بَاب قَوْلِ الْمُحَدِّثِ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيُّ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُيَيْنَةَ حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا وَسَمِعْتُ وَاحِدًا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ وَقَالَ شَقِيقٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً وَقَالَ حُذَيْفَةُ حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَيْنِ وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ وَقَالَ أَنَسٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْوِيهِ عَنْ رَبِّكُمْ عَزَّ وَجَلَّ
فتح الباري بشرح صحيح البخاري
قَوْله : ( بَاب قَوْل الْمُحَدِّث حَدَّثَنَا وَأَخْبَرَنَا وَأَنْبَأَنَا )
قَالَ اِبْن رَشِيد : أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَنَّهُ بَنَى كِتَابه عَلَى الْمُسْنَدَات الْمَرْوِيَّات عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . قُلْت : وَمُرَاده : هَلْ هَذِهِ الْأَلْفَاظ بِمَعْنًى وَاحِد أَمْ لَا ؟ وَإِيرَاده قَوْل اِبْن عُيَيْنَةَ دُون غَيْره دَالّ عَلَى أَنَّهُ مُخْتَاره .
قَوْله : ( وَقَالَ الْحُمَيْدِيّ )
فِي رِوَايَة كَرِيمَة وَالْأَصِيلِيّ " وَقَالَ لَنَا الْحُمَيْدِيّ " وَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الْمُسْتَخْرَج , فَهُوَ مُتَّصِل . وَسَقَطَ مِنْ رِوَايَة كَرِيمَة قَوْله " وَأَنْبَأَنَا " وَمِنْ رِوَايَة الْأَصِيلِيّ قَوْله " أَخْبَرَنَا " وَثَبَتَ الْجَمِيع فِي رِوَايَة أَبِي ذَرّ .
قَوْله : ( وَقَالَ اِبْن مَسْعُود )
هَذَا التَّعْلِيق طَرَف مِنْ الْحَدِيث الْمَشْهُور فِي خَلْق الْجَنِين , وَقَدْ وَصَلَهُ الْمُصَنِّف فِي كِتَاب الْقَدَر , وَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ هُنَاكَ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى .
قَوْله : ( وَقَالَ شَقِيق )
هُوَ أَبُو وَائِل ( عَنْ عَبْد اللَّه ) هُوَ اِبْن مَسْعُود , سَيَأْتِي مَوْصُولًا أَيْضًا حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّف فِي كِتَاب الْجَنَائِز , وَيَأْتِي أَيْضًا حَدِيث حُذَيْفَة فِي كِتَاب الرِّقَاق . وَمُرَاده مِنْ هَذِهِ التَّعَالِيق أَنَّ الصَّحَابِيّ قَالَ تَارَة " حَدَّثَنَا " وَتَارَة " سَمِعْت " فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْن الصِّيَغ . وَأَمَّا أَحَادِيث اِبْن عَبَّاس وَأَنَس وَأَبِي هُرَيْرَة فِي رِوَايَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رَبّه فَقَدْ وَصَلَهَا فِي كِتَاب التَّوْحِيد , وَأَرَادَ بِذِكْرِهَا هُنَا التَّنْبِيه عَلَى الْعَنْعَنَة , وَأَنَّ حُكْمهَا الْوَصْل عِنْد ثُبُوت اللُّقِيّ , وَأَشَارَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ اِبْن رَشِيد إِلَى أَنَّ رِوَايَة النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّمَا هِيَ عَنْ رَبّه سَوَاء صَرَّحَ الصَّحَابِيّ بِذَلِكَ أَمْ لَا , وَيَدُلّ لَهُ حَدِيث اِبْن عَبَّاس الْمَذْكُور فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِيهِ فِي بَعْض الْمَوَاضِع " عَنْ رَبّه " وَلَكِنَّهُ اِخْتِصَار فَيَحْتَاج إِلَى التَّقْدِير . قُلْت : وَيُسْتَفَاد مِنْ الْحُكْم بِصِحَّةِ مَا كَانَ ذَلِكَ سَبِيله صِحَّة الِاحْتِجَاج بِمَرَاسِيل الصَّحَابَة ; لِأَنَّ الْوَاسِطَة بَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْن رَبّه فِيمَا لَمْ يُكَلِّمهُ بِهِ مِثْل لَيْلَة الْإِسْرَاء جِبْرِيل وَهُوَ مَقْبُول قَطْعًا , وَالْوَاسِطَة بَيْن الصَّحَابِيّ وَبَيْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْبُول اِتِّفَاقًا وَهُوَ صَحَابِيّ آخَر , وَهَذَا فِي أَحَادِيث الْأَحْكَام دُون غَيْرهَا , فَإِنَّ بَعْض الصَّحَابَة رُبَّمَا حَمَلَهَا عَنْ بَعْض التَّابِعِينَ مِثْل كَعْب الْأَحْبَار .
( تَنْبِيه ) :
أَبُو الْعَالِيَة الْمَذْكُور هُنَا هُوَ الرِّيَاحِيّ بِالْيَاءِ الْأَخِيرَة , وَاسْمه رُفَيْع بِضَمِّ الرَّاء . مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ الْبَرَّاء بِالرَّاءِ الثَّقِيلَة فَقَدْ وَهَمَ , فَإِنَّ الْحَدِيث الْمَذْكُور مَعْرُوف بِرِوَايَةِ الرِّيَاحِيّ دُونه . فَإِنْ قِيلَ : فَمِنْ أَيْنَ تَظْهَر مُنَاسَبَة حَدِيث اِبْن عُمَر لِلتَّرْجَمَةِ , وَمُحَصَّل التَّرْجَمَة التَّسْوِيَة بَيْن صِيَغ الْأَدَاء الصَّرِيحَة , وَلَيْسَ ذَلِكَ بِظَاهِرٍ فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور ؟ فَالْجَوَاب أَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَاد مِنْ اِخْتِلَاف أَلْفَاظ الْحَدِيث الْمَذْكُور , وَيَظْهَر ذَلِكَ إِذَا اِجْتَمَعَتْ طُرُقه , فَإِنَّ لَفْظ رِوَايَة عَبْد اللَّه بْن دِينَار الْمَذْكُور فِي الْبَاب " فَحَدَّثُونِي مَا هِيَ " وَفِي رِوَايَة نَافِع عِنْد الْمُؤَلِّف فِي التَّفْسِير " أَخْبَرُونِي " وَفِي رِوَايَة عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ " أَنْبَئُونِي " وَفِي رِوَايَة مَالِك عِنْد الْمُصَنِّف فِي بَاب الْحَيَاء فِي الْعِلْم " حَدَّثُونِي مَا هِيَ " وَقَالَ فِيهَا " فَقَالُوا أَخْبَرَنَا بِهَا " فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّحْدِيث وَالْإِخْبَار وَالْإِنْبَاء عِنْدهمْ سَوَاء , وَهَذَا لَا خِلَاف فِيهِ عِنْد أَهْل الْعِلْم بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللُّغَة , وَمِنْ أَصْرَح الْأَدِلَّة فِيهِ قَوْله تَعَالَى ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّث أَخْبَارهَا ) وَقَوْله تَعَالَى ( وَلَا يُنَبِّئك مِثْل خَبِير ) . وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الِاصْطِلَاح فَفِيهِ الْخِلَاف : فَمِنْهُمْ مَنْ اِسْتَمَرَّ عَلَى أَصْل اللُّغَة , وَهَذَا رَأْي الزُّهْرِيّ وَمَالِك وَابْن عُيَيْنَةَ وَيَحْيَى الْقَطَّان وَأَكْثَر الْحِجَازِيِّينَ وَالْكُوفِيِّينَ , وَعَلَيْهِ اِسْتَمَرَّ عَمَل الْمَغَارِبَة , وَرَجَّحَهُ اِبْن الْحَاجِب فِي مُخْتَصَره , وَنُقِلَ عَنْ الْحَاكِم أَنَّهُ مَذْهَب الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة . وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى إِطْلَاق ذَلِكَ حَيْثُ يَقْرَأ الشَّيْخ مِنْ لَفْظه وَتَقْيِيده حَيْثُ يُقْرَأ عَلَيْهِ , وَهُوَ مَذْهَب إِسْحَاق بْن رَاهْوَيْهِ وَالنَّسَائِيِّ وَابْن حِبَّان وَابْن مَنْدَهْ وَغَيْرهمْ , وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى التَّفْرِقَة بَيْن الصِّيَغ بِحَسَبِ اِفْتِرَاق التَّحَمُّل : فَيَخُصُّونَ التَّحْدِيث بِمَا يَلْفِظ بِهِ الشَّيْخ , وَالْإِخْبَار بِمَا يُقْرَأ عَلَيْهِ , وَهَذَا مَذْهَب اِبْن جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَالشَّافِعِيّ وَابْن وَهْب وَجُمْهُور أَهْل الْمَشْرِق . ثُمَّ أَحْدَثَ أَتْبَاعهمْ تَفْصِيلًا آخَر : فَمَنْ سَمِعَ وَحْده مِنْ لَفْظ الشَّيْخ أَفْرَدَ فَقَالَ " حَدَّثَنِي " وَمَنْ سَمِعَ مَعَ غَيْره جَمَعَ , وَمَنْ قَرَأَ بِنَفْسِهِ عَلَى الشَّيْخ أَفْرَدَ فَقَالَ " أَخْبَرَنِي " , وَمَنْ سَمِعَ بِقِرَاءَةِ غَيْره جَمَعَ . وَكَذَا خَصَّصُوا الْإِنْبَاء بِالْإِجَازَةِ الَّتِي يُشَافِه بِهَا الشَّيْخ مَنْ يُجِيزهُ , كُلّ هَذَا مُسْتَحْسَن وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عِنْدهمْ , وَإِنَّمَا أَرَادُوا التَّمْيِيز بَيْن أَحْوَال التَّحَمُّل . وَظَنَّ بَعْضهمْ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيل الْوُجُوب : فَتَكَلَّفُوا فِي الِاحْتِجَاج لَهُ وَعَلَيْهِ بِمَا لَا طَائِل تَحْته . نَعَمْ يَحْتَاج الْمُتَأَخِّرُونَ إِلَى مُرَاعَاة الِاصْطِلَاح الْمَذْكُور لِئَلَّا يَخْتَلِط ; لِأَنَّهُ صَارَ حَقِيقَة عُرْفِيَّة عِنْدهمْ , فَمَنْ تَجَوَّزَ عَنْهَا اِحْتَاجَ إِلَى الْإِتْيَان بِقَرِينَةٍ تَدُلّ عَلَى مُرَاده , وَإِلَّا فَلَا يُؤْمَن اِخْتِلَاط الْمَسْمُوع بِالْمَجَازِ بَعْد تَقْرِير الِاصْطِلَاح , فَيُحْمَل مَا يَرِد مِنْ أَلْفَاظ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى مَحْمَل وَاحِد بِخِلَافِ الْمُتَأَخِّرِينَ .