molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سلامة الصدر - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 4:48:57 | |
|
سلامة الصدر
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أما بعد: عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، فمن اتقى الله دله على كل خير.
إن عقد الأخوة بين الناس رابطة وثيقة، ذاك أن الإنسان إما أن يكون وحدَه أو مع غيره، وإذا تعذّر عيش الإنسان وحده إلا بمخالطة من هو من جنسه لم يكن له بد من تعلّم آداب المخالطة، وكل مخالط ففي مخالطته أدب، والأدب على قدر حقه، وحقه على قدر رابطته التي بها وقعت المخالطة.
إنّ حقوق الناس على الإنسان كثيرة، ولكن حق الوالدين آكد من حقّ الرحم، وحقّ الجار القريب آكد من حق الجار البعيد، وحق الصاحب في الدرس والعمل آكد من حق صاحب السفر.
وإن الله سبحانه ليجمع بين أناس متباعدين كما قال في صحيح مسلم: ((الأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)). فلا بد للإنسان بعد هذا أن يكون له أصحاب ورفقاء، وإذا أراد الله بعبدٍ خيرًا وفّقه لمعاشرة أهل السنة والصلاح والدين، ونزّهه عن مخالطة وصحبة أهل الأهواء والبدع المخالفين.
إبليس لعنه الله لما طرده الله من الجنة جعل على نفسه عهدًا أن يضلّ الناس وينشر العداوات بينهم، فهذا أول ذنبٍ عصي الله به في الأرض وكان بين أخوين متصافيين، دخل الشيطان بينهما حتى حمل أحدهما على قتل أخيه، وما كان إلا بسبب الشيطان.
إن التعامل مع الناس والدخول معهم يتطلّب من الإنسان جهادًا وصبرًا، ولهذا فقد عظّم الرسول المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم على من لم يخالطهم، روى الترمذي وابن ماجه أن رسول الله قال: ((المسلم الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المسلم الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)).
الناس ليسوا على طريق واحد، والشيطان ينزع بينهم، يكبِّر الأمر الصغير ويزرع الشرّ وينشر الفتنة. وإن الشحناء وتتبع العثرات بين الناس لإحدى خدع الشيطان وطرائقه. وإن الشيطان ليجمع هفوات الشخص عند صاحبه حتى تصير مثل الجبل، ولو صفّى الإنسان فكره لوجدها مجموعة أوهامٍ وخيالاتٍ، نسجُها كنسج العنكبوت، ولكن الشيطان يعمي الإنسان ويصمه.
إن الكمال لا يكون إلا لله، فلا شخص مبرأ من زلل وسهو، ولا سليم من نقص أو خلل، ومن رام سليمًا من هفوة أو التمس بريئًا من نَبوةٍ فقد تعدّى على الدهر بشططه، وخادع نفسه بغلطه، يقول بعض الحكماء: "لا صديق لمن أراد صديقًا لا عيب فيه".
وإذا الدهر ـ عباد الله ـ لا يوجِد للإنسان ما طلب، والمنقطع عن الناس متوحّش، كان على الإنسان أن يخالط الناس بالصفح والإغضاء، يقول أحدهم: "ثلاث خصال لا تجتمع إلا في كريم: حسن المحضر، واحتمال الزلة، وقلة الملال".
إن العداوة بين الناس لا ينبغي أن تكون لأيّ سبب، يقول أبو حاتم: "العاقل لا يعادي على الحالات كلّها؛ لأن العداوة لا تخلو من أن تكون لأحد رجلين: إما حليم لا يؤمَن مكره، أو جاهل لا يؤمن شتمه، ولا يجب على العاقل إذا عادى أن يغرّه إحسانه إلى عدوّه وما يرى من سكونه إليه، فإن الماء وإن أطيل إسخانه حتى غلا فإن حرارته ليست بمانعته من إطفاء النار إذا صبّ عليها، ولا يجب على العاقل أن يعظم عليه حمله عدوّه عاتقه إذا وثق بحسن عاقبته؛ لأن اللين والمكر أنكى في العدوّ من الفظاظة والمكابرة".
إن الواجب على المرء أن يطلب العذر لأخيه إذا أخطأ عليه قدر الإمكان، يقول ابن مازن: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثراتهم"، وجاء في حديث مرسل: ((من اعتذر إليه أخوه المسلم فلم يقبل عذره فعليه مثل صاحب م+)). ويقول ابن القصار: "إذا زل أخ من إخوانك فاطلب له تسعين عذرًا، فإن لم تقبل ذلك فأنت المعيب لا هو"، ويقول الحسن بن علي: (لو أن رجلاً شتمني في أذني هذه واعتذر في أذني الأخرى لقبلت عذره)، ويقول أبو الدرداء: (معاتبة الأخ أهون من فقده، ومن لك بأخيك كلّه)، وقال آخر: "من لك بأخيك كله، لا تستقص عليه فتبقى بلا أخ".
الناس في قبول الاعتذار وتقبّل الأخطاء نوعان:
فنوع يرى أن الصديق إذا أحدث نَبوةً وتغيّرًا والأخ إذا أوجد جفوةً وتنكرًا ثم أبدى صفحة الاعتذار رأى أن حقّ الأخوة والصحبة أعظم من تتبّع الزلات، ويرى أن مثل هذا مثل الأمراض التي تعرض للبدن إن عولجت أقلعت وإن ترِكت أسقمت ثم أتلفت.
ومن الناس نوع يرى أن متاركة الإخوان إذا نفروا أصلح واطراحهم إذا فسدوا أولى، كأعضاء الجسم إذا فسدت كان قطعها أسلم، وإن تركها سرت إلى نفسه فأهلكته، وهذا مذهب من قلّ وفاؤه وضعف إخاؤه وساءت طرائقه وضاقت خلائقه، يقابل على الجفوة ويعاقب على الهفوة.
الشحناء بين النّاس من الذنوب المانعة من المغفرة، روى الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله قال: ((تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكلّ عبد لا يشرك بالله شيئًا، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناء فيقول: أنظروا هذين حتى يصطلِحا)). فانظروا كم من أعماله موقوفة لم يغفر له. ولقد جاء في الحديث الآخر نهي المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام حتى لا يورث طول الهجر عداوةً دائمة وشحناء مستمرة، ولهذا صار خيرهما الذي يبدأ بالسلام.
إن سلامة الصدر من أنواع الشحناء كلِّها من أفضلِ الأعمال، روى ابن ماجه بسند لا بأس به عن عبد الله بن عمرو قال: قيل: يا رسول الله، أي الناس أفضل؟ قال: ((كل مخموم القلب صدوق اللسان))، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: ((هو التقي النقيّ الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)). وروى الإمام مسلم أن النبي قال: ((إن الله يحبّ العبد التقي الغني الخفي)). ولقد كان حبس الإنسان نفسه عن أذية الناس من أفضل الأعمال، روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أنه قال: سأل رجل رسول الله : أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله، والجهاد في سبيل الله))، قال: فإن لم أستطع؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنع لأخرق))، قال: فإن لم أفعل؟ قال: ((فاحبس نفسك عن الشر، فإنها صدقة تصدقتَ بها على نفسك))، وفي رواية: ((احبس شرَّك عن الناس، فأنها صدقة منك على نفسك)).
لقد وصف الله المؤمنين بأنهم يقولون: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10]، ويقول سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [البقرة:237]، ويقول الفضيل بن عياض: "الفتُوّة الصفح عن عثرات الإخوان".
إن الصفح عن الزلات سبب لمغفرة الذنوب والخطيئات، ولقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينفق على مِسطح وغيره من الفقراء، فلما كان من حادثة الإفك ما كان وتكلم مسطح بما تكلم به حلف أبو بكر أن لا ينفق على مسطح وأصحابه، فأنزل الله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، فقال أبو بكر: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع بالنفقة على مسطح، وقال: لا أنزعها منه أبدًا. متفق عليه.
اللهم طهر قلوبنا من الغل والحسد، اللهم اسلل سخيمة قلوبنا، ونزه ألسنتنا عن عرض غيرنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فروى الإمام أحمد في مسنده عن أنس رضي الله عنه قال: كنا جلوسًا مع رسول الله فقال: ((يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة))، قال: فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من الوضوء قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي مثل مقالته أيضًا، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي تبع عبد الله بن عمرو بن العاص الرجل وقال له: إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثًا، فإن رأيت أن تؤويني عندك حتى تنتهي، قال الرجل: نعم. قال أنس: وكان عبد الله بن عمرو يحدث: أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلما مضت وكدت أحتقر عمله، قلت: يا عبد الله، إني لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجر، ولكن سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرار: ((يطلع عليكم رجل من أهل الجنة)) فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما تعمل، فلم أرك تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما بلغ؟ قال الرجل: ما هو إلا ما رأيت، إلا أني أبيت وليس في قلبي شيء على أحدٍ من المسلمين، ولا أحسد أحدًا على خيرٍ أعطاه الله إياه، فقال عبد الله: هذه التي بلغتَ بها وهي التي لا نطيق.
متى تنتهي العداوات بين الناس؟! متى تزول الشحناء والحقد بين الإخوان؟! إنك لتجد الرجلين في مكانٍ واحدٍ وفي قلبيهما مثل الجبل من الحقد، أخوان خرجَا من رحمٍ واحدٍ لا يداني أحدهما أخاه، جاران لا يفصل بينهما إلا مجموعة أحجارٍ وإنّ الشر ليتطاير من أحدهما تجاه الآخر.
إن الحياة لا تدوم على مثل هذه الحال، ولقد روي عن أبي الدرداء أنه قال لزوجته أم الدرداء: (إذا غضبتُ فرضِّيني، وإذا غضبتِ رضَّيتُك، فإننا إن لم نفعل افترقنا سريعًا)، ويقول بعض السلف: "أفضل الأعمال سلامة الصدور وسخاوة النفوس والنصيحة للأمة، وبهذا بلغ من بلغ، لا بكثرة الاجتهاد في الصلاة والصوم".
فصلوا وسلموا على خير الورى محمد ...
| |
|