molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: آفات اللسان - أحمد بن عبد الكريم نجيب الثلاثاء 18 أكتوبر - 10:23:52 | |
|
آفات اللسان
أحمد بن عبد الكريم نجيب
الخطبة الأولى
أمّا بعد: عبادَ الله، فإنَّ الإسلام حثَّ على الخلق الكريم وأعلى قَدره، وحذَّر من الخلق الذميم وأكفَأَ قِدْره، حتى قُبِض رسول الله وما من خير إلا دلّنا عليه، ولا شر إلا حذّرنا منه وأخذ بِحُجَزِنا فصرفنا عنه.
والمرءُ ـ يا عبادَ اللهِ ـ بأصغَرَيه: قلبِهِ ولسانِه كما قال عمرو بن معد يكرب. وعلى صلاحهما وفسادهما يكون صلاح الإنسان أو فساده، وقد تناولنا في خطبةٍ سابقةٍ أمراضَ القلوب تشخيصًا وعلاجًا.
وتتميمًا للفائدة وتعميمًا للذكرى نتناول اليومَ بالذِكرِ آفات اللسان ونقف على بعض أمراضها وأخطارها، علَّ الله تعالى يوفقنا لتوقّي الوقوعَ فيها، وتحاشي أضرارها.
روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه عن رسول الله ، أنّه قال: ((من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة))، وقال عليه الصلاة والسلام لمعاذ بن جبل: ((وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟!)) رواه الترمذي وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وقد أحسن من قال في التحذير من آفات اللسان:
احفَظ لسانَكَ أيُّهـا الإنسانُ لا يَلـدغَنَّكَ إنَّـه ثُعبـانُ
كم في المقابِرِ من لديغِ لِسانِه كانت تهابُ نِزالَهُ الشُجعانُ
عبادَ الله، آفات اللسان كثيرة، ومدارُها جميعًا على الاسترسال في القيل والقال، وبَسطِ الكلام، وإرسال المقال، وهذه آفةٌ مُوبِقةٌ، حذَّر منها خير الخلق فيما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله : ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا ويكره لكم ثلاثًا، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، ويكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)).
ومن أشنَع آفات اللسان الاستطالة في أعراض المؤمنين بغير حقٍّ، ومَن عَرَفَ حقيقة الإسلام ومبادِئه وَقَفَ على نكيره على من استطال في عرض أخيه المسلم، فأوسعه استنكارًا، وتوعَّدَه نارًا، قال تعالى: وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا [الأحزاب:58].
روى الحافظ ابن كثير في تفسير هذه الآية عن قتادة قوله: فإياكم وأذى المؤمن, فإن الله يحوطُه, ويغضب له. وقوله: فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَـٰنًا وَإِثْمًا مُّبِينًا يقول: فقد احتملوا زورًا وكذبًا وفِريةًَ شنيعةً; والبهتان أفحش الكذب، وَإِثْمًا مُّبِينًا يقول: وإثما يبين لسامعه أنه إثم وزور. اهـ.
وقال سبحانه وتعالى: وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ [الحجرات:12].
وروى مسلم والترمذي وأبو داود وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟)) قَالُوا: اللَّهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ))، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ)).
وفي الإحياء أن الحسن رحمه الله قال: "ذِكرُ الغير ثلاثة: الغيبة، والبهتان، والإفك، وكلٌ في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك".
وروى الشيخان عن أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله قال في خطبة حجة الوداع: ((إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، ألا هل بَلَّغت؟!)). وصحّ أيضًا قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْض أخيه)) السلسلة الصحيحة (1433). وليت شعري، أيُّ استطالة في عرض المسلم أشنع من أن يُذْكر بما يكره في غَيْبته فَيُحَطّ من قدره، ويُنْقَص من شأنه؟!
لقد حرم الإسلام الغيبة، وما كان تحريمها عبثًا في دين قدَّم دَرْء المفاسد على جلب المصالح، وجعل التخلية أولى من التحلية؛ بل حُرِّمت بعد أن ثبت لذوي الألباب كونها ذريعة إلى تفكيك المجتمع وتمزيق شمله وحَلِّ عُراه.
فبالغيبة تنتعش الأحقاد، وعلى مائدتها تتوالد الخصومات، ومن أفواه لائكيها تتطاير الجراثيم وتنتشر الأَرَضة، وتتسلط على جسد الأمة فتنخره وتُحيله كعصفٍ مأكولٍ.
وداءٌ كداء الغيبة لا يُنجعه دواء، ولا يُدْرِكُ صاحبَه شفاء، الأمر الذي من أجله انعقد الإجماع على استئصاله من جذوره واقتلاعه من عروشه، فكان الحُكم الفصل تحريمَ الغيبة إجماعًا كما حُرِّمَتْ كتابًا وسنةًً، وحكى الإجماعَ على تحريمها أئمّة أعلام كابن حزم والنووي وابن حجر والغزالي والقرطبي وغيرهم، ولم يرخّصوا في شيءٍ منها سوى ستّة صُوَرٍ مستثناةٍ من التحريم للحاجة إليها في جلب المصالح ودرء المفاسد، وقد أحسَن من نظَمَها في قوله:
القدْحُ ليس بغيبـة في ستة: متظلمٍ ومعـرِّف ومحـذر
ومجاهرٍ فسقًا ومستفتٍ ومَن طلب الإعانة في إزالة مُنكرٍ
ولتفصيل الكلام في هذه الأمور الستّة مقام آخر عسى أن يكونَ قريبًا.
عبادَ الله، لا يقل في الخطورة والتحريم عن داء الغيبة داءٌ عضال آخر وآفة آخرى من آفات اللسان هي آفة السعي بين الناس بالنميمة، وهي كالغيبة في التحريم بالنصّ والإجماع.
روى الشيخان وغيرهما عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنّ رسول الله قال: ((لا يدخل الجنّة نمّام)) وفي رواية: ((قتّات))، والمعنى واحد، وقيل كما في فتح الباري: الفرق بين القتّات والنمام أن النمام الذي يحضر فينقلها، والقتات الذي يتسمع من حيث لا يعلم به ثم ينقل ما سمعه.
والنميمة من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، فقد روى الشيخان وأصحاب السنن وغيرهم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ رسول الله مر على قبرين فقال: ((أما إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله)).
عبادَ الله، من آفات الألسُن أيضًا تتبّع زلاّت العلماء والتذرّع بها إلى الطعن في بعضهم والنيل من آخرين واتّخاذُهم عَرَضًا، بدعوى أنّ ذلك من النصيحة لله ولرسوله، ومن الذبّ عن شريعته الغراء المطهّرة.
رويَ عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: (ويلٌ للأتباع من عثرات العالِم)، قيل: وكيف ذاك؟ قال: (يقول العالم شيئًا برأيه ثم يجد من هو أعلم منه برسول الله فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع) [الموافقات للشاطبي (3/318)، والفتاوى الكبرى لابن تيميّة (6/96)]. وعنه رضي الله عنه أنّه قال: (ويلٌ للعالم من الأتباع) أي: لما يتابعونه فيه ويتناقلونه عنه من الزلات.
ومِن آفات اللسان إساءةُ الأتباع إلى العلماء بإشاعة أقوالهم في أقرانهم، مع أنّ المقرّر عند أهل العلم أنَّ كَلامَ الأَقْرَانِ يُطْوَى ولاَ يُرْوَى، كما قال الإمام الذهبي رحمه الله في السير (5/275).
وما أجمل قول الإمام السبكي رحمه الله: "ينبغي لك ـ أيها المسترشد ـ أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا ببرهان واضح، ثم إن قدرت على التأويل وتحسين الظن فدونك، وإلا فاضرب صفحًا عما جرى بينهم، فإنك لم تخلق لهذا، فاشتغل بما يعنيك ودع ما لا يعنيك" طبقات الشافعية (2/39).
فليتّق الله أقوام مثلهم كمَثَل الذباب لا يقعون إلا على الجِراح كما جاء في وصف شيخ الإسلام ابن تيميّة رحمه الله بعضَ من عاشوا في زمنه.
يا ناطحَ الجبلِ العالي لتَكْلِمَهُ أشفِق على الرأسِ لا تُشفِق على الجَبَلِ
عباد الله، إنّ لما ذكرناه وما لم نذكره من آفات اللسان مرتعٌ خصبٌ في حياةٍ ملؤها الفراغ والدعة، كحياة الكثيرين منّا؛ إذْ كُفلتْ أقواتُهم، وما ضُبِطَت أقوالُهم، فاستشرَت آفاتُ ألسنتهم عن علمٍ تارةً، وعن جهالةٍ تاراتٍ أُخَر.
إنَّ الفراغ والشبابَ والجِده مفسدةٌ للمرءِ أيُّ مَفسده
فاتقوا الله يا عباد الله، واشغلوا أوقاتكم وعطّروا مجالسكم بما يرضي الله ويكفُّ عن الوقوع في محارمه، واعلموا أنّ الحرام للبركة ممحقة، وأن المعاصي لأسباب السعادة مُسحقة، والندامة بمقترفها لاحقة.
وفّقني الله وإيّاكم لخيرَيْ القول والعمَل، وعصمنا من الضلالة والزلل.
وصلّى الله وسلّم وبارك على نبيّّّه محمّد وآله وصحبه أجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عِوَجًا، فصَّلَ وبيَّنَ وقرَّر صراطًا مستقيمًا ومنهجًا، ونَََصَبَ ووضَّح من براهين معرفته وتوحيده سلطانًا مبينًا وحُجَجًا. أحمده سبحانه حمدَ عبدٍ جَعلَ له من كلِّ همٍّ فَرَجًا، ومن كلِّّّ ضيقٍ مَخرَجًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ترفَعُ الصادقين إلى منازل المقرّبين دَرَجًا، وأشهد أنَّ محمّدًا عبدُه ورسوله الذي وَضَعَ الله برسالته آصارًا وأغلالاً وحَرَجًا.
وبعد: فيا أمّةَ الإسلام، إذا تبيّن عِظَم الداء فلا بدّ من التماس الدواء، ودواء من ابتليَ بشيءٍ من آفات اللسان أن يبادر إلى الإقلاع والتوبة إلى الله تعالى قبل أن لا يكون درهم ولا دينار.
روى مسلم والترمذي وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟)) قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ ولا مَتَاعَ، فَقَالَ: ((إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وصِيَامٍ وزَكَاةٍ ويَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وأَكَلَ مَالَ هَذَا، وسَفَكَ دَمَ هَذَا، وضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْه، أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ)).
فليبادر من ابتلي بآفات اللسان وبخاصةٍ الغيبة إلى التوبة، وليعلَم أنّ التوبة من ذنبٍ كهذا لا بدّ أن تتوفّر فيها شروط التوبة العامّة الثلاثة، وهي: الإقلاع عن الذنب، والندم على ما فات من فعله، والعزم على عدم العودة إليه مستقبلاً. ويضاف إلى هذه الشروط أن يتحلّل ممّن أساء إليه.
وعلى التائب منها أن يراعي المصلحة والمفسدة قبل أن يعتذر ممّن أساء إليهم، فإن لم تكن الغيبة قد بَلَغت المغتاب فالأولى عدم طلب السماح منه، والاكتفاء بالرجوع عن الغيبة أمام من سمعها، وتبرئة ساحة من طالته بالرجوع عنها، والتعريف بمحاسنه والثناء عليه بما فيه.
أمّا إذا كانت الغيبة قد بلغت المقصود بها، فإن غَلَب على ظنّ الواقع في الغيبة أنّ من سيعتذر منهم يقبلون اعتذاره بادرهم به، وإن رأى أنّ إصلاح ذات البين يمكن تحقيقها بالتلطّف وتقديم الهدايا إليهم فعَل، ودَرَأ سيئاته بحسنات مثلها أو أكبر منها.
وإن غلَب على ظنّه أن اعتذاره لن يُجديَ معهم نفعًا، أو أنّه قد يؤدي إلى زيادة الفرقة والضغينة في النفوس، فليلجأ إلى الإحسان إليهم بالدعاء وذكر محاسنهم والكفّ عمّا يسوؤهم أو يسيء إليهم، لعلّ الله أن يلهمهم الصفح، ويقيلوا عثرةَ صاحبهم فيغفر له، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير سورة الحجرات: "قال الجمهور من العلماء: طريق المغتاب للناس في توبته أن يُقلع عن ذلك، ويعزم على أن لا يعود، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع، وأن يتحلل من الذي اغتابه. وقال آخرون: لا يُشترط أن يتحلله فإنه إذا أعلمه بذلك ربّما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه، فطريقه إذًا أن يُثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته، لتكون تلك بتلك".
فلنبادر ـ يا عباد الله ـ إلى التوبّة، إذ كلُّنا خطّاء، وخير الخطّائين التوّابون.
ألا وصلّوا وسلّّموا على نبيكم الأمين، فقد أُمرتم بذلك في الذكر الحكيم، فقال ربّ العالمين: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلّم وبارك على عبدك ونبيّك محمّدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين...
| |
|