molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: ذم الخصومة - سعود بن إبراهيم الشريم الجمعة 11 نوفمبر - 5:30:58 | |
|
ذم الخصومة
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
الحمد لله المبدِئ المعيد، الفعّال لما يريد، أنزَلَ القرآن المجيد فيه وعدٌ ووعيد وتَرغيبٌ وتهديد، لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ. وأشهد أنّ لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً أرجو بها النجاةَ مِنَ الوعيد، وأشهد أنَّ محمدًا عبد الله ورسوله، بشَّر الرشيدَ، وحذَّر العنيدَ، ودلَّ على كلّ أمرٍ حميد، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيّبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبِعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فإنَّ وصيَّتي المبذولةَ لكم -عباد الله- هي تقوى الله ولزومُ الجماعةِ وصفاءُ القلوب والفكاك من العوالقِ البغيضةِ التي تورث الإحنَ وتوقظ الفتنَ وتَذهب بلُبِّ المسلم، وإيّاكم والاختلافَ والفرقةَ؛ فإنهما يهلكان الأممَ ويأكلان الأخلاقَ كما تأكل النارَ الحطَب، وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ [الشورى: 10].
أيّها الناس، إنَّ الخصومةَ بين الناس أمرٌ واقعٌ لا محالةَ بينهم إلا من رحِم ربي؛ لأنَّ كثيرًا من الخلَطاء لَيبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليلٌ ما هم. والأصل في الناس -عباد الله- عدمُ الاختلافِ والخصومة، غير أنَّ ذلك قد طرأ منذ أن قتَل أحد ابني آدَمَ الآخرَ، فانقلبتِ الحال ليصبِح الخلاف والخصوماتُ أمرًا لا مناصَ منه، ثم إنّ النسبيةَ تحكمه بين الحينِ والآخر بحسَب قربِ الناس من شريعتِهم وبعدهم عنها.
والخصومةُ مع الأعداءِ أشدّ منها مع الأصدِقاء، وهي بين الأقرانِ أشدّ منها مع الأبعدين، وفي الجيران أشدّ منها بين الأسرةِ الواحدة، وبين أبناء العمومة أشدّ منها بين الأشقّاء، وهكذا بين الأقرَب فالأقرَب دواليك.
ولأجل هذا -عبادَ الله- جاءتِ الشريعةُ الغرّاء ذامّةً للخصومة، فاضَّةً للنزاع، محذِّرةً من التجاوز فيهما والخروج عن الإطار المشروع لهما، وهو طلَب الحقّ؛ لتجعَلَ مَنْ تجاوز ذلكم ممن التاثَ بسمَة من سمات المنافقين وهي الفجور في الخصومة، الذي هو الميل وتجاوز الحدّ والحق.
وإنه لمن المعلوم أنَّ واقعَ الناس إمّا عباداتٌ أو معاملات، ثم إنَّ المعاملاتِ إمّا أن تكونَ نيةً أو قولا أو عمَلا، ومن تجاوزَ الحدَّ في هذه الأمورِ الثلاثة أو أخلَّ بها ففيهِ من النفاقِ العمليِّ بقدرِ الذي حصَّله منها، وجماعُ ذلكم هو قول النبيِّ : ((آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كَذَب، وإذَا وعَدَ أخْلَف، وإذا اؤتمِنَ خَان)) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية وهي التي تعنينا هنا: ((وإذَا خَاصَمَ فَجَر)).
فالفجور في الخصومةِ هو ثلُث المعاملاتِ؛ لأنّ القول يقابله الكذبُ والفجور في الخصومة، والنية يقابلها إخلافُ الوعد، والعمَل يقابلهُ خيانةُ الأمانة.
الفاجِر في الخصومةِ -عباد الله- هو من يعلَم أنَّ الحقَّ ليس معه فيجادل بالباطل؛ فيقَع فيما نهى عنه الله جلّ وعلا بقوله: ولاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة: 188]. قال بعض السلف: "هذا في الرجل يخاصم بلا بيِّنة ويعرِف أن الحقّ عليه".
الفاجر في الخصومة -عبادَ الله- يسبق لسانُه عقلَه وطيشُه حلمَه وظلمُه عدلَه، لسانه بذيء وقلبُه دنيء، يتلذَّذ بالتهَم والتطاول والخروج عن المقصود.
الفاجر في الخصومة يزيد على الحقِّ مائةَ كذبة، وتَرونه كالذّباب لا يقَع إلا على المساوِئ، ينظرُ بعينِ عداوةٍ لو أنها عين الرضا لاستحسنَ ما استقبَح، لا يعِدّ محاسنَ الناس إلا ذنوبا، فيا لله! كيف يُعتذَر من هذا الغرّ؟! ترونَه أكّالا للأعراض همَّازًا مشاءً بنميم معتديًا أثيما، له طبع كطبع الدود لا يقع على شيء إلا أفسَده أو قذَّره.
الفاجر في الخصومة -عبادَ الله- لا أمانَ له ولا سِتر لديه، فيه طبعُ اللئام، فإن اختَلفتَ معه في شيءٍ حقير كشَف أسرارَك وهتَك أستارَك وأظهَر الماضي والحاضر، فكم من صديقٍ كشف سِتر صاحبه بسبَب خُلف محتَقر، وكم من زَوجة لم تُبقِ سرًّا لزوجِها ولم تذَر بسبَب خُلف على نقصانِ مِلح في طعام أو كِسوة أو نحو ذلك.
ولما كان النفاقُ لؤمًا صار الفجورُ في الخصومةِ ثلثَ هذا اللؤم؛ فيجمَع دمامةَ طبعٍ ولؤمَ لسان، وكذلك اللؤم تتبعه الدّمامة.
ليس العيبُ في مجرّد الخصومة؛ إذ هي واقعٌ لا مناصَ منه في النفوس والعقول والأموالِ والأعراضِ والدين، إذ مَن ذا الذي سيرضَى عنه الناس كلهم؟! ومن ذا الذي إذا رضِي عنه كرام الناس لم يغضب عليه لئامهم؟!
والعجب كلّ العجب -عبادَ الله- أن بعضَ الناس يهون عليه التحفّظ والاحترازُ من أكل الحرام والزّنا والظلم والسرِقة وغير ذلكم ويصعُب عليه التحفظ من لسانه. وكم نرى من مترفِّع عن تلكم الفواحش والآثام ولسانه يفري في الأعراض ولا يبالي ما يقول، فيبغي على خصمه والله جل وعلا يقول: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل: 90].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأنتَ إذا تأمَّلت ما يقَع من الاختلافِ بين هذه الأمّة علمائِها وعُبادِها وأمرائها ورؤسائها وجدتَ أكثرَه من هذا الضّرب، الذي هو البغيُ بتأويل أو بغيرِ تأويل، والأصلُ أنّ دماءَ المسلمين وأموالهم وأعراضَهم محرَّمة مِن بعضهم على بعض، لا تحلّ إلا بإذنِ الله ورسوله ".
ولذا -عباد الله- فإنّ الفاجرَ في الخصومة ليس لديه حدٌّ ولا ضابِط فيها، غايته تبرِّر وسيلتَه، سواء أكان هذا الفاجِر في الخصومةِ في بابِ الحقوق أو العَقائد أو الأخلاق.
ومن نظر إلى واقع المسلمين اليومَ وما يكون فيه من التراشق المقروء والمرئيّ والمسموع لَيجِد لذلك أشكالا وألوانًا، ويسمع رَجعَ صدى لهذه المعرة؛ لتصبح ثقافةُ طالب العلم أو الصحفيّ أو الإعلامي أن الخصومةَ تبيح التطاولَ ليصِل إلى النوايا ولينشرَ المستورَ، ويصبح الحاكمُ الوحيد على مثلِ هذه القلوبِ المريضَة هو عين الرّضا التي تَستر القبيحَ أو عينُ العداوة التي تستقبح الإحسان.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذّكر الحكيم، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأ فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفارا.
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلام على من لا نبيَّ بعده.
وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخصِم كما صحَّ بذلكم الخبر عن النبيّ في الصحيحين وغيرهما. والألدّ هو: الأعوجُ في الخصومة بكذِبه وزوره وميله عن الحق.
ومَن هذه حاله فقد شابهَ مَن أرادَهم الله بقوله: فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا [مريم: 97] أي: مجادلون بالباطل ومائلون عن الحقّ في الجدال والخصومة.
وقد ذكر بعضُ السلف أنَّ مَن أكثر في المخاصمةَ وقع في الكذِب كثيرًا؛ ولأجل هذا قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: "مَنْ جعلَ دينَهُ عُرضةً للخُصومات أسْرعَ التَّنقُّل" أي: لم يستقرَّ على منهَج معين ولا مبدأ واضح.
قال الحافظ بن رجب رحمه الله: "إذا كان الرجلُ ذا قُدرةٍ عند الخصومَة سواء كانت خصومَة في الدّين أو في الدنيا على أن ينتصر للباطل ويخيِّل للسامعِ أنه حق ويوهِن الحقَّ ويخرِجه في صورةِ الباطل كان ذلك من أقبح المحرَّمات وأخبثِ خصال النفاق".
وفي سنن أبي داود عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي قال: ((مَنْ خَاصَمَ في باطِلٍ وهو يعلمُه لم يزلْ في سخَطِ اللهِ حتَّى ينْزِع)).
ولذا فإنَّ اللبيبَ العاقلَ -عباد الله- ليس هو الذي يميّز بين الخير والشر في الخصومةِ فحسب؛ لأنّ كثيرا من الناس يملك هذا التمييز، ولكن اللبيب حقًّا هو من يميّز في مثل هذه الأمور خيرَ الخيرين وشرّ الشّرين، وما سقط من سقَط في الخصوماتِ الدينية والدنيوية العقديّة والفكرية الثقافيّة والإعلامية إلا بسبَب الجهلِ بهذا الأمر العظيم، ولقد أحسن من قال:
إنَّ اللَّبِيبَ إذَا بَدَا لهُ مِنْ جسْمِه مرضَانِ مختلفَانِ دَاوَى الأخْطَرَا
وفي التاريخ من صوَر العدل والإنصاف في الخصومةِ والاختلاف ما لا يُحصى عدُّه، ونضرب لذلكم بمثلين في الاختلافِ العمليّ والعقديّ:
ففي الاختلاف العلميّ: نجد بعض شراح صحيح البخاري يعلِّق على مسألةٍ قد وافق البخاريّ فيها رأي الحنفيّة فيقول: "وافقَ البخاريَ في هذه المسألة الحنفيةَ مع كثرة مخالفتِه لهم، لكن قادَه إلى ذلك الدليل".
ومثل الاختلاف العقدي هو: موقِف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله مع الرّازي المشهور، الذي وقَع في ضلالاتٍ عقديّة ومنكراتٍ منهجيّة؛ فخصّه شيخ الإسلام بكتابٍ بلَغ عشرةَ مجلّدات يرد فيه على ضلالاته. ومع ذلك فقد قال عنه شيخ الإسلام: "ومن الناس من يسِيء الظنَّ به –أي: بالرازي- وهو أنّه يتعمد الكلام بالباطل، وليس كذلك، بل تكلَّم بحسَب مبلغِه من العلم والنظر والبحث في كلّ مقام بما يظهر له".
فلا إله إلا الله! ما أعظمَ العدلَ والإنصافَ في الخصومة والاختلاف! وما أدنأ الظّلم والفجور والتجنّي فيهما!
ولقد أحسن من قال:
وإنَّ خِيَارَ النَّاسِ مَنْ كانَ مُنْصِفًا صَدُوقًا لبِيْبًا صَانَهُ الدِّيْنُ فَانْزَجَرْ
وَإِنْ شِرَارَ النَّاسِ مَنْ كَـــانَ مَائِلًا عَن الحـقِّ إنَّ خَــاصَمْتهُ مرَّةً فَجَرْ
هذا، وصلّوا -رحمكم الله- على خير البرية وأ+ى البشرية...
| |
|