العلي
هكذا نرى عظمة الخالق التي تهدي كل كائن إلي القدرة على التفاعل والاختيار المناسب، وكما يحدث ذلك في النبات نجده يحدث أيضاً بشكل آخر في الحيوان، نجد أن هناك هداية لبعض الحيوانات عندما نتأملها نرى العجب. فالتمساح على سبيل المثال يخاف الإنسان منه ويرهبه، هذا التمساح يفتح فمه في بعض الأوقات ليسمح لنوع معين من الطيور أن يتغذى على بقايا طعام التمساح، والتمساح يفتح له فمه ويترك للطير فرصة التقاط بقايا الطعام من فمه. وهذا النوع من الطيور هو الذي يقوم بدور الإنذار المبكر لأي خطر يهدد التمساح، فإذا رأى الطير عدواً للتمساح فهو الذي يحذر التمساح من الخطر القادم عليه.
أما الإنسان فهناك أمور في حياته قسرية، كالتنفس مثلاً كالهضم، كل هذه عمليات قسرية لازمة لحياة الإنسان، فالتنفس لازم لمزج الدم بالأكسجين اللازم له، وأن يطرد الإنسان من خلاله الهواء المحمل بثاني أكسيد الكربون، كل ذلك ليصل الدم إلي المخ محملاً بالغذاء الصافي للمخ وهو الأكسجين والجولوكوز. وتحدث تلك العملية "عملية تنقية الدم بالتنفس" دون وعي من الإنسان لا يلاحظها، ولكنها تتم على الرغم منه، فالإنسان يتنفس نائماً أو مستيقظاً دون تدخل إرادي منه. هكذا تتجلى حكمة الخالق الأكرم في قوله تعالى:
{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)"} (سورة الأعلى)
قدر للجماد مهمة فهداه إليها، قدر للنبات مهمة فهداه إليها، وقدر للحيوان مهمة فهداه إليها، وقدر للطير مهمة فهداه إليها، وقدر للإنسان مهمة في غير مجال الاختيار بين البدائل فهداه إليها. إن كل شيء في الكون موجود بتقدير وهداية من الخالق العزيز الكريم، ولننظر إلي الإنسان أثناء تناول الطعام، إن القصبة الهوائية للإنسان تسدها "اللهاة" أثناء بلعه الطعام، و"اللهاة" تشد القصة الهوائية حتى لا يتسرب إليها جزء من الطعام فتفسد حياة الإنسان. وإذا تسربت قطعة صغيرة من الطعام ولو حبة واحدة من الأرز، فالإنسان يجد نفسه مصاباً بنوبة من السعال حتى تتم عملية طرد حبة الأرز من المكان غير المخصص للطعام،إنما مخصص للتنفس، وهكذا نرى أن الإنسان في غر مجاله الاختياري خاضع لمبدأ:
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى "3"} (سورة الأعلى)
أما في مجال الاختيار الإنساني فنجد من يقبل التكاليف الإيمانية بقبول واقتناع وإيمان، فيكون قد اهتدى بالطريق الذي رسمه الله للهداية، وإذا لم يقبل الإنسان التكاليف الإيمانية فهنا تبدأ رحلة الإفساد في الأرض. ومن فضل الله على الإنسان أن الإنسان لا يفسد شيئاً إلا في مجال الاختيار، وكل أمر لا اختيار لنا فيه لا يستطيع أحد أن يفسده. وهذه رحمة من الله إذ جعل كونه مقهوراً ليعمل مسخراً للإنسان. والحق سبحانه وتعالى يهدينا إلي أن نزن كل أمر من السلوك الإنساني، وليأخذ الإنسان ميزان ذاته من الوجود الذي حوله، الشمس لها نظام للشروق والغروب، والقمر والنجوم والريح والزرع، كل شيء له نظام محكم.
فإذا أراد الإنسان أن يعتدل ميزانه الخاص الاختياري فليحكم نفسه بمنهج الله، لتستقيم للإنسان أمور ذاته كما استقامت له السيادة في الكون المسخر بحكمة الله وبديع صنعه ولنقرأ آيات الرحمن فنعلم منها كيفية أن يرى الإنسان سلوكه:
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) } (سورة الرحمن)
ينبهنا الحق سبحانه وتعالى أنه علم القرآن وخلق الإنسان هادياً له حياة القيم بالقرآن، وأعطى الإنسان القدرة على التعبير عن نفسه مميزاً له بحق الاختيار عن كل مخلوقاته، وعلى الإنسان أن يتأمل الكون، ففي الكون نظام دقيق للشمس والقمر. وهذه السورة نزلت منذ أربعة عشر قرناً من الزمان، ولم يتوصل الإنسان إلي المعرفة الشاملة لحركة الشمس والقمر إلا منذ ثلاثمائة عام فقط، والنجوم في أفلاكها تتحرك بنظام وميزان دقيق، والنبات والشجر خاضعان لمشيئة الله. إن هذا الكون محكوم بميزان دقيق، على الإنسان أن يتأمله ويتعلم منه بأن تستقيم حركة الإنسان الاختيارية في الكون، فلا يطغى، إنما يقيم معاملاته على أساس من الحساب الدقيق للاستقامة في السلوك الإنساني كما استقام الكون من حول الإنسان.
إننا عندما نتأمل كلمة "الميزان" نجد أن تكرارها في سورة الرحمن إنما أراد الله به أن يؤكد أن الله علم القرآن للإنسان دستور القيم المعنوية فوق القيم المادية. كما نجد أن كلمة الميزان تأتي ليعلم الإنسان كيف يقيم الميزان في الحياة لكل عمل من أعماله مستهدياً ومهدياً، وله من آيات الله في الكون دلائل على أن ميزان السماء لا يخطئ. إن الخالق جل جلاله يكرر كلمة الميزان ليلفت الإنسان إلي أن الكون من حوله له نظام معتدل وموزون، وله دقة وإحكام، وهذا ما يشجع الإنسان على أن يقيم الوزن بالعدل في سلوكه، ليتفهم أن العبادات طريق إلي إقامة ميزان العدل في الحياة، قبل أن تكون العبادات طريقاً إلي الجنة. هذا النظام الكوني حلو الإنسان يشجعه على أن يتبع هدى الرحمن.
{وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى "3"} (سورة الأعلى)
وإذا كان الخالق الأكرم "الذي قدر فهدى" هو الذي أنزل القرآن على رسوله الكريم ليبشر به الإنسان، فعلى الإنسان المؤمن. أن يتبع هذا المنهج حتى تستقيم له أمور ذاته ونفسه، إن على الإنسان أن يأخذ منهج الله مأخذ الجد والتطبيق، لأنه منهج "الذي قدر فهدى".