molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: داء الانتقائية - سعود بن إبراهيم الشريم الجمعة 11 نوفمبر - 5:42:25 | |
|
داء الانتقائية
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أمَّا بعد: فيا أيُّها الناسُ، مقولةٌ مشهورةٌ، تناقلها الماضون الغابرون، وسارَت بها الرُّكبان في المشرِق والمغرب، وحكاها اللاحِق عن السابِق بالوراثَةِ العلميّة الخبرية، حتى صارت عِبارةً حاسمةً في محلِّ النزاع، وسياجًا منيعًا أمام أيِّ سطوٍ أو تجاوُز، ضاربةً بالأهواءِ والشُّبهاتِ والشَّهوات عُرْضَ الحائط، لها وقعُ المطارِق على كلِّ ذي ميلٍ وحَيْدَة، ويُسمَع لها رَجعُ الصَّدَى في ساحاتِ الباحثين عن الحقِّ والعدلِ والتوازن والاعتدال.
إنَّها كلماتٌ يسيرةُ المبنى واسعةُ المعنى، إنها تِلكم الكلِمات المشهورةُ التي أُثِرت عن ابنِ عباس رضيَ الله تعالى عنهما وعن مجاهدٍ والإمامِ مالك رحمهما الله، وهي قولهم: "ليسَ أحدٌ بعدَ النبيِّ إلا يُؤخَذُ من قولِه ويُترَك إلا النبيَّ ". إنها لنِعمَ الميزان عبادَ الله، ولنِعم القِسط والحكم.
أيّها المسلمون، إنّنا نعيشُ زمنًا مُلتهِبًا، من أبرز معالمه الفَورة الإعلاميّة الظاهرة، التي قرَّبَت البعيد، وأدنَت النائي، وبلغَت مبلغًا أضحَت به منظارًا أو حَلَبةً للمُطارَحات الفكرية والعلمية والسياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة وغيرها.
وعند النظر الثاقِب والعَقل المُتيقِّظ يتَّضِح جليًّا ما يكتنِفُ تلك الفورةَ من الدَّور البارِز في التّأثير الآنِيّ في المُتلقِّي، وإثارةِ المشاعر، والاعتمادِ على التعبيراتِ العاطفية حتى وإن كانت عاريةً عن الأدلّة الشرعيّة الصحيحة والمُقدِّمات العقلية الصريحة، وهي مَبنيةٌ في الغالب على الظنِّ الكاذب والتهويل الزائفِ والهوى والتحيُّز الجاثِمَيْن على أفئدةِ جملةٍ من ذوي الأقلامِ السيَّالة والمُطارَحات الميَّالة والكرِّ والفرِّ الصُّحُفيّ. رائدُهم في ذلك السَّبقُ في الطرح، و+بُ القرَّاء والمُشاهِدين والمُستَمعين، والتلبيسُ وخلطُ الأوراقِ على العامة، وذلكم من خلالِ تمثيل وجهَة نظرٍ واحدة، وهي وجهَة نظرِ الغالب أو المُسَيطِر، في حين إنها انتِقائيةٌ مُوجَّهة لا تخضَع لقوّةٍ مُنصِفة، ولا لوازعٍ مَهيب. وهذا ما يُؤسِفُ ذوي الألباب وأصحابَ الفِطَر السليمَة، وقديمًا قيل: "ويلٌ للشجِيِّ من الخلِيِّ".
ومِن هنا -عبادَ الله- تبرُزُ الانتقائيّةُ الباطِشة، فتنهَشُ العدلَ والإنصافَ والوسطيّة. نعم، الوسطية التي هي الحق أيًّا كان، لا الوسطيَّة التي هي وسطٌ بين طَرفين كما يفهم ذلك بعضُ من لم ترتقِ أفهامُهم لحقيقةِ الوسطية والمراد بها.
نعم أيّها المسلمون، إنها الانتقائيَّة السائِدة إبَّان فترةٍ من الإنصافِ والقِسطِ ونُشدانِ الحقيقَة، ولا غَرْوَ على أحدٍ يريدُ أن يحكُمَ على مجتمعٍ ما في ثقافَتِه وفكره وعلمِه أن ينظرَ موقِعَ مُثقَّفيه وكتَبَته ومفكِّريه من الانتقائيّة؛ قُربًا أو بُعدًا، فعلاً أو قولاً.
الانتقائيّة التي نعنيها هنا -عباد الله- هي تضخيمُ الجانبِ الأقلِّ خطرًا على حِسابِ القيمةِ الحقيقيَّة عن الجانب الأخطَر، أو بعبارةٍ أخرى: هي التمسُّك بالحقيقةِ فيما يُوافِق هوَى النفس، والنأْيُ عنها وتهميشُها فيما لا يُوافِقُ ذلك. وقد تكون أحيانًا أخرى في التَّمسُّك بما يُوافِقُ الهوى والمصلحَةَ الذاتيَّة وإن كان لا قوَّةَ له في الشرع والمنطق، أو التهويل لما يُخالف الهوى والمصلَحَة وإن كان قويًّا في الدلالة صريحًا في المنطق.
وهذه الصفة -عبادَ الله- هي سببُ مقتِ الله لأممٍ تدثَّرَت بها، كما قالَ تعالى: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85]، وهي التي أرادها الله بقوله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين: 1-3].
نعم، إنها الانتقائيَّةُ التي تَصرِفُ الاختيارَ والانحيازَ لما تميلُ إليهِ الشهوةُ وتتطلَّبُه المصلحةُ الشخصيَّة، دون اكتراثٍ بالقيمة المطلقة للحقِّ، ووجوبِ الأخذِ به وإن كان له مَرارةٌ على النفس، وهذا ما نقرؤُه في كتابِ ربِّنا عمَّن قال الله فيهم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58]. قال ابن القيِّم رحمه الله: "وقد ذمَّ الله تعالى من يردُّ الحقَّ إذا جاء بِه من يُبغِضُه، ويقبَله إذا جاءَ به من يُحبُّه، فهذا خُلُق الأمَّة الغضبيّة".
ويشتدُّ الأمر خطورةً -عباد الله- حينما تكون الدعوةُ إلى الله ورسوله ليحكُم بين الناس فيما اختلَفوا فيه من الحق بإذنه، فتبرُز الانتقائيّةُ المَشينَة، حتى في حالِ تواجُد هيبةِ الحقِّ الشرعيّ وطلَبِ الرجوع إليه، كما قال تعالى واصفًا أمثالَهم: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور: 48-50].
ولقَد أحسَنَ الإمامُ الدارميُّ رحمه الله حين ردَّ على بعضِ أهلِ الأهواءِ الذين ردُّوا النصوصَ المُثبِتةَ رؤيةَ المؤمنين ربَّهم في الآخرةِ، ثم تمسَّكوا بأثرٍ ضَعيفٍ عن مجاهِدٍ رحمه الله فسَّر فيه قولَه تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] أي: تنتظر ثوابَ ربها، فقال الدارمي: "أوَلستُم زعمتم أنكم لا تقبلون هذه الآثارَ ولا تحتجُّون بها، فكيف تحتجُّون بالأثر عن مجاهدٍ إذ وجدتم سبيلاً إلى التعلُّق به لباطِلِكم على غيرِ بيان، وتركتم آثارَ رسولِ الله وأصحابِه والتابعين إذ خالفَت مَذهبَكم إلا من ريبةٍ وشُذوذٍ عن الحق؟!".
إنها الانتقائيّة عبادَ الله. نعم، إنها الانتقائية بكلِّ ما تَعنيه الكلِمة من معنى، وهي عدَم قبولِ الحقِّ إلا إذا كان يخدِم القضيّة الشخصيّة والمصلحة الفكريّة، بل حتى في تهذيبِ النفس حالَ التلبُّس بالمعصية؛ حيث لا تستَحضِر بعضُ النفوسِ المُبتلاة بالانتقائيّة إلا أنَّ الله غفورٌ رحيم، ويغُضُّون الطرفَ عن كونِه شديدَ العِقاب.
نرى المُلتاثين بالانتقائية يستَحضِرون الأدلَّةَ على وجوبِ الأمرِ والنهي في الإصلاحِ والاحتسابِ على الوُلاة، ويغُضُّون الطرفَ عن أدلَّة السمعِ والطاعَة في المعروفِ ولزوم جماعةِ المسلمين وإمامِهم، ولا ينظُرون إلا إلى قولِ الله لموسَى عليه الصلاةُ والسلام حينما قال: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء: 102]، ونسوا قولَ الله جلَّ وعلا لموسى: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا [طه: 44].
ونراهم كذلك يُمارِسون الإسقاطَ الذهنيَّ فيما لو سرق شخصٌ في المسجِد بأنه ينبغي أن يُهدَم هذا المسجِد، وفيما لو أنَّ مُحجَّبةً غشَّت وخدَعَت بأنه يجبُ نزعُ الحِجابِ، فلا هُم دعَوا إلى قطع يدِ السارق، ولا تعزيرِ تلك التي غشَّت وخدَعت، وإنما دعَوا إلى هدمِ المسجدِ ونزعِ الحِجاب، وهنا مكمَن الانتقائيّة المُتسلِّطة.
ولذا كان من سِمات الانتقائيِّين أنهم يقتُلون النفسَ التي حرَّم الله، ويسألون عن قتلِ الذّباب في الحَرَم! ولسان حالهم يقول:
أصُمُّ عن الأمر الذي لا أريده وأسمع خلقَ الله حين أشاء
ومن سِماتهم أيضًا أنهم لا يَرونَ إلا القذاة، ويغُضُّون الطرفَ عن الورَم، فيُمارِسون الازدواجيّة وخِداع الذات والتنويم الفكريّ للنّفس والمجتمع، من خلالِ أسلوب الإسقاط الذهنيّ والأخلاقيّ؛ لأجل ما تهواه النفسُ وتميلُ إليه، لا لما يجبُ أن يكونَ وفقًا لما أمَر الله به وأمَر به رسولُه ، أو نهى عنه الله ورسولُه .
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ [النور: 51، 52].
بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صَوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسِي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصّلاة والسّلام على من لا نبيَّ بعدَه.
وبَعدُ: فاعلَموا -يا رعاكم الله- أنَّ الانتقائيَّة صِفةٌ مذمومة وعوارٌ مَشين؛ إذ هي تُفقِدُ المصداقيَّةَ والتوازن، وحينما يتَّصِفُ بها شَخصٌ ما فكأنما يحكُم على نفسِه بالسّقوط والحِطَّة من أعينِ ذوي الأفهام السليمَة، فلن ينجَحَ أو يُفلِح والدٌ انتقائيّ ولا صديقٌ انتقائيّ ولا مُعلِّمٌ انتقائيّ، وقولوا مثلَ ذلكم في طالبِ العلم والمُفكِّر والكاتِب والناصِح والسياسيّ.
ومَن حالُه مُلتاثةٌ بالانتقائيّة فستكشِفُه الصروفُ لا محالةَ؛ لأنَّ من استطيَر وراءَ لهب الانتقائيّة فقَد يُصدَمُ غدًا بنقيضِ حاله حينما يحتاج إلى ضدِّ انتقائيَّته الأولى، ولات ساعة استطاعة؛ ولأجل هذا كان مما أوصى به رسولُنا أحدَ صحابَتِه أن قال له: ((ولا تكلَّمْ بكلامٍ تعتذِر منه غدًا)) رواه أحمد وابن ماجه.
ولأجل أن نرفَعَ الانتقائيَّة عن واقعنا -عباد الله- فإنه يجبُ علينا استحضار أمرين مهمّين:
أحدهما: توفيرُ المنظورِ السليم في العَرض.
وثانيهما: شمولُ الرؤية في العرض.
وقد حرِصَ سيِّدنا محمّد على تأكيدِ هَذين الأمرَين في الشابِّ الذي جاء إليه -كما في الحديثِ الصحيح الذي رواه أحمد- وطلبَه أن يأذَن له بالزِّنَا، فقال له النبيُّ : ((أتُحبُّه لأمِّك؟))، قال: لا والله، جَعلني الله فِداك، قال: ((ولا الناسُ يُحبُّونه لأمَّهاتهم))، ثم سأله بعد ذلك: هل يحبُّه لابنته، ولأخته، ولعمته، ولخالته.
ومن هذه القصة يُؤصِّلُ موقفُ النبيِّ في نفوسِنا منهَجًا في الحكمِ على الأشياءِ والتعامُل مَعها، وذلك من خِلال توفُّر عنصُرين أساسَين، وهما: عنصر العدل، وعنصر العلم؛ لأنّه ينبغي علينا في جميعِ شؤوننا أن نَستهدِف الهدايةَ لا الإغاظَة، والتوجيهَ لا الإثارة، والنُّصحَ لا التَّعيير، والتبيينَ للناسِ لا التّنفيس عن المشاعِر الذاتية، والغيرَة للحقّ لا الانتصار للنفس. ولا شك أن أثر النفع من أثرِ القصد، وإذا اختلَّ القصدُ فإنها الانتقائيّة ما منها بُدٌّ.
قال وكيع بالجراح: "أهلُ العلم يكتبون ما لهم وما عَليهم، وأهلُ الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم". وقد وصف أبو الفرَج ابن الجوزيّ رحمه الله بعضًا ممن وقع في الانتقائيّة التي نعني من أهلِ زمانه؛ حيث قال عنهم: "فإذا جاء حديثٌ ضعيفٌ يُخالفُ مَذهبَهم بيَّنوا وجهَ الطَّعن، وإن كان موافقًا لمذهَبهم سكتوا عن الطعنِ فيه، وهذا يُنبِئ عن قلّة دينٍ وغلبَة هوى".
ومَن أراد القَبولَ عند الله وعند الناس -عباد الله- فليشحَذ همَّته إلى الوضوحِ والمصداقيّة واتَّقاء الانتقائية الحالِقة الفالِقة، ولله ما أحسَن ما وُصِف به البخاريّ رحمه الله صاحب "الصحيح"؛ حيث إنّه ذكر مسألةً في ال+اة في كتابه "الصحيح"، فقال عنه شُرَّاحُ صحيحه: "لقد وافق البخاريّ في هذه المسألة الحنفيةَ مع كثرة مخالفته لهم، لكن قادَه إلى ذلك الدليل".
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 135].
هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البريّة وأ+ى البشريّة...
| |
|