molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سلامة الصدر - خالد بن عبد الله المصلح الجمعة 4 نوفمبر - 3:28:14 | |
|
سلامة الصدر
خالد بن عبد الله المصلح
الخطبة الأولى
أما بعد: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران:102].
واعلموا ـ أيها المؤمنون ـ أن من لوازم التقوى سلامة الصدر من الغل والحقد والحسد والضغائن والرذائل، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1]. ولا يكون صلاح ذات البين إلا بسلامة الصدر من تلك الآفات.
لذا فإن دين الإسلام قد حرص حرصًا شديدًا على أن تكون الأمة أمةً واحدة؛ في قلبها وقالبها، تسودها عواطف الحب المشترك، والود الشائع، والتعاون على البر والتقوى، والتناصح البناء الذي يثمر إصلاح الأخطاء، مع صفاء القلوب وتآلفها، دون فرقة وغل وحسد ووقيعة وكيد وبغي.
وقد جاءت الآيات القرآنية والآثار النبوية منسجمة متناسقة متضافرة لتحقيق ذلك المقصد الشرعي الكبير.
فمن تلك الآيات قول الله تعالى في الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]. فالأخوة الإيمانية تعلو على كل خلاف مهما اشتدت وطأته واضطرمت شدته وبلغ حد الاشتباك المسلح.
أما الأحاديث فمنها قوله : ((لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان[1]، ومنها قوله : ((المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه. رواه الشيخان[2].
ولقد ضرب الصحابة رضي الله عنهم أروع الأمثلة في سلامة القلوب وطهارة الصدور، فكان لهم من هذه الصفة أوفر الحظ والنصيب، فلقد كانوا رضي الله عنهم صفًا واحدًا، يعطف بعضهم على بعض، ويرحم بعضهم بعضًا، ويحب بعضهم بعضًا، كما وصفهم جل وعلا بذلك حيث فقال: وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9]، وكما قال جل ذكره في وصفهم: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29].
ولقد كان لسلامة الصدر عندهم منزلة كبرى، حتى إنهم جعلوها سبب التفاضل بينهم، قال إياس بن معاوية بن قرة عن أصحاب النبي : كان أفضلهم عندهم أسلمهم صدرًا وأقلهم غيبة. وقد قال سفيان بن دينار لأبي بشر أحد السلف الصالحين: أخبرني عن أعمال من كان قبلنا، قال: كانوا يعملون يسيرًا ويؤجرون كثيرًا، قال سفيان: ولم ذاك؟! قال أبو بشر: لسلامة صدورهم.
أيها المؤمنون، إن المرء لا ينقضي عجبه من ذلك الجيل الصالح الكريم، حيث إن قلوبهم بقيت صافية وسليمة طيبة السريرة رغم ما وقع بينهم من فتن كبار، أشهرت فيها السيوف، واشتبكت فيها الصفوف، فلا إله إلا الله ما أطيب المعشر وأكرمه.
ومن تلك المواقف ما حفظه التاريخ عن الشعبي رحمه الله قال: رأى علي بن أبي طالب طلحة بن عبيد الله في وادٍ مُلقى بعد وقعة الجمل التي كانت بين علي وبين عائشة وطلحة وال+ير رضي الله عنهم، فنزل فمسح التراب عن وجه طلحة وقال: (عزيز علي ـ يا أبا محمد ـ أن أراك مجندلاً في الأودية تحت نجوم السماء، إلى الله أشكو عُجري وبجري).
أيها المؤمنون، إن سلامة الصدر خصلة من خصال البر عظيمة، غابت رسومها، واندثرت معالمها، وخبت أعلامها، حتى غدت عزيزة المنال، عسيرة الحصول، مع ما فيها من الفضائل والخيرات. وها أنا ذا أذكر بعض فضائلها، عسى أن تكون حافزة لنا على الأخذ بها والحرص عليها، فإنه قبل الرماء تملأ الكنائن.
فمن فضائل سلامة الصدر أنها صفة أهل الجنة، الذين هم خير أهل ومعشر، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
ومن فضائل سلامة الصدر أن صاحبها خير الناس وأفضلهم، فإن النبي قد سئل: أي الناس أفضل؟ فقال: ((كل مخموم القلب، صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال : ((هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل ولا حسد)) رواه ابن ماجه بسند لا بأس به[3]. فبدأ بالتقوى التي تثمر صفاء القلوب وسلامتها من الآفات والرذائل.
أيها المؤمنون، إن من فضائل سلامة الصدر أنها معينة للقلب على الخير والبر والطاعة والصلاح، فليس أروح للمرء ولا أطرد للهّم ولا أقرّ للعين من سلامة الصدر على عباد الله المسلمين.
ومن فضائل سلامة الصدر أنها تقطع سلاسل العيوب وأسباب الذنوب، فإن من سلم صدره وطهر قلبه عن الإرادات الفاسدة والظنون السيئة عف لسانه عن الغيبة والنميمة وقالة السوء.
ومن فضائل سلامة الصدر أن فيها صدق الاقتداء بالنبي ، فإنه أسلم الناس صدرًا، وأطيبهم قلبًا، وأصفاهم سريرة. وشواهد هذا في سيرته كثيرة، ليس أعظمها أن قومه أدموا وجهه يوم أحد، وشجوا رأسه، و+روا رباعيته، فكان يمسح الدم ويقول: ((اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
[1] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
[2] أخرجه البخاري في الأدب (5567), ومسلم في البر والصلة (4684).
[3] أخرجه ابن ماجه في الزهد (4206) وسنده لا بأس به.
الخطبة الثانية
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله، وطيبوا قلوبكم، وطهّروها من الآفات كما أمركم الله تعالى حيث قال: وَذَرُوا ظَاهِرَ الإثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام:120]، فإن سوء الطوية وفساد الصدور ومرض القلب من باطن الإثم الذي أمرتم بتركه.
أيها المؤمنون، اعلموا أنه لا نجاة ولا فلاح للعبد يوم القيامة إلا بأن يقدم على مولاه بقلب طيب سليم، كما قال الله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89]، وصاحب القلب السليم هو الذي سلم صدره وعوفي فؤاده من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدينا والرياسة، فسلم من كل آفة تبعد عن الله تعالى.
أيها المؤمنون، إن لسلامة الصدر أسبابًا وطرقًا لا بد من سلوكها، فمن تلك الأسباب:
الإخلاص لله تعالى، فعن زيد بن ثابت مرفوعًا: ((ثلاث لا يُغِل عليهن صدر مسلم: إخلاص العمل لله عز وجل، ومناصحة أولي الأمر، ولزوم جماعة المسملين)) رواه أحمد بسند صحيح[1]. قال ابن الأثير عند هذا الحديث: "إن هذه الخلال الثلاث تُستصلح بها القلوب، فمن تمسك بها طهر قلبه من الخيانة والدخل والشر".
ومن أسباب سلامة الصدر الإقبال على كتاب الله تعالى الذي أنزله شفاء لما في الصدور، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [يونس:57]، فكلما أقبلت ـ يا عبد الله ـ على كتاب الله تلاوة وحفظًا وتدبرًا وفهمًا صلح صدرك وسلم قلبك.
ومن أسباب سلامة الصدر دعاء الله تعالى أن يجعل قلبك سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانك المؤمنين، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
أيها المؤمنون، إنّ من طرق إصلاح القلب وسلامة الصدر إفشاء السلام بين المسلمين، ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم))[2].
وقد أجاد من قال:
قد يمكث النـاس دهرًا ليس بينهم ودّ فيزرعه التسليم واللطفُ
ومن أسباب سلامة الصدر الابتعاد عن سوء الظن، فإنه بئس سريرة الرجل، قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ [الحجرات:12]. وقد قال النبي : ((إياكم والظن؛ فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا)) رواه الشيخان[3]. فانظر كيف بدأ بالنهي عن سوء الظن؛ لأنه الذي عنه تصدر سائر الآفات المذكورة في الحديث، فالواجب عليك ـ يا عبدالله ـ أن تطهر قلبك من سوء الظن ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون، هذه بعض أسباب صلاح القلب وسلامة الصدر، فإنه من صدق في طلبها أدركها، فـ:
لو صحّ منك الهوى أرشِدتَ للحيَـل
اللهم إنا نسألك صدورًا سليمة، وقلوبًا طاهرة نقية، اللهم طهر قلوبنا من الشرك والشك والنفاق وسائر الآفات.
[1] أخرجه أحمد من حديث زيد بن ثابت (12871) وسنده صحيح.
[2] أخرجه مسلم في الإيمان (81).
[3] أخرجه البخاري في الأدب (5604), ومسلم في البر والصلة (4646).
| |
|