molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: مفهوم الأمن- سعود بن إبراهيم الشريم الجمعة 11 نوفمبر - 5:17:52 | |
|
مفهوم الأمن
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أمّا بعدُ: فيا أيّها الناسُ، إنّ مَن يَسبُر التاريخَ الغابِرَ والحاضِر ببَداهةِ فَهمِه واتِّزان نَظرِه ويتَعَرّف على واقع الأمَم السّالفة والمجتمَعاتِ الحاضِرة فلن يتَطرّق إليه شكّ البتّة في وُجودِ حقيقةٍ ثابِتة ومُبتغًى ينشُدُه كلُّ مجتمع، وأسٍّ لاَ يتغيّر ولا يتبدّل مهمَا توالَت عَليه العصورُ وعصفَت به رياحُ الأيّام التي يداولها الله بين النَّاس، ألا وهو مطلبُ الأمن والأمان. الأمنُ الذي يهنَأ فيه الطعامُ ويَسوغُ فيه الشَّراب ويكونُ فيه النَّهارُ معاشًا والنّومُ سُباتًا والليل لِباسًا.
عبادَ الله، إنّه مَتى اختَلّ إيجادُ الضَّمانات الواقعيَّةِ والإعدادات الشّموليَّة ضدّ ما يعكِّر الصَّفوَ في أجواء الحياةِ اليوميّةِ للمجتمعاتِ المسلمة، إنه متى اختَلّ ذلكم يومًا مَا فاحكُموا على أمانِ النّاس واستقرارِهم بالغَيبة والتّيهِ المفرِزَين الممارسَات اللاّمَسؤولة والإخلالَ المرفوض بَداهةً بكلّ مَا له مساسٌ بالأمن، والذي يُهدِّد رسوَّ سفينة المجتمع المسلم الماخِرة، في حين إنّه لا قَبولَ له بأيّ صِفةٍ كانت، مهما وُضِعَت له المبرِّرات والحيثيّات التي يرفضُها كلُّ ذي عقلٍ حيّ وفؤادٍ ليس هَواءً، وإن استُعمل في نفاذِ مثلِ تلكم الممارسات بعضُ بني أمّتنا وممّن يتكلّمون بلغتِنا، ليجعَلوا نتيجةَ الممارساتِ النشاز في المجتمعِ المسلم عُرضةً لحتفِهم قبلَ حتفِ من سِواهم. ومتى دبَّ في الأمّة داءُ التَّسلُّل أو الافتيات الأمنيّ مِن قِبل بعض أفرادِها فإنّما هم بذلك يهِيلون الترابَ على مفهومِ الاستقرارِ ويقطَعون شَرايينَ الحياةِ عن الأجيالِ الحاضرةِ والآمالِ المرتَقَبة. هذا إن لم تكن تلك الممارساتُ تِكأَةً يتّكئ عليها أعداءُ الإسلام من الكفَرة الحاقدين، ومبرِّرًا سائغًا لهم في تنفيذِ ما مِن شأنِه إيجادُ المسوِّغات المشروعَة ـ بمفهومِهم ـ في التضيِيق المتتالي على حِياض المسلمين، فتأتيهم مثلُ هذه الإخلالاتُ على طبقٍ مِن ذهبٍ ليجتاحوا بلادَ المسلمين بأدنى الحِيل.
أيّها المسلمون، إنّه ينبغِي لنا في هذا المقامِ أن نُدركَ مفهومَ الأمن بمعناه الشّموليّ والواقعيِّ، وأن لا يكونَ محلاّ لضيقِ العطَنِ أو الفهمِ المقلوب لأبعادِه وصُوَره أَو لهما معًا، وذَلكم مِن خِلال قَصرِ مفهوم الأمنِ على نطاقٍ ضيِّق متمثِّلٍ في مجرّد حمايةِ المجتمع من السّرقةِ أو النّهبِ أو القتلِ وأمثالِ ذلك فحسب، كلاّ، فالأمنُ له مفهوم أعمّ من ذلكم وأجَلّ، بل إنّ أوّلَ وأعظمَ مفهومٍ للأمنِ هو في أن يَنطلقَ المجتمعُ المسلم على تقريرِ أنّ عقيدةَ المجتمعِ هِي تحقيقُ شهادةِ أن لا إلهَ إلا الله محمّدٌ رسول الله بالبعدِ عن الشِّرك بالله في ألوهيّتِه وربوبيّتِه وأسمائِه وصفاتِه، والبعدِ عن الشّرك به في حُكمِه، والبُعدِ عنِ الكُفر بملّة الإسلام والإلحادِ فيها، أو تنحيةِ شِرعةِ الباري جلّ شأنه عن واقعِ الحياة، أو مزاحمةِ شرعةٍ غيرِ شِرعةِ الله مَعَ شِرعتِه جلّ وعلا، صِبْغَةَ ٱللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبْغَةً [البقرة: 138]، أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [آل عمران: 83].
كمَا أنَّ مفهومَ الأمنِ ـ عبادَ الله ـ ينبغِي أن لا يُنحَّى عن مراكزِ القُوى في المجتمعاتِ المسلمة، أو يدبَّ التجاهُل فيه دبيبًا ليُنسِيَنا أثرَ هذه المراكزِ الملموسة في أمنِ المجتمعات سَلبًا وإيجابًا. فهناك ما يسمّى: مفهوم الأمن الغذائيّ والأمن الصحيّ الوقائي، وهناك ما يتعلّق بالضوابطِ الأمنيّةِ في مجالِ التكافلِ الاجتماعيّ وتهيئةِ فُرص العملِ والإنتاجِ والقضاءِ على البطالةِ، والعنايةِ بالنشءِ في كلّ ما يُفيد ولا يضُرّ، وحسمِ مادّة البطالة الفكريّة والفراغِ الرّوحيّ أيًّا كان نوعُ ذلكم؛ لكونِه مُثمِرًا الخللَ والفوضَى في الشّبَه والشَّهوات، إضافةً إلى فهمِ النواحي الأمنيّة المنبثِقَة من دراسةِ الظواهر الأسريّة، وما يعترِيها من ثقوبٍ واهتزاز في بُنيتها التّحتيّة، كما أنّه يجِب أن لا نَغفلَ عمّا يُعَدّ هاجِسًا أمنيًّا لكلّ مجتمَع وصمَّاما للفَتح أو الإغلاق لمادّة الإخلال بالأمن، ألا وهو الأمن الفكريّ الذي يحمِي عقولَ المجتمعاتِ ويحفَظها من الوقوعِ في الشّبهاتِ بسَذاجةٍ أو العَبِّ من الشّهوات بنَهم.
ومِثلُ هذا النّوع من الأمنِ لا يَتَسنّى له التّمامُ إلا مِن خلالِ مراعاةِ محورَين أساسِيَين: أوّلهما: محوَرُ الفكر التعليميّ التربويّ، وثانيهما: محوَرُ الأمن الإعلاميّ الثقافيّ، إذ يجِب على الأمّةِ أن لا تَقعَ في مَزالقِ الانحدار والتغريبِ أو التبَعيّة والإخلالِ عبرَ هذين المحورَين، حيث إنّ الأمنَ على العقول لا يَقلّ هاجسًا عن أمنِ الأرواح والأموالِ، فقد نرى للعقولِ لُصوصًا ومختلِسين كما نرى للبيوت لُصوصًا ومختلِسين، فينبغي أن يُحمَى التعليمُ بين المسلمين عَن أن يتَسلّل لِواذًا عن هويّته، بل ويُحمَى من خِلال إيجادِ الآلية الفعّالة التي تُوفِّر سبلَ العِلم النافع الداعِي إلى العملِ الصَّالح، والبُعد عن التبعيّةِ المقيتةِ أو التقليل من شأن العلوم الدينيّة النافِعَة أو استثقالها على النّفوس، أو الاعتراف بها على الاستِحياءِ والتخوُّف المفرِزَين الفتونَ الذي يترَدّد بين الحينِ والآخَر عن مدَى جَدوى الأخذِ بها على مضَضٍ مُقلِق؛ بحجّةِ أنّ مثلَ ذلك ليسَ من أولويّاتِ سوقِ العمَل، فالفكرُ التعليميّ ينبغي أن يُغذّيَ حاجاتِ سوقِ العمَل بخاصّة، وحاجاتِ المجتمع التربويّة بوجهٍ عامّ، ولا غِنى للمجتمع المسلم عن الاثنين جميعًا.
وأمّا محوَرُ الفِكر الإعلاميّ فهو مِقبَض رحَى المجتمعاتِ المعاصِرة وأقنوم تأثيرها الأساس؛ إذ به يُبصَّر الناس ويُرشَدون، وبه يُخدَع النّاس ويغَرَّبون، به تُخدم قضايا المسلمين وتُنصَر، وبه تُطمس الحقائق وتهدَر. بالفكر الإعلاميّ تُعرَف المجتمعاتُ الجادّة من المجتمعاتِ المستَهتِرة، فما يكون فيه من اعتِدالٍ وكمالٍ يكون كمالا في بنيةِ الأمن الإعلاميّ واعتدالاً، فمن الخطأ الفادحِ أن يُترجَم الفكر الإعلاميّ على أنّه جملةٌ من الأفلام الهابطة أو الأغاني الماجنةِ التي لا تعترف بالقيم والمبادئ، ولا ترى للحياء صورةً ولا جسدًا، كلاّ، فهذا غشٌّ في التصوّر، ومن غشّنا فليسَ منّا. كما أنّه يجِب على كلّ صاحبِ لسانٍ فصيح مسمُوع أو قَلَم سيّال مَقروء أن يتحَدّثوا عن شؤونِ المسلمين بكلّ مِصداقيّة وواقعيّة وعدلٍ وإنصافٍ، وأن لا تستهجِنَهم الحوادث وردودُ الأفعال ويستهوِيهم الشيطانُ، فينطلِقوا من خلالِ الحديث المتَشنّج والسِّبابِ المسترسِل والخصامِ الحاجِب للقضيّة الأمّ الذي قد يَفقَأ العين ولا يقتُل العدوَّ، فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى ٱلأرْضِ [الرعد: 17].
إنّ عَزوَ الأمورِ إلى مسبِّباتها الحقيقيّةِ ووضعَ النقاطِ على الحروفِ ينبغي أن يكونَ هو أوَّل طرُق معالجة المعضِلات والقضايا المزعِجَات، وإنّ تجاهلَ الأسبابِ والبواعثِ أو عزوَها إلى غيرِ مصادرها لا يزيدُ الأمورَ إلا تعقيدًا والشّرورَ إلا اتِّسَاعًا، وإنّ العقولَ السليمةَ لتستخِفّ بالطّبيبِ يعزُو سببَ السرطان إلى شرب الماءِ أو استنشاقِ الهواء؛ لأنّ نتيجةَ التَّشخيص أيًّا كانت فعاقبتُها ستَطالُ نفسي ونفسَك أيّها المسلم، أو ولدي وولدك وبنتي وبنتَك وأسرتي وأسرتَك. كما أنّه ينبغِي أن تَكونَ هذه المعالجةُ مِن قِبَل ذوي الاختصاص من العلماء الأفذاذ والحُكماء الموثوقين في دينِهم وأمانَتِهم، دون تشويشٍ أو تهويشٍ أو قيل وقال وظنٍّ وخَرص، فالله جلّ وعلا يقول: قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ ٱلَّذِينَ هُمْ فِى غَمْرَةٍ سَـٰهُونَ [الذاريات: 10، 11]، يقول قتادة رحمه الله: "الخرّاصون هم أهل الغِرّة والظنون"[1].
إنّ إطلاقَ اللِّسانِ وسيَلان الأقلامِ خائضةً في المدلهِمّات ولاتَّةً في النوازلِ دونَ زِمام ولا خِطام لمِن شأنِه أن يُحدِثَ البلبلةَ ويوغِرَ الصدورَ، وأن يُخرجَ المجتمعَ المسلمَ من تشخيصِ النّازلة الواقعةِ إلى التراشُق والاختلافِ وتَصفيةِ الحساباتِ الكامنة في النّفوسِ، ولا تَسألوا بعدَ ذلكَ عن محاولاتِ الفَكّ لرُموز اللّمز والغمزِ والهمزِ بنميم مِن قِبل مشكِّكين في تديُّن المجتمع المسلم وسلامةِ المنهَل الإسلاميّ العذب فيه مِن كلّ تهمةٍ تصيبُه أو تحلّ قريبًا من داره، فيكثُر اللّغط ويقلّ استحضارُ العِلم، فتضمحِلّ العافية والسّلامةُ من الخطأ، فضلاً عن عدم القدرةِ في تقديمِ حلٍّ عاجِل سِوَى الخلطِ والجَهل والتضليلِ، ومن ثمَّ تُزال المشكِلة بأشكَل مِنها، وعلى سبيل المثال: لو سرَق إنسانٌ في المسجِد لعلَت صيحاتُ بعضِ اللّهازِم أو المبغِضين مناديةً بإغلاق المساجد أو هدمِها قطعًا لدابِر السّرقةِ، ولو أنّ امرَأةً محجّبَة غشَّت وخدَعت لسُمِعَ رَجعُ الصدَى للمناداة بنزعِ الحجاب حسمًا لمادّةِ الغشّ والخِداع زعَموا، فلا هُم في الحقيقةِ نادَوا بقطعِ يدِ السّارقِ، ولا طالَبوا بتعزير تلك التي غشّت وخدعت، وإنّما دَعَوا إلى هدمِ المسجدِ ونزع الحِجاب، وهذا هو سِرّ العَجَب، وهو ما يثير الدّهشةَ وينشئ الغلوَّ وردودَ الأفعال، فيتصارَع الإفراطُ والتّفريط على حِسابِ الاعتدالِ المنشود في المجتمعاتِ المسلِمة.
والإسلامُ ـ عبادَ الله ـ يكرَه الثرثرةَ الفارغةَ التي قد تخلُو من ضرَر ملحوظٍ في الباطن، فكيف بالضّرر المتحقِّق في الظاهِر والتّناوشِ المفرِّق؟! يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَـٰجَوْاْ بِٱلْبِرّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [المجادلة: 9].
إِنّ الإسلامَ شَديدُ الوضوحِ في تحديدِ مَوقفِه مِن حريَّة النّقد والحِوار، فهو لا يَرَى أنّ ذلك كلأٌ مُباح لكلّ إنسان، ولا أنّه يَكتُب ويقول ما شاء بما شاءَ كَيف شاء، غيرَ مُقيَّد بضوابطِ الشّرعِ وحدودِه. وإنّ من المؤسِف أن يكونَ مفهومُ حريّةِ التعبير وحريّةِ الحِوار قد شاع مقلوبًا في أذهانِ الأغرار من حمَلة الأقلامِ وعَلِيمي اللسان، فظنّوه لا يعدو إرسالَ الكلام على عواهِنِه وتسويدَ الصَّفحات بضروبٍ من الهَرّ يضُرّ ولا ينفع.
إنّ الأمنَ الإعلامِيّ في المجتمعات لهو أحوجُ ما يكون إلى دِراساتٍ موسّعَة تقتنِص الهدفَ الواعي من خلال دراسةِ أوساطِ المجتمعاتِ المسلِمة والرّبطِ بينها وبين الخلفِيّات الشرعيّة والاجتماعيةِ للطبقةِ الممارسة لمثل هذه الأنشطَة الإعلاميّة الفعّالة. كما ينبغي تحليلُ الأفعال وردودِ الأفعال بين معطَياتِ المتطلّبات الشرعيّة والمتطلّبات الاجتماعيّة وبين متطلَّبات الرّغبات الشخصيّة المحفوفةِ بالشّبهات أو الشّهَوات، وأثر تلكَ المشاركاتِ في إذكاء الحِسِّ الأمنيّ الإعلاميّ والكفايَة الإنتاجيّة لاستقرار المجتمَع العائد للأسَر والأفراد بالنّفع العامّ والهدوءِ اللاّمحدود في الدّارين.
فالواجبُ علينا جميعًا ـ أيّها المسلمون ـ أن ننظُرَ إلى الحقيقةِ الأمنيّةِ من أوسَع أبوابها وأقرَبِ الطّرق الموصِلة إليها، وأن ننزل الأمورَ منازلَها في كلّ المستَجدّات، وأن لا نقحمَ أنفسَنا في القضايا الكِبار التي لا يصلُح لها إلا الكِبار، كلٌّ بما أَوكَل الله إليه من مصالحِ المسلمين ورِعايتِهم وإقامةِ الحقِّ والقِسط فيمن استرعاهم الله، فاللهَ اللهَ أن نزاحِمَ بفضولِ الكلام والقيلِ والقال، وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا [الإسراء: 36].
بارَكَ الله لي ولكم في الكتاب والسنّة، ونفعني وإيّاكم بما فيهما من الآياتِ والذكر والحكمة، قد قلت ما قلت، إن صوابًا فمِن الله، وإن خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفّارًا.
[1] أخرجه الطبري في تفسيره (26/192)، وانظر: تفسير ابن كثير (4/234).
الخطبة الثانية
الحمد لله وحدَه، والصلاةُ والسلامُ على من لا نبيَّ بعدَه.
وبعدُ: فاتَّقوا الله أيّها المسلِمون، واعلَموا أنَ ثمَّة مسلَّمَاتٍ وثوابتَ، ينبغِي أن تُدركَها المجتمعاتُ المسلمة بعامّة، أعني بذلك المجتمعاتِ التي جعَلَت شرعةَ الله غايتَها وبُغيتَها، وهذا التّأكيدُ ينبغِي أن يَتَكرّر كلّما سنَحَت فرصةٌ وادلهمّت خطوب.
فمِن تلك الثوابِت ـ عبادَ الله ـ أنّ عقيدةَ المسلِمين أساسُها التّوحيدُ لله والانقيادُ له بالطاعةِ والخلوصُ من الشّرك، وهيهاتَ هيهاتَ أن يُفلِح أيّ تجسيدٍ عقديّ سِواه، حُنَفَاء للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِى بِهِ ٱلرّيحُ فِى مَكَانٍ سَحِيقٍ [الحج: 31].
وثابتٌ آخَر يؤكِّد أنّ الشريعةَ الإسلاميّةَ شريعةٌ ثابتةٌ مستَقِرّة، تصلُح لكلّ زمانٍ ومكان، ويخضَع لها كلّ شيءٍ، وليس تخضَع هي لكلّ شَيء، منذ بِعثةِ النبيِّ إلى يومِنا هذا، وقد كان المسلمون عبرَ هذه القرون يعيشون بينَ انتصاراتٍ يتواضعون عِندها، وبينَ هزائمَ وخسائرَ يسترجعون فيها ويحَوقِلون، وهم صابرون على ذلك حتّى يأتيَ الله بالفَتح أو أمرٍ من عِنده، وشريعتُهم باقيةٌ لا تتبدّل ولا تتغيّر.
ومِن الثوابتِ أيضًا أنّ الأمّةَ الإسلاميّة مهما بلغَت مِن أوجِ التسلُّح العسكريّ والثورةِ الصناعيّة والعولمة الحضاريَّة فإنّها لا غِنى لها عن العُلَماء الربانيّين والدعاةِ الصادقين الذين تجتمِع عليهم القلوبُ وتتآلَف حولهم النفوس، ينطلقون من فهمٍ صحيح ثابتٍ لكتابِ اللهِ وسنّةِ رسولِه ، فهم النّجومُ الثواقبُ والبدور المضيئة، ولولاهمُ بعد الله لمادَتِ الأرض بأهلِها، ولكن هُم فيها أوتادٌ ورواسي، فهُم عدّة الأمّة في مكافحَة الفِكر الإلحاديّ المنحرِف والدعواتِ المضلِّلة المسعُورة، وهم عُدّتها في كَبح جِماح الغلوّ وتنشيطِ المفرّطين، والعلَماء والدعاةُ لن يتمَكّنوا مِن القيام بهذه المهمّة في ظلّ غِيابِ الثقةِ أو الاعتزاز بهم وسطَ مجتمعاتِهم؛ إذ لا شرفَ للمجتمعِ إلاّ بانتسابِه للإسلامِ والالتفافِ حولَ علمائه أولي النُّهى والصِّدق والأمانة.
هذا وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على خيرِ البريّة وأ+َى البشريّة محمّدِ بن عبد الله صاحبِ الحوض والشّفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنّى بملائكته المسبّحة بقدسه، وأيّه بكم أيها المؤمنون، فقال جلّ وعلا: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56]...
| |
|