/275 .
(4) صحيح سنن الترمذي 2/274 .
(2) رواه مسلم انظر : مختصر مسلم للمنذرى ص 580 ح 2178 .
(3) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/275
(4) رواه الترمذي ، وقال حسن صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/276 .
(5) صحيح سنن الترمذي 2/275 .
(6) رواه الترمذي وابو داود بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/270 ، 271 .
(3) تفسير ابن كثير 2/384 .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، أحمده تعالى على مزيد نعمه، وعظيم إحسانه، وأشكره وأسأله المزيد من فضله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه.. اللهم صل وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وعلى الآل والأصحاب أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة المؤمنون: أيتها الأخوات المؤمنات، وإذا أردتم أن تزدادوا معرفة في قيمة الدنيا وحقارتها وهوانها، وعظيم قدر الآخرة، واستحقاقها للسعي وبذل الجهد، فتأملوا في عيش خيار الخلق، وصفوة الأمة وخير القرون.
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم – كما تقول عائشة رضي الله عنها – ((ماشبع من خبز شعير يومين متتابعين حتى قبض(1))).
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيت الليالي المتتابعة طاويا، وأهله لا يجدون عشاء، وكان خبزهم خبز الشعير(2))).
وسئل سهل بن سعد رضي الله عنه: ((أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي؟ يعنى الحواري، فقال سهل: ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النقي حتى لقي الله، فقيل له: هل كانت لكم مناخل؟ قال: ما كانت لنا مناخل، قيل: كيف تصنعون بالشعير؟ قال: كنا ننفخه فيطير منه ما طار، ثم نثريه فنعجنه(3))).
والخبز الحواري: ((هو الذي نخل مرة بعد أخرى))(4).
وليس يخفى أنه عليه الصلاة السلام ربما ربط على بطنه الحجر والحجرين من الجوع، وهو الذي لو شاء سأل الله أن تتحول له الجبال، يقول سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: ((إنى لأول رجل أهراق دما في سبيل الله وإني لأول رجل رمى في سبيل الله، ولقد رأيتنى أغزو في العصابة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما نأكل إلا ورق الشجر، والحبلة حتى أن أحدنا ليضع كما تضع الشاة والبعير(1))).
وعن فضالة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رسول الله عليه وسلم كان إذا صلى بالناس يخر رجال من قامتهم في الصلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصفة، حتى تقول الأعراب: هؤلاء مجانين، فإذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف إليهم فقال: ((ولو تعلمون ما لكم عند الله لأحبتم أن تزدادوا فاقة وحاجة)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم(2).
أما أبو هريرة رضي الله عنه فسيحدث عن نفسه ويقول: وقد رؤى عليه ثوبان ممشقان من كتان فمخط في أحدهما ثم قال: بخ بخ يتمخط أبو هريرة في الكتان؟ لقد رأيتنى أخر بين منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجرة عائشة من الجوع مغشيا علي، فيجيىء الجائي فيضع رجله على عنقي ير ى أن بي الجنون، وما بي الجنون، وما هو إلا الجوع(3)
إخوة الإيمان: وما ضر هؤلاء حالهم، ولا انتقض الفقر من أقدارهم، إذا كنت اسلفت أن هناك أغنياء تضيق عليهم الدنيا مع سعتها، ولا يجدون من العيش إلا ما به يقتاتون.. لكنهم يملكون رصيدا من الإيمان بالله، به يهتدون، ويملكون الرضا والقناعة والزهد في الدنيا ما به عن الخلق يستغنون، وهؤلاء وأولئك يؤكدون قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((من كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له)) – كما سبق الحديث -.
وبعد أيها المسلمون: فهذه الدنيا وقدرها، وتلك نماذج من فهم العارفين بها.. اتستحق الاهتمام إلى درجة ينسى فيها المرء الواجبات المتحتمات، أو يتهاون في سبيلها بالكبائر والمحرمات؟
أيها المسلمون: إذا كان هذا طرفا من الحديث عن الفقراء الشاكرين، ومن عوامل الزهد والقناعة في الدنيا دون الدين، فثمة حديث آخر عن الأغنياء الشاكرين، وعن الموسرين الباذلين، أرجىء الحديث عنه لخطبة لاحقة بإذن الله.
(1) صحيحى سنن الترمذي 2/276
(2) رواه الترمذي وابن ماجه بسند حسن ، صحيح سنن الترمذي 2/276.
(3) رواه الترمذي وابن ماجه بسند صحيح ، صحيح سنن التزمذى 2/277.
(4) النهاية في غريب الحديث 1/458
(1) رواه الترمذي بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/277
(2) رواه الترمذي وغيره بسند صحيح ، صحيح سنن الترمذي 2/278 .
(3) الحديث رواه البخارى وغيره ، انظر الصحيح مع الفتح 13/303 ، وصحيح سنن الترمذي 2/277.
| |
|