التعامل الإسلامي مع الاضطرابات العقلية
الشيخ:محمد صالح المنجد
عناصر الموضوع:
1. مرحلة الشيخوخة.
2. أسباب حفظ العقل.
3. أسباب الخرف والهرم.
4. واجبنا تجاه هذه الفئة.
5. وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
مرحلة الشيخوخة
الحمد لله القوي الكبير، الحمد لله ذي القوة المتين، خلقنا من ضعف {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} (54) سورة الروم.
خلقنا من نطفة وضعف، ويعترينا ما يعترينا في صغرنا، ثم قوة في الشباب، ثم ضعفاً وهرماً وشيبة، وهكذا ابن آدم ينتقل من حال إلى حال كما قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَن طَبَقٍ} (19) سورة الانشقاق، أي من ضعف إلى قوة ومن قوة إلى ضعف، ومن مرض إلى صحة، ومن صحة إلى مرض، ومن فقر إلى غنى، ومن غنى إلى فقر.
وهكذا قال -عز وجل- في نهاية المطاف عن هذا الإنسان إذا طال عمره: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} (68) سورة يــس، يعني أفلا يتفكرون في مبدئ أمرهم وانتقالهم في أحوالهم ثم إلى شيبتهم وشيخوختهم، ليعلموا أنهم قد خلقوا لدار أخرى غير هذه الدار، فهذه دار زوال، وتلك لا انتقال عنها ولا محيد وهي الدار الآخرة.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى} أي: في أي مرحلة من هذه المراحل {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (5) سورة الحـج، أي فتضعف الحواس، ويأتي النسيان ويحل الخرف، فأرذل العمر يعني في ضعف البدن وضعف العقل.
وقد أخبر -عز وجل- عن حال هذا الآدمي في انتقاله ومآله؛ ليتذكر الإنسان قوة ربه -عز وجل- فهي لا تنقص، ولا يعتريه -سبحانه وتعالى- ما يعتري البشر، {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} (255) سورة البقرة، القائم على كل نفس بما +بت، {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا} (41) سورة فاطر، وهو القوي المتعال، القاهر الجبار، مكوِّر الليل على النهار، لا إله إلا هو وحده لا شريك له.
لا يزال الإنسان يتزايد ضعفه وتتناقص قوته بمرور الزمن عليه، وتنتقص بُنيته ويتغير شكله وصورته حتى يعود إلى حال شبيهة بالصبي في ضعف جسده وقلة عقله وضعف إدراكه {وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (70) سورة النحل.
من مراحل حياة الإنسان الشيخوخة والهرم وضعف العقل والقوة، وهكذا يعود كالطفل الصغير {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} (104) سورة الأنبياء، ومن هنا يعلم المسلم قيمة الدعاء الذي كان يدعو به النبي -عليه الصلاة والسلام- دبر كل صلاة حيث كان يتعوذ من الرد إلى أرذل العمر فيقول: ((اللهم إني أعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمر)) [رواه البخاري] وهذا لما يعتري الإنسان في هذا الحال من الخرف واختلال العقل، وسوء الفهم، والعجز عن الطاعات، والتساهل في بعضها.
وقد حكى +ريا -عليه السلام- حاله وشكا إلى ربه فقال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (4) سورة مريم، وهو يريد الولد ولم يأتِ، وقد جاء آخر العمر ووهن العظم ورقَّ فهشاشة العظام وضعفها مرض معروف، فكبير السن يصاب به، يقول: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (4) سورة مريم، فانظر إلى البلاغة في قول الله: {وَاشْتَعَلَ} فانتشار الشيب في الرأس عبَّر عنه بمنظر الاشتعال وما أشبه هذا بهذا.
خولة بنت ثعلبة -رضي الله عنها- كان زوجها رجلاً به لَمَم -أي ضعف في العقل- فإذا اشتدد لَمَمَه ظاهر من امرأته، أنت علي مثل أمي، فانزل الله -عز وجل- آيات الظهار.
وحال كبر السن يعتريها ما يعتريها من التغير حتى ربما يطلّق الرجل هذه الزوجة التي بقيت معه نحواً من سبعين سنة، وتتغير التصرفات، وفي البيع والشراء، وفي الكلام، وفي الحكم على الأشياء، وفي طلب الأشياء، وهكذا.
قال أبو العريان الهيثم بن الأسود النخعي لما سئل في آخر عمره عن حاله كيف حالك؟ قال: قد ابيض مني ما كنت أحب أن يسود، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين، وأنسى الحديث، وأذكر القديم، وأنعس في الملأ، ثم أنشد:
فاسمع أُنبئك بآيات الكبر
وقلة الطعم إذا الزاد حضر
وقلة النوم إذا الليل اعتكر
تقارب الخطى وضعف البصر
وكثرة النسيان وما بي مدّكـر
أوله نوم وثلثاه سهر
ولما كان حال الكبر هو مظنة ضعف العقل والبدن وتدهور الحال النفسية خصَّ الله تعالى الأبوين في هذه المرحلة من العمر بمزيد العناية من الأبناء ذكوراً وإناثاً فقال -عز وجل-: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا}؛ لأنهما قد يتفاوتا {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} (23) سورة الإسراء؛ فكبير السن ضيق العطن، سريع الغضب، سريع الثوران، قليل التحمل لأتفه الأسباب قد يثور، فما هو موقفك أيها الولد؟ {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا* وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} (23-24) سورة الإسراء، وقد كان محمد بن سيرين يخفض كلامه عند أمه كأنه مريض.
عباد الله:
إن هذه المرحلة العمرية موجودة في طبقة من المجتمع وواضحة فما هو موقفنا تجاه ذلك؟ وأيضاً هناك أسباب أخرى لتغير العقل مثل العلل النفسية، فنرى الآن أناساً يهذون هذياناً، فهذا يكلم نفسه، وهذا يقول: أنا نابليون، والآخر يقول أنا المهدي، وثالث يدعي النبوة، -هذا موجود في مستشفيات الأمراض العقلية- ويدخل المسجد أحياناً أناس يقولون كلاما ًغريباً ويتصرفون تصرفات عجيبة، فهذا دخل مسجداً وهم سجود فجعل يتهدد ويتوعد كل من يرفع رأسه!!
هذه الحالات الموجودة في المجتمع التي نراها الآن في المجالس وفي الطرقات وفي الأماكن المختلفة وحتى في المساجد أحياناً، نرى تصرفات غير طبيعية، فقد تكون هذه التصرفات نتيجة سكر وتعاطي مخدرات فهذا جزء، لكن هنالك أيضاً تصرفات نتيجة كبر سن وهرم ونتيجة علل نفسية، أو خسارة مفاجئة، وما حادثة سوق الأسهم عنا ببعيد، ولذلك رأيتَ من يجهر في صلاة الظهر في الجماعة عند شاشة الأسهم الضخمة في المصرف، وجماعته خلفه يقولون: آمين، وهذا يحرك أصبعه وهو ساجد، وهذا يسلم عن الشمال قبل اليمين، وهذا يحرم ويلبي في صلاة العصر في مسجد حيِّه، فالخسارة المفاجئة سبب من الأسباب المؤدية إلى هذه التصرفات، ومن أسباب ذلك ما يصيب الإنسان من الصدمات كحادث موت قريب حبيب، ونحو ذلك.
لقد صارت العلل النفسية المغيرة للعقل في هذا الزمان تنتشر في المجتمع كثيراً، وهذه الظاهرة تحتاج إلى عناية ورعاية، فعلينا واجبات شرعية اجتماعية في مثل هذه الأحوال.
إنك ترى ضحكاً مفاجئاً في المجلس دون أي سبب، وتسمع كلاماً غير متزن، وربما يخلع الواحد منهم ملابسه أمام العامة من ذكور أو إناث، وترى نوبات صراخ مفاجئة، وت+ير لأثاث المنزل، وإن كان بعض هذا يقع بسبب نتيجة غضب يجب أن يتق الله صاحبه ويمتثل الأمر النبوي ((لا تغضب)) لكن بعض هذه التصرفات هي نتيجة تغير العقل فعلاً، سواء لهرم -كبر سن- أو لهذه العلل النفسية التي استشرت في الناس نتيجة الماديات والتعلق بالدنيا، واللهث وراء الأموال، وإذا تضخمت القضية من قضايا الدنيا في قلب إنسان ففقدها أصيب بمثل هذا، فطاش اللب وفقد العقل.
أسباب حفظ العقل
أيها الأخوة :
من الأمور المهمة جداً في مثل هذا:
أولاً: احفظ الله يحفظك، فحفظ الله تعالى في أوامره ونواهيه ودينه وشرعه وأحكامه واحترام هذه الأحكام وصيانة الأوامر والنواهي، والامتثال للشرع، والإقبال عليه وتعلم الدين والقرآن، وحفظ القرآن كل ذلك من أسباب حفظ العقل، ولذلك فإن علماء الشريعة -الحقيقيين وليس المزورين والوهميين والمتسلقين والنفعيين- علماء الشرع الحقيقيين من أبعد الناس عن الخرف، وقد ذُكر من كرامات حفاظ القرآن والعلماء هذا في الكتب وهو كثير.
جاء رجل من أهل الشام إلى طاووس فاستأذن عليه، فخرج له شيخ كبير ظنه طاووس، قال: أنت طاووس؟ قال: أنا ابنه، قال: إن كنت ابنه فقد خرف أبوك، فرد عليه قائلاً: يقول أبي: إن العالم لا يخرِّف!.
أبو الطيب الطبري -رحمه الله- توفي عن مائة وسنتين لم يختل عقله، ولم يتغير فهمه، بل كان يفتي مع الفقهاء، ركب مرة سفينة فلما خرج منها قفز قفزة لا يستطيعها الشباب، فقيل له: ما هذا يا أبا الطيب؟ فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر.
أحد قرابة الشيخ السعدي توفي قبل مدة يسيرة وقد بلغ السابعة والتسعين، يختم القرآن في كل ثلاثة أيام، ومفتاح المسجد معه.
عباد الله:
المداومة على الطاعات من أعظم وسائل حفظ العقل والحواس، قال -عليه الصلاة والسلام- ((احفظ الله يحفظك)) من حفظ الله في صباه وقوته حفظه الله في حال كبره وقوته ومتَّعه بسمعه وبصره، وعقله، وحوله وقدرته.
في الدعاء المأثور: ((ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا، واجعله الوارث منا)) كأنه يبقى منا بقية تورث إلى من بعدنا من أولادنا، يفيض ويزيد.
الشريعة تنفي عن صاحبها الآفات ويبقى ممتعاً بعقله وقوته، و العكس بالعكس أيضاً فالمعاصي تورث كثيراً من هذا الضعف، ولذلك فالرجل الذي به نفاق افترى على صحابي جليل أنه ظالم، والصحابي في الحقيقة عادل، فدعا عليه دعوة فرؤي هذا المفتري وقد كبر سنّه وسقط حاجباه على عينيه، يغمز الجواري في الطرقات، وفي مصطلحنا المعاصر يعا+ البنات في الطرقات، فيُنكَر عليه فيقول: شيخ مفتون أصابتني دعوة سعد!
المؤمن الصادق يحفظه الله، قال مالك بن أنس: قلَّ ما كان رجل صادقاً لا يكذب إلا متع بعقله، ولم يصبه ما يصيب غيره من الهرم والخوف، ومن كان مداوماً على قراءة القرآن وحفظه كذلك، قال ابن عباس -رضي الله عنه-: من قرأ القرآن يعني حفظه، لم يرد إلى أرذل العمر، [رواه الحاكم وصححه الألباني].
قال ابن تيمية -رحمه الله-: هذا مخصوص بقارئ القرآن، وقال محمد بن كعب: من قرأ القرآن مُتِّع بعقله وإن بلغ من العمر مائتي سنة، وقال عبد الملك بن عمير: إن أبقى الناس عقولاً هم قراء القرآن.
أسباب الخرف والهرم
عباد الله:
تغيُّر العقل له أسباب كثيرة، منها ما لا يعرفه أهل الدنيا في الطب، فلا يمكن أن يقال في كتاب طبي: من أسباب الخرف أو الهرم المعاصي، لكن لها جوانب دينية ودنيوية، ولها جوانب إيمانية وطبية.
وبالمناسبة فإن إدمان الكحول مما اعترف الطب الحديث أنه من أسباب الخرف والهرم، ومن أسباب تضييع العقل العوامل الوراثية فهي تلعب دوراً ولا شك، وكذلك صعوبات الحياة ومشكلاتها من أسباب ذلك، وقد يفقد الإنسان عقله أحياناً ابتلاء يعني يجري عليه قدر فيفقد عقله إما بحادث أو موت من لا يصبر على فراقه، وقد تكون نوبة مؤقتة وقد تكون مستمرة، وقد تكون نتيجة خسارة مفاجئة فلا يوجد قوة قلب تتحمل هذه الخسارة لضعف الإيمان، وهكذا رجعنا مرة أخرى إلى قضية ضعف الإيمان.
وهذا التدهور في وظائف الدماغ واضطراب القدرات الإدراكية التي ينشأ عنها ضعف الذاكرة، واضطراب التفكير السليم والاختلال في الحكمة في التصرفات هي مرحلة سيقدم عليها كثير من الناس ولا بد؛ لأن الله -عز وجل- قال: {ضَعْفًا وَشَيْبَةً} (54) سورة الروم.
وتزداد حالات الإصابة بالخرف عموماً مع تقدم السن وخاصة بعد الخامسة والستين، فحالات الخرف اثنين في المائة، وبين خمسة وستين وتسعة وستين خمسة في المائة، وبين خمسة وسبعين وتسعة وسبعين عشرين في المائة، وتصل إلى خمسين في المائة لمن تجاوزوا التسعين، وهذا شيء في الخلقة والطبيعة، لكن له أسباب أخرى تتعلق بالإيمان والدين، وقد يشاهد الناس الأعراض الخارجية ولا يشاهدون الأسباب الباطنية للأمر،.
واجبنا تجاه هذه الفئة
عباد الله:
هؤلاء لهم حقوق علينا سواء في علاجهم واكتشاف الحالات المبكرة؛ لأن علاجها أسهل، فقد يكون بسبب سوء التغذية ونقص المغذيات أو +ل الغدة الدرقية أو نحو ذلك فيكون الذهاب به للطبيب من البر، ومعالجة هذا والصبر عليه من العرفان، وبعض هذه الأمراض يمكن أن تُتعاطى لها أدوية تحسّن الموقف، لكننا فعلاً نرى في هذه المجتمعات التي بها شيخوخة كالمجتمعات الغربية -حيث يكثر في بعضها- تتعدى نسبة الوفيات نسبة المواليد، وبالتالي فالمجتمع كله يهرم وتتكاثر عندهم قضية الخرف، وعندهم الصدى الكبير لمرض الزهايمر وغيره، ونحن أهل الإسلام نعلم أن الله -عز وجل- خلق البشر وأنهم يردون إلى ضعف، ونعلم أن لبعض الأمراض أسباباً شرعية وأخرى دنيوية، والكل قدر من الله -عز وجل- والإنسان يحافظ على الأذكار؛ لأن لها سبباً في بقائه ممتعاً بعقل أطول من غير أهل الإيمان، وإذا ورد على بعض كبارنا شيء من هذا فإننا نتابعهم براً بهم، ونجتهد في علاجهم والإنفاق عليهم في ذلك رحمة لهم وقيام بحقوقهم، والمهم أن نتحمل ونستوعب القضية؛ لأن بعض الناس لا يستوعب مرحلة الهرم، ولا يعرف كيف يتعامل معها، ولا يستوعبون قضية التغيرات النفسية والأمراض النفسية، وما يشبه الجنون، مع أن هذه أمور لها أحكام في الشريعة، فقد لا ندرك أن بعض هذا من أسباب الانتحار فلا بد من العناية بالكبير وملازمته فقد يفعل بنفسه أشياء لا تحمد عقباها، وعند الغربيين، تسعين في المائة من الذين يحاولون الانتحار مرضى نفسيون، لكن لكثير من ذلك أسباباً دينية شرعية إذ لو كانوا من أهل الطاعة والإيمان ما أقدموا عليها.
عباد الله:
عندما يعالج الدين المشكلات الأسرية ويعالج الخلافات الزوجية، وعندما يبين ماذا يفعل الزوج مع زوجته الناشز، وماذا تفعل الزوجة إذا رأت نشوزاً من زوجها أو إعراضاً {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} (128) سورة النساء، وعندما يقول: {فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا} (35) سورة النساء، فهذا يدل على أن هذه المشكلات الأسرية أيضاً لها دخل في هذه القضية.
وعندما نعلم بأن رعاية المسن وتوقير الكبير من الشريعة وأن حفَّه بالعناية والاهتمام وإشعار هذا الكبير أن له أهلاً وولداً وحماية وأن له بيئة وأن له قدراً ومكانة، عندها تعلم لماذا جاءت الأوامر النبوية والتشريعات الإلهية، كقوله –عليه الصلاة والسلام-: ((ليس من أمتي من لم يجلَّ كبيرنا)).
انطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيِّصة وحويِّصة ابنا مسعود إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فذهب عبد الرحمن يتكلم، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام- : ((كبِّر، كبِّر)) فسكت؛ لأن هنالك من هو أكبر منه يقدم في الكلام عند الاستواء من الجهات الأخرى، نعم يقدم الكبير، فأين دور الأسرة، وما هو الفرق بين المجتمع الإسلامي الذي يتعاهد الكبير بالرعاية في بيته، وحوله أولاده وبين الذين يلقون كبارهم في دور الإيواء؟
شاب مسلم سكن بجانب بيت امرأة في الغرب تعتني بحديقتها من أجل يوم واحد في السنة.. لماذا؟ لأن هذا اليوم يزورها فيه أولادها، يوم واحد في السنة فقط، وذات يوم بينما هي تزين الحديقة من أجل قرب الاجتماع فوجئت باتصال يعتذرون فيه عن الحضور، فلا تسل عما صار من البكاء والانهيار؛ لأجل يوم في السنة، فأين الرحمة وأين الرعاية؟
قال أهل يعقوب له رحمة به: {تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} (85) سورة يوسف، حرضاً فانياً لا حراك فيه ولا قدرة على الكلام، وكان قد ابيضت عيناه من الحزن، فهذا يحتاج إلى رعاية، وربما يكون في هذا الكلام المتقدم شيء من الجفوة والقسوة وعدم تقدير حرّ المصيبة.
كان محمد بن المنكدر يضع خده على الأرض ويقول لأمه: ضعي قدمك على خدي، وكهمس بن الحسن رأى عقرباً دخلت جحراً في مكان فيه أمه، فأدخل يده واستخرجها بعدما لدغته، وقال: خفتُ أن تخرج فتجيء إلى أمي! وعبد الله بن عون المزني نادته أمه يوماً فأجابها فعلا صوته صوتها، فأعتق رقبتين!
وقد يكون لكبير السن رغبات غريبة، ولذلك كان محمد بن عقبة الشيباني قد كبر سنه وضعف ولازم بيته وكان له بنون فقال لبنيه ليلة: أريد زوجة في هذه الليلة، قالوا له غداً نزوجك، ثم قال بعضهم لبعض: لعل الشيخ قد خرف وزال عقله لكن لا بد أن نبلغه مراده، فزوجوه امرأة رضيت؛ لأن بعض النساء قد يكون فيها فقر فترضى أن تتزوج هرماً تقوم عليه مقابل هذا المال الذي تأخذه من المهر أو ما يجعل لها، فهي زوجة من جهة فلا يوجد حرج في لمسه ووضعه وتنظيفه، ومسألة العورة، ومن جهة أخرى تستفيد من هذا المال وتغتني من فقرها ويوجد لها مأوى مقابل أن تعتني بهذا الإنسان الكبير، قال في القصة: فخلي بينه وبينها فحملت ووضعت غلاماً، وهذه فائدة أخرى إذ قد يكون من هذا الغلام خير كثير.
هناك أحكام شرعية بيّنها أهل العلم لهذه الأوضاع، فمن ذلك أن كبير السن إذا أصابه الخرف سقط عنه التكليف ما عدا الزكاة، نعم لا صلاة ولا صيام، لكن ال+اة لا تسقط بل يخرجها عنه وليه، وكذلك لا يعتد بأقواله وتصرفاته في البيع والشراء والهبة ونحو ذلك.
كان القاسم بن محمد يلي أمر شيخ من قريش ذي أهل ومال فلا يجوِّز له أمراً في ماله دونه، ولا يُجوَّز له أمر في ماله دون هذا الولي، لا بد أن يوافق الولي ولذلك فعلى القاضي أن يعين ولياً.
وكذلك إذا جنى جناية لا يقام عليه الحد لكن تجب عليه الكفارة، وتضمن المتلفات من ماله وإن كان فاقد العقل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- علَّم إنساناً كان به ضربة في دماغه ضعف منها عقله أنه إذا اشترى أو باع يقول لا خلابة، يعني لا مخادعة، وقال: علمني هذه الكلمة أقولها كلما أقدمت على بائع أو مشتري، وهذا لكي يعرف أن هذا له حالة خاصة.
هذه من أحكام الفقه الإسلامي في هؤلاء الأشخاص، ولهم كذلك أحكام في حكم عقد النكاح وأبواب أخرى من أبواب الفقه.
ولنعلم أن الصبر على هذا سواء من المصاب أو ممن حوله فيه أجر عظيم، وكلما شق التحمل عظم الأجر.
اللهم إنا نسألك أن تمتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ما أحييتنا واجعله الوارث منا، نعوذ بك أن نرد إلى أرذل العمر، اللهم اجعلنا في صحة وأمن وأمان وسلامة وعافية، إنك أنت السميع العليم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله.. أشهد أن لا إله إلا الله، وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، الحمد لله الذي خلق الجن والإنس يموتون وهو لا يموت، الحي القيوم، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة والبشير والنذير والسراج المنير.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ونبيك محمد، وعلى آله وصحبه وذريته الطيبين وأزواجه وخلفائه الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
عباد الله: يجمع الله الأولين والآخرين في أرض المحشر، ويؤتى بجهنم يوم القيامة تقاد أمام الخلائق..
من شأن المنشآت الضخمة جداً في الدنيا أنها لا تتحرك من أماكنها إذ كيف تنقل؟ لكن جهنم على عمق قعرها، لو ألقي حجر من شفيرها لا يبلغ قعرها ولو بعد سبعين سنة، ومع ذلك فإنه يؤتى بها تجر يوم القيامة، والناس محشورون محصورون قيام ينظرون في أرض المحشر، فتقاد جنهم أمامهم تجرها الملائكة، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((يؤتى بجنهم يومئذ لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها)) [رواه مسلم]، والزمام ما يجعل في أنف البعير من الحبل ليقاد به، فيعقد به الحبل ويُجر.
وقوله: ((يجرونها)) يعني يسحبونها ليراها الناس ترهيباً لهم، قال تعالى: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} (23) سورة الفجر، فتأمل يا عبد الله ماذا يحدث للناس من الكرب العظيم، وكيف تنخلع القلوب والأفئدة لمنظر النار وهي تجر بهذا العدد الهائل من الملائكة، إنهم أربعة مليار وتسعمائة مليون ملك يجرون جنهم، وجيء يومئذ بجنهم، فماذا لو انفلتت على أهل الموقف، إذاً لأحرقتهم، ولكن وكَّل الله هؤلاء الملائكة بها يجرونها وهي تتميز من الغيظ، يكاد بعضها يقطع بعضاً، لها شهيق، ولها زفير، ولها عنق، ولها لسان ينطق، قال تعالى: {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} (12) سورة الفرقان، يسمعون تغيظها وهم في أرض المحشر، ثم يرونها أمامهم، وعند ذلك يتبين لكل إنسان ماذا أحضر، {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} (14) سورة التكوير، فماذا يتمنى الإنسان يومئذ؟ يتمنى أن لا يكون قد عصى الله وأن لا يكون قد ترك واجباً أمر الله به.
لها بغتة {بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} (40) سورة الأنبياء، ولها لفحة، {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} (104) سورة المؤمنون، تتكلم وتبصر، قال -عليه الصلاة والسلام-: ((تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران)) نعم، الله على كل شيء قدير، ((وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة، بكل جبار عنيد وبكل من دعا مع الله إله آخر، وبالمصورين)) [رواه الترمذي وهو حديث صحيح].
تغضب لغضب خالقها فيقلق من ذلك أهل القلوب والأفئدة، فيتمنى الكافر أن يموت، أي يتمنى لو أنه كان تراباً، وأما الجنة فإنها تقرَّب أيضاً قال الله -عز وجل-: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} (13) سورة التكوير، يعني قرُِّبت في الموقف حتى شاهدها الخلائق متزينة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، بهذا البهاء والجمال، والنضارة، والمنظر الحسن، والجاذبية، ثم يساق المؤمنون إليها جماعات مكرَّمين {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} (85) سورة مريم، يعني راكبين معززين غاية الإكرام.
قال علي -رضي الله عنه- في هذه الآية: لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، ولكن يحشرون بنوق لم يرَ الخلائق مثلها، وعليها ما عليها من الرحائل، وكيف هذه الأشياء التي يحملون عليها؟ الله أعلم، لكنهم يحشرون راكبين؛ لأن الوفد المكرم لا يساق مشياً، لكن الكافر يمشي على وجهه وليس على رجليه، قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} (97) سورة الإسراء، وأما أهل الجنة فيقال لهم: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (73) سورة الزمر.
اللهم إنا نسألك الجنة بحولك وقوتك يا أرحم الراحمين، ومنتك وفضلك يا أكرم الأكرمين، اجعلنا من ورثة جنة النعيم، وأدخلناها مع الأبرار.
اللهم إنا نسألك الفردوس الأعلى، اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا، اللهم إنا نسألك أن تغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اشملنا برحمتك، وسِّع لنا في دورنا وأرزاقنا، اللهم سلمنا وسلِّم لنا ديننا، نسألك الأمن والإيمان في وطننا هذا وسائر أوطان المسلمين يا رحمن.
اللهم آمنا في الأوطان والدور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واغفر لنا يا عزيز يا غفور، اللهم فرِّج همومنا، ونفس كروبنا، واقض ديوننا، واهدي ضالَّنا، وارحم ميتنا، واشف مريضنا.
اللهم إنا نسألك أن تمتعنا بعافيتك في الدنيا والآخرة، نسألك العفو والعافية في ديننا ودنيانا، وأهلينا وأموالنا، استر عوراتنا وآمن روعاتنا، واختم لنا بخير يا ربنا، واجعل خاتمتنا وخروجنا من الدنيا على ما تحب وترضى..
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.