molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الصبر والمداومة عليه - داود بن أحمد العلواني السبت 5 نوفمبر - 8:53:56 | |
|
الصبر والمداومة عليه
داود بن أحمد العلواني
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي وعد الصابرين بالأجر من غير حساب، وأثاب الشاكرين على النعم وبشرهم بدوامها فنعم الثواب, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من صبر على أقدار الله وشكر في السراء والضراء بلا اكتئاب, اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الصبر من الدين بمنزلة الرأس من الجسد، وأن شأنه عظيم وعاقبته طيبة من الكريم، وقد جعله الله سبحانه وتعالى من صفات المؤمنين وأهل اليقين، وحثهم عليه في كتابه الكريم فقال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ [البقرة:153]، وقال الله تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200].
وقد شاء الله الحكيم الخبير أن يجعل الصبر هو المحكّ ليكشف معادن الرجال ويمحّص إيمان المؤمنين، فقال الله تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ ٱلْمُجَـٰهِدِينَ مِنكُمْ وَٱلصَّـٰبِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَـٰرَكُمْ [محمد:31].
فالصّبر ـ يا عباد الله ـ من عناصر الرجولة الناضجة، فإن أثقال الحياة لا يقوى عليها المهازيل وأنصاف الرجال، ومن أجل هذا كان نصيب القادة العظماء من العناء والبلاء مكافئًا لما أوتوا من صفات الرجولة وبلاء المعارك وتوجيه الناس إلى خالقهم وتجنيبهم الويلات والنكبات ومواطن العطب، ولما أدوا من أعمال عظيمة؛ ولهذا لما سئل رسول الله : أي الناس أشد بلاءً؟ قال رسول الله : ((أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة))[1]، اللهم ارحم حالنا.
وهكذا فإن الدعاة إلى الله أصحاب القلوب المخلصة الصادقة، وهم أصحاب المبادئ السامية والعزائم القوية، وتجدهم دومًا هدفًا لمشاكل الحياة الكثيرة، أما العاجزون الهاربون من الميدان فماذا يصيبهم؟ وذلك سر قوله : ((من يرد الله به خيرًا يصب منه))[2]؛ وذلك أن المتعرّض لآلام الحياة يدافعها وتدافعه، وهو أرفع عند الله تعالى درجات من المنهزم القابع بعيدًا لا يخشى شيئًا ولا يخشاه شيء، ولهذا ضرب لنا رسول الله المثل في المؤمن الصابر السارب في الحياة والكافر العاجز الهارب من الأعباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الريح، تصرمها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتيه أجله، ومثل الكافر كمثل الأرزة المجذية على أصلها، لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها[3] مرة واحدة))[4]، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
فيا أيها المسلمون، عليكم بالصبر، فإنه ديدن المؤمنين ومنهج السلف الصالحين ودعوة ومسلك الأنبياء والصديقين، ولهذا وصف الله به عباد الرحمن فقال الله تعالى: أُوْلَـئِكَ يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـٰمًا [الفرقان:175]، وقال الله جل وعلا عن أهل الجنة: وَالمَلَـٰئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مّن كُلّ بَابٍ سَلَـٰمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ [الرعد:24].
واعلموا ـ عباد الله ـ أن الصبر يعتمد على حقيقتين أساسيتين:
أما الأولى فتتعلّق بطبيعة الحياة الدنيا، حيث إن الله تعالى لم يجعلها دار جزاء وقرار، وإنما دار تمحيص وامتحان وابتلاء، وقد يمتحن الإنسان بالشيء وضده، كأن يكون الامتحان بالغنى والصحة والنعمة الكثيرة، كما يكون بالفقر والأمراض وغيرها، ولهذا كان سليمان عليه والسلام يقول كما حكى الله عنه في قوله تبارك وتعالى: هَـٰذَا مِن فَضْلِ رَبّى لِيَبْلُوَنِى أَءشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبّى غَنِىٌّ كَرِيمٌ [النمل:40].
وعلى هذا فما دامت الحياة امتحانًا كلّها سواء بالسراء أو الضراء فما علينا إلا أن نكرس جهودنا للنجاح في هذا الاختبار لنكون إن شاء الله تعالى من السعداء، ونتضرع إلى الله تعالى أن يوفقنا إلى ذلك وأن يثبتنا عليه، إنه جواد كريم.
وأما الحقيقة الأخرى فتتعلق بطبيعة الإيمان والذي هو صلة بين الإنسان وربه عز وجل، ولا بد من خضوع هذه الصلة الإيمانية للابتلاء لتمحيصها ومعرفة صدقها من كذبها، وإن كان علم الله محيط بظواهر الأمور وبواطنها كما قال الله عز وجل: قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَا [الطلاق:12] ولكن لحكمة الله وعدله شاء أن يكون حساب الإنسان على عمله الشخصي الذي يثبت للشخص ولغيره صدقه من كذبه، نسأل الله تعالى أن يعاملنا بلطفه لا بعدله، فقال الله تعالى: الـم أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَـٰذِبِينَ [العنكبوت:1-3].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه الترمذي في الزهد، باب: ما جاء في الصبر على الابتلاء (2398)، وابن ماجه (4023)، والدارمي (2/320)، وصححه الترمذي، وابن حبان (699)، والحاكم (1/40)، ووافقه الذهبي.
[2] رواه البخاري في المرض، باب: ما جاء في كفارة المرض (7/4).
[3] الانجعاف: الانقلاع، يقال: جعفت الشيء أي: أقلعته.
[4] رواه البخاري في المرض، باب: ما جاء في كفارة المرض (7/1)، ومسلم في صفات المنافقين، باب: مثل المؤمن كالزرع (2810).
الخطبة الثانية
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليمًا.
أما بعد: فيا عباد الله، اتقوا الله، واعلموا أن الصبر أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على النوازل من أقدار الله تعالى، فليلتزم المؤمن الصبر على أيّ حال، فعاقبته حميدة مهما كانت الأحوال.
فأما الصبر على الطاعة فأساسه أن كلّ ما أمر الله به من صلاة و+اة وصيام وحج وجهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ونصح وإرشاد وتوجيه ومحاضرة وموعظة وكلمة وكتابة وبيان وغير ذلك مما أمر الله به، فكل هذا يحتاج للقيام به والمداومة عليه إلى تحمّل ومعاناة كما قال الله تعالى في الصلاة: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلوٰةِ وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا [طه:132]، وقال الله جل وعلا: وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى ٱلْخَـٰشِعِينَ [البقرة:45].
وأما الصبر عن المعاصي فهو عنصر المقاومة للمغريات التي تعترّض عباد الله وتزيّن لهم اقتراف المعاصي المحظورة، ولهذا قال رسول الله : ((حفّت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات))[1]، أعاذنا الله من الشهوات المحرمة.
وأما الصبر على النوازل التي تصيب المؤمن في نفسه أو ماله أو أهله فتلك أعراض يجب أن تكون متوقَّعة من كل مؤمن؛ لأن الحياة لا تخلو منها، فما على الإنسان إلاّ أن يحتمي بالله ويستعين ويستغيث بالله ويلجأ إليه، وأن يتذكّر دومًا ما في الصبر على ذلك من الأجر والثواب وتكفير السيئات ورفع الدرجات، قال الله تعالى في كتابه العزيز: وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ ٱلْخَوفْ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ ٱلأمَوَالِ وَٱلأنفُسِ وَٱلثَّمَرٰتِ وَبَشّرِ ٱلصَّـٰبِرِينَ ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوٰتٌ مّن رَّبْهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ [البقرة:155-157]، اللهمّ وفّقنا للتأدّب بآداب القرآن.
وصلّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126].
[1] رواه مسلم في صفة الجنة ونعيمها، في فاتحة الكتاب (2822).
| |
|