molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: صفة الموت - سعيد بن يوسف شعلان الأحد 13 نوفمبر - 4:14:37 | |
|
صفة الموت
سعيد بن يوسف شعلان
الخطبة الأولى
وبعد, فلقد وصلنا في الحديث عن الموت وتوابعه إلى المبادرة بتجهيز الميت وإلى صفة غسله وكفنه والصلاة عليه، فماذا بعد هذا؟ نحن اليوم على موعد في السير إلى تشييع الجنازة وقد أعد المتوفى وقد انتهي من تجهيزه وقد أصبح معداً لكي يُحمل على الأعناق إلى المأوى الذي هنيئاً لمن أعد له العدة، ويا ويل من نسي ظلمته وضيقه فقدم عليه وقد نفض يده من عمل ينفعه في هذا الضيق ويضيء له في ظلمة طويلة صبحها يوم القيامة.
نفض المتوفى يده من كل شيء إلا من عمله، وهاجت وماجت عواصف الأحزان في بيته فدفعت أهله ـ خاصة من كان منهم ضعيف اليقين والإيمان ـ إلى التردي في هاوية المخالفات المستشنعة للشريعة الغراء فارتفعت الأصوات والصراخ والعويل, ومن ذلك حذر النبي صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال في الحديث الصحيح: ((يعذب الميت ببكاء أهله عليه)) وبوّب البخاري رحمه الله تبارك وتعالى على ذلك فقال: "باب قوله ((يعذب الميت ببكاء أهله عليه))". إذا كان النوح من سنته, إذا لم يوصِ، لقوله تعالى: قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً في الآية السادسة من سورة التحريم. إذاً فكان لزاماً على المتوفى أن يوصي أهله بألا يبتدع أحدٌ منهم بدعة من البدع الكثيرة التي أصبحت تتفشى ببيت المتوفى وجنازته وإنزاله قبره فعليه أن يوصي.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته)).
فأما إذا لم تكن النياحة من سنته فهو كما قالت عائشة: (ولا تزروا وازرة وزرة أخرى) لا يعذب ببكاء أهله إن نصحهم وأوصاهم فخالفوه، وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [فاطر:18].
ويرخص في البكاء الذي لا صراخ معه ولا عويل؛ لما أخرجه الإمام البخاري وغيره عن أسامة بن زيد في الحديث أن ابنة من بنات النبي صلى الله عليه وسلم مات لها ولد فأرسلت إليه أن ائتنا فأرسل إليها قائلاً: ((إن لله ما أخذ وله ما أعطى, وكل عنده بأجل مسمى فالتصبر ولتحتسب)).
فأرسلت إليه وأقسمت عليه أن يأتي فقام النبي صلى الله عليه وسلم ومعه سعد بن عبادة وآخرون من صحابته رضي الله عنهم فلما رُفع إليه الطفل فاضت عينا رسول الله فقال له سعد بن عبادة: ما هذا يا رسول الله؟ فقال: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده, وإنما يرحم الله من عباده الرحماء)).
الموت, الذي لما خالفنا به الشريعة الغراء ـ بما لم ينزل الله سلطاناً ـ لم يعد مصدراً للاعتبار كما كان في السابق.
رسول الله يبكي ويقال له: ما هذا، فيقول: ((هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده)).
وفي حديث أنس في الصحيح أنه لما حضر وفاة ابنه إبراهيم بكى كذلك فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله تبكي؟ فقال: ((يا ابن عوف إنها رحمة))، فأعادها الثانية أعاد عليه عبد الرحمن القولة فقال: وأنت يا رسول الله؟ فقال: ((إن العين لتدمع والقلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون)).
وماذا نقل إلينا صحابة رسول الله ليعلم كل بيت مُبتلى بمصيبة الموت وودّع حبيباً أبا أو أماً أو بنتاً؟ لقد روى أبو بردة بن أبي موسى كما عند البخاري وغيره: قال رسول الله : ((ليس منا من ضرب الخدود ـ وفي رواية ـ لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية))، نعم، ليس منا من تسخط ورفع الصوت وصرخ, ففي ذلك اعتراض جلي ظاهر على أمر الله تبارك وتعالى وعلى ما علمه الناس علماً يقيناً في شأن الموت.
الناس يعلمون أنهم سيموتون ولكن منهم من نفعه علم اليقين فلم يحتج إلى عين اليقين فضلاً عن حاجته إلى حق اليقين. علم أنه سيموت فلم يحتج إلى أن يشاهد ما يطّلع عليه المتوفى بعد الموت من معرفة حال المتوفى ومآله ومقعده, أفي الجنة أم في النار, ولم يحتج بعد علم اليقين إلى عين اليقين, وهو موافقة هذا الأمر, النعيم أو الشقاء. علم ذلك وكان نصب عينيه قبر ضيق مظلم فعمل له ألف حساب.
ومن الناس من لم ينفعهم هذا العلم فاحتاجوا إلى عين اليقين, وهيهات هيهات هل ينتفعون بعد أن يعاينوه, واحتاجوا بعدها إلى حق اليقين؟ وهيهات هيهات هل ينتفعون إذا تحققوا؟ أبداً.
وكذلك روى المغيرة بن شعبة فيما أخرجه عنه البخاري في الصحيح قال: إني سمعت النبي يقول: ((إن كذباً عليّ ليس ككذب على أحد, من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار)). الكذب على رسول الله ليس ككذباً على أحد، لا تحدثوا عن رسول الله حديثاً مكذوباً لا تثقون بنسبته إلى رسول الله .
ونعود إلى حديث المغيرة قال إني سمعت النبي يقول: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)) سمعت النبي يقول: ((من ينح عليه يعذب بما نيح عليه في قبره)).
إذا ناحت النساء وارتفعت أصواتهن وفعل كذلك الرجال وشقوا الثياب لِيُرُوا الناس من أنفسهم جزعاً وحزناً حتى لا يقول الناس أنهم لا يحزنون إن قلوبهم جامدة. من فعل ذلك عُذب ميتهم إذا لم يكن قد أوصاهم.
نعم، هكذا تتأكد أيها الأخوة الكرام أهمية الوصية, وأن لا ينتظر العبد إحساسه بالمرض وإحساسه بالانتقال من الدنيا لكي يوصي، بل إن عليه أن يكتب وصيته مباشرةً لعلمه أن هذه الوصية واجبة ولازمة عليه, وعليه ألا ينتظر, فإن المسلمين أجمعوا على أن الموت ليس له سن معلوم ولا زمن معلوم ولا سبب معلوم. فماذا ينتظر الناس حتى يعلموا أنهم عن الدنيا راحلون.
صدق الذي نظر إلى القبور فقال: أصبح هؤلاء زاهدين فيما نحن فيه راغبون. أي الموتى أصبحوا زاهدين فيما نحن فيه راغبون. وعندما ننتقل نحن أيضاً عن الدنيا سنزهد فيما فيه مَنْ بعدنا راغبون.
قال الله تبارك وتعالى في الآية الرابعة والتسعين من سورة الأنعام: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَىٰ كَمَا خَلَقْنَـٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَـٰكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ من يوم أن يموت العبد إلى أن يقف بين يدي ربه يكون بمفرده, الناس بعد هذه اللحظة فرادى, لكل امرئ منهم يومئذ شأن يُغنيه، وتركتم النعم التي ملكناكم وأعطيناكم, تركتموها وراء ظهوركم.
والآن أعد المتوفى ليحمل على أعناق الرجال, ولنا معه شأن ووصية من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمه بحاله وهو على سرير حمل الموتى حيث روى الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه في صفة المشي في الجنازة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أسرعوا بالجنازة فإن تكن صالحةً فخيراً تقدمونها إليه, وإن تكن غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم)).
وفي الصحيح كذلك, عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي قال: ((إذا وضعت الجنازة فاحتملها الرجال على أعناقهم فإن كانت صالحةً قالت: قدموني, وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصعق)). ولو سمعها الإنسان وهي تقول ما تقول, وهو يسير بها إلى هذا المثوى ولا يعلم إذا كان ينتظرها النعيم أو الشقاء لو سمعها لصعق، وهذا بخلاف ضربه في قبره إذا كان عاصياً أو كافراً, عندها إذا ضُرب يسمع الصيحة من الإنسان كل شيء إلا الإنس والجان، حتى الجان لا يقوون عند معاينة العبد العذاب على سماع صيحته, لكن عند حمله يسمع صوته كل شيء إلا الإنسان ويتغافل الناس في مشيهم بالجنازة, فمنهم من يصيح اشهدوا, ومنهم من يقول: وحدّوا ـ أي قولوا لا إله إلا الله ـ ومنهم من يصيح بكلام لم نعرفه عن السلف في سيرهم بالجنازة, وكان على الناس أن يجمعوا قلوبهم وفكرهم وأن يتأملوا أن لهم ساعة يكونون فيها مكان هذا المحمول, كأن حال السرير يقول للحامل الذي غرته دنياه:
انظر إلي بعقلـك أنـا المُعـد لنلقـك
أنا سرير المنايـا كم سار مثلي بمثلك
- - -
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته لابد يوماً على آلة حدباء محمول
فإن حملت إلى القبـور جنـازة فاعلـم بأنـك بعدهـا محمـول
ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الجماعة إلا ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري ـ في الواجب على مَن تمُرُّ الجنازة أمامه وعلى من يتبعها ـ يقول: قال رسول الله : ((إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها، فمن أتبعها فلا يجلس حتى توضع)) من لم يرد أن يتبع الجنازة, إذا مرت عليه فليقم, ومن تبعها فلا يجلس حتى توضع في الأرض, كما في رواية أبي داود تعظيماً لشأن الموت.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله ولي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين, وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين, اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
شيّع عمر بن عبد العزيز جنازة, وهو أمير المؤمنين وخليفة المسلمين, فلما انتهوا من دفنها قال: أيها الناس إنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدى, وإن لكم موعداً يفصل الله فيه بينكم، أنتم في كل يوم تشيعون إلى الله غادياً ورائحاً، قد فارق الأحباب, وباشر التراب, وواجه الحساب, مُرْتهَنٌ بعمله, فقير إلى ما قدّم, غنى عما ترك, فاعملوا قبل نزول الموت بكم وانقضاء مواثيقكم ثم قال:
من كان حين يغيب الشمس جبهته أو الغبار يخـاف الشين والشعث
ويألف الظل كي يُبقـي بشاشتـه فكيف يسكن يوماً راغماً جدثـاً
يطيل تحت الثرى في غمه اللبث في ظل مقفـرة غبراء مظلمـة
تجهـزي بجهـاز تبلغيـن بـه يا نفس قبل الردى المتخلى عبثاً
يقول ـ للذي كان إذا أصابته الشمس أو أصابه الغبار يخاف أن يتغير وجهه من التراب والشعث ـ: كيف يسكن اليوم هذا المسكن، كيف يسكن قبره راغماً، كان يألف الظل كي تبقى البشاشة، في ظل قفر مظلم يطيل اللبث, في ليلة صبحها يوم القيامة، ثم يتجه إلى نفسه فيقول لها: تجهزي بجهاز تبلغين به, استعدي, أدركي ما بقي لكِ من ساعات قبل الردى, لم تخلقي عبثاً بل لكِ موعد يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون.
واستنصح رجلُ واحداً من السلف الصالح فقال له أوصني:
فقال له: عسكر الموتى ينتظرونك.
وأنا أقول: عسكر الموتى ينتظروننا جميعاً, وأختم بها هذا الكلام، وإذا كان عسكر الموتى ينتظروننا فعلينا أن نُعد أعظم وأفضل وأحسن عدة تمكننا ألا ينقضوا علينا قابضين سائقين إلى حتف وإلى مثوى ما كان أن نرتضيه لأنفسنا, لكنا إذا أرغمنا عليه فلا حول ولا قوة، قال الله في الآية الرابعة والخمسين من سورة سبأ: وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَـٰعِهِم مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ مُّرِيبِ.
| |
|