molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الدين النصيحة - أحمد بن حسين الفقيهي الأحد 16 أكتوبر - 5:30:05 | |
|
الدين النصيحة
أحمد بن حسين الفقيهي
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا عباد الله، إن خير ما وعظت به القلوب وهذبت به النفوس آيات من كتاب الله أو أحاديث من كلام رسول الله ، فألقوا الأسماع وافتحوا القلوب لكلمات معدودات من سيد البشر محمد ، كلمات جمعت الدين الإسلامي كله، واستوعبت مصالح الدين والدنيا. ما من خير إلا تضمنته هذه الكلمات، ولا شر إلا حذرت منه هذه الكلمات، رواها تميم بن أوس الداري رضي الله عنه، وأخرجها الإمام مسلم في صحيحه، وليس لتميم الداري في صحيح مسلم سوى هذا الحديث وتلك الكلمات.
عن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه: حدثنا النبي فقال: ((الدين النصيحة))، قلنا: لمن؟ قال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)).
عباد الله، هذه الكلمة (النصيحة) التي هي إرادة الخير للمنصوح له وقيام الناصح للمنصوح بوجوه الخير، هذه الكلمة جعلت النبي يحصر الدين كله فيها، يقول عليه الصلاة والسلام: ((الدين النصيحة))؛ وذلك لأن النصيحة تشمل الإسلام والإيمان والإحسان، وهذه الخصال الثلاث هي خصال الدين؛ فلذا حصر النبي الدين فيها. بل لقد عد بعض العلماء كمحمد بن أسلم رحمه الله تعالى هذا الحديث أحد أرباع الدين، أي: أحد الأحاديث التي يدور الفقه عليها.
عباد الله، لقد أعطى الإسلام للنصيحة المكانة العظمى والمنزلة الكبرى، فها هو المولى سبحانه يصف الأنبياء الذين أمرنا بالاقتداء بهم بأنهم أصحاب نصيحة، يقول تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ، وعن هود يقول سبحانه: أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ، وعن صالح عليه السلام أنه قال لقومه: يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ.
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح
عباد الله، لقد حث النبي على النصيحة وأكد عليها في الكثير من أقواله وأخباره، أخرج الطبراني من حديث حذيفة بن اليمان أن النبي قال: ((من لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم، ومن لم يمس ويصبح ناصحًا لله ولرسوله ولكتابه ولإمامه ولعامة المسلمين فليس منهم))، وأخرج الإمام أحمد رحمه الله من حديث أبي أمامة رضي الله عنه أن النبي قال: ((قال الله عز وجل: أحب ما يعبدني به عبدي النصح لي)). ولم يكتف النبي بالحث على النصيحة فقط بل جعلها إحدى الركائز والشروط فيمن يريد مبايعة النبي ، ففي الصحيحين من حيث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: بايعت النبي على إقامته الصلاة وإيتاء ال+اة والنصح لكل مسلم.
عباد الله، لقد امتثل النبي ما يأمر به الناس فأصبحت حياته كلها نصحًا للناس في حضره وسفره، في صحته ومرضه، مع جميع الناس وفئاتهم، صغيرهم وكبيرهم، مسلمهم وكافرهم، تارة بالحزم، وتارة باللين، حسبما يقتضيه المقام، وهذا من كمال حكمته وعظيم نصحه ، ومن الشواهد على ذلك نصحه لعمه أبي طالب عند وفاته: ((يا عم، قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله))، وكذا نصحه للغلام اليهودي: ((يا غلام، أتشهد أني رسول الله؟)) وكذا نصحه لأبي ذر عندما عير رجلاً بأمه فقال له: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)). والشواهد كثيرة لكن يقصر المقام عن ذكرها.
عباد الله، إن صلحاء هذه الأمة هم المتصفون بالنصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، قال أبو بكر المازني رحمه الله تعالى: ما فاق أبو بكر رضي الله عنه أصحاب رسول الله بصوم ولا صلاة، ولكن بشيء كان في قلبه، قال رحمه الله: الذي كان في قلبه الحب لله عز وجل والنصيحة في خلقه. وقال الحسن رحمه الله: قال بعض أصحاب محمد : (والذي نفسي بيده، إن شئتم لأقسمن لكم بالله، إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده، ويحببون عباد الله إلى الله، ويسعون في الأرض بالنصيحة)، وقال الفضيل بن عياض: "ما أدرك عندنا في أدرك بكثرة الصلاة والصيام، وإنما أدرك عندنا بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للأمة".
عباد الله، مع عظم أجر النصيحة وسهولة أمرها لمن سهّلها الله عليه إلا أن الشيطان ثقلها على كثير من الناس، فحرموا أنفسهم أجرًا، وحرموا غيرهم خيرًا، مع أن رسائل النصح متنوعة وكثيرة، فتارة تكون النصيحة بالمكاتبة، وتارة تكون بالمشافهة، وتارة تكون بالفعل، وكم من نصيحة أثمرت خيرًا كثيرًا.
لكن عباد الله، أين الناصحون؟! أين الآباء عن نصيحة الأبناء؟! وأين الإخوان عن نصيحة الخلان؟! أين الجار عن نصيحة الجيران؟! أين النصح عن ترك الصلوات والتهاون بالفرائض والمكتوبات؟! أين النصح عن ارتكاب المخالفات وغشيان الموبقات؟! أين الغيرة على الحرمات؟! وأين النصرة لبارئ الأرض والسماوات؟!
عباد الله، إن مما يؤسف له تهاون المسلمين في القيام بحق النصيحة لبعضهم البعض، وخاصة في أمور الآخرة، وذلك حين قصروا اهتماماتهم على مصالح الدنيا وزخارف الحياة التي فتنوا بها. ولقد كثر في الأقارب والجيران والأصحاب والخلان من وقع في معصية الله وتهاون بأوامر الله وأضاع فرائض الله لما قلت وضعفت النصيحة بين المسلمين، وأصبح حال الجيد من الناس كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ الآية، وكأنهم تناسوا قول الصديق رضي الله عنه: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ الآية، وإنكم تضعونها على غير موضعها، وإني سمعت النبي يقول: ((إن الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيروه أوشك الله أن يعمهم بعذاب)) رواه أحمد وابن ماجه.
عباد الله، لقد بين النبي في الحديث مواضع النصيحة وأنها تكون لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، فأما النصيحة لله فهي شهادة العبد لله بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأن يقوم العبد بأداء ما أوجبه الله تعالى عليه من العبادات، ويترك ما نهى عنه من المحرمات، وأن يكون عمله خالصًا لله تعالى، قال الحواريون لعيسى عليه السلام: ما الخالص من العمل؟ قال: ما لا تحب أن يحمدك الناس عليه، قالوا: فما النصح له؟ قال: أن تبدأ بحق الله تعالى قبل حق الناس، وإن عرض لك أمران أحدهما لله والآخر للدنيا بدأت بحق الله تعالى.
وأما النصيحة لكتاب الله تعالى فتكون بالإيمان به ومحبته وبتعلمه وتعليمه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وأما النصيحة للرسول ففي حياته بذل الجهد في طاعته ونصرته ومعاونته بالنفس والمال، وبعد وفاته تكون النصيحة بمحبته وطاعته ونصرته وإحياء سنته والاقتداء به في أقواله وأفعاله.
أما أئمة المسلمين فهم صنفان من الناس:
الأول: العلماء، وهم العلماء الربانيون الذين ورثوا النبي علمًا وعبادة وأخلاقًا ودعوة، وهؤلاء أولو الأمر حقيقة.
الصنف الثاني من أئمة المسلمين: الأمراء المنفذون لشريعة الله؛ ولهذا يقال: العلماء مبيّنون، والأمراء منفذّون يجب عليهم أن ينفذوا شريعة الله عز وجل في أنفسهم وفي عباد الله تعالى.
فأما النصيحة للعلماء فتكون بمحبتهم ومعونتهم على نشر رسائلهم وكتبهم وبالذب عن أعراضهم ونشر مناقبهم وإحسان الظن بهم.
وأما النصيحة للأمراء فتكون بحب صلاحهم واجتماع كلمتهم على الحق وطاعتهم بالمعروف وإعانتهم على الخير وعدم الخروج عليهم ما لم يحصل منهم كفر بواح. ومن النصيحة لولاة الأمر أيضًا إسداء المشورة النافعة لهم ودعوتهم إلى الخير وتنبيههم على الخطأ بطريق المشافهة أو المكاتبة مهما أمكن ذلك ودعاء العلماء لهم بالصلاح والإصلاح والاستقامة والتسديد في الأمر.
أما النصيحة لعامة المسلمين فبالشفقة عليهم والسعي فيما يعود بالنفع عليهم وبتعليمهم ما ينفعهم وكف وجوه الأذى عنهم وأن يحب لهم ما يحبه لنفسه وأن يكره لهم ما يكره لنفسه.
عباد الله، مما ينبغي أن يمتثله الناصح حين نصحه أن يكون نصحه خالصًا لله عز وجل حتى يكتب الله عز وجل للنصيحة القبول والتأثير، كما ينبغي أن يكون الدافع للنصيحة المحبة والإشفاق للآخرين، قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "الحب أفضل من الخوف، ألا ترى إذا كان لك عبدان مملوكان أحدهما يحبك والآخر يخافك، فالذي يحبك منهما ينصحك شاهدًا كنت أو غائبًا، والذي يخافك عسى أن ينصحك إذا شهدت لما يخافك ويغشك إذا غبت عنه ولا ينصحك".
يضاف إلى ذلك ـ عباد الله ـ الصدق في النصيحة وإرادة الإصلاح، لا إظهار الشماتة والتعيير؛ لأن الستر في النصح من سمات المؤمن الصادق، قال الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: "المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويعير".
عباد الله، إن من كمال عقل المنصوح ونبل نفسه وسلامة سريرته قبوله النصيحة التي تقدم له؛ لأن الناصح لم يقدم نصيحته إلا من محبة لك، يقول أحد السلف: "اعلم أن من نصحك فقد أحبك، ومن داهنك فقد غشك"، أما من كره النصح من غيره وتكبر عن سماع الحق والموعظة فلا يأمن على نفسه من العاقبة، قال العلامة ابن بطة رحمه الله: "اعلم ـ يا أخي ـ أن من كره الصواب من غيره ونصر الخطأ من نفسه لم يؤمن أن يسلبه الله ما علمه وي+به ما ذكره، بل يخاف عليه أن يسلبه الله إيمانه، لأن الحق من رسول الله إليك افترض عليك طاعته، فمن سمع الحق فأنكره بعد علمه فهو من المنكرين بعد على الله" اهـ.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله، إن من أجل النعم التي أسبغها الله سبحانه على الصالحين من عباده بعد نعمة التوحيد والإيمان أن هيأ الله لهم من هؤلاء الناصحين الصادقين من إخوانهم في الدين، الذين يسدون إليهم أوثق الجميل وأبلغ المعروف حين يذكرونهم بالله فيحسنون التذكير، وحين يبصرونهم بالخفي من عيوبهم فيحكمون التبصير، وما ذاك الفعل منهم إلا أنهم علموا أن من حقوق إخوانهم عليهم بذل النصح لهم. أخرج الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله : ((حق المسلم على المسلم ست)) وذكر منها: ((وإذا استنصحك فانصح له)).
أيها المسلمون، إن من علامات الأخوة الصادقة بين الإخوة والإخوان بذل الأخ النصيحة لأخيه، يبصره بعيوبه لكي يسير وإياه في طريق الخير أصفياء أنقياء، تحفهم الملائكة في مجالس الذكر، ويذكرهم الله سبحانه فيمن عنده. وهذه النصيحة لا يقصر بذلها في وجه الناصح فقط، بل للأخ حق في غيبته، وذلك بالذب عن عرضه والدفاع عنه، قال : ((إن من حق المسلم على المسلم أن ينصح له في غيبته)). ومعنى ذلك كما يقول ابن رجب رحمه الله تعالى: أي: إذا ذكر في غيبته بالسوء فعلى أخيه أن ينصره ويرد عنه، وإذا رأى من يريد أذاه في غيبته كفه عن ذلك، فإن النصح في الغيب يدل على صدق النصح.
عباد الله، الإنسان بطبعه لا يسلم من الخطأ والزلل، والواجب على الأخ صادق الأخوة إذا رأى من أخيه هفوة أو زلة أن يبادره بالنصح والإرشاد ملتمسًا في ذلك الستر وعدم التشهير، فهو أدعى للقبول وأرجى للإخلاص وأبعد عن الشبهة، قال رجل لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أمام الناس: يا أمير المؤمنين، إنك أخطأت في كذا وكذا، وأنصحك بكذا وبكذا، فقال له علي رضي الله عنه: إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك، فإني لا آمن عليكم ولا على نفسي حين تنصحني علنًا بين الناس. وقيل يومًا لبعض العلماء: أتحب من يخبرك بعيبك؟ فقال: إن نصحني بيني وبينه فنعم، وإن مرغني بين الناس فلا. وما أجمل مقولة الشافعي رحمه الله حين قال: من وعظ أخاه سرًا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشأنه.
تعمـدني بنصحك بـانفراد وجنبني النصيحة في الجمـاعة
فإن النصح بين النـاس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتنِي وعصيت أمري فلا تجـزع إذا لم تلق طـاعة
عباد الله، صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم الله بذلك في كتابه...
| |
|