الحسيب
قال تعالى:
{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"173"} (سورة آل عمران)
الحسب من الحسب الذي هو الاكتفاء، فيكون معناه الكافي سبحانه ولنتدبر الآيتين:
{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ"62"} (سورة الأنفال)
{مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا "3"} (سورة الطلاق)
ويكون الحسيب من الحساب، فيكون معناه المحاسب، ولنتعلم هذه الآيات:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ"47"} (سورة الأنبياء)
{ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ"62"} (سورة الأنعام)
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا". ويطلق الحسبان على النظام والتدبير والحكمة في الكون وعوالمه، ويقول الحق سبحانه:
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) } (سورة الرحمن)
ويطلق الحسب أيضاً على النسب. وقال تعالى:
{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا "86"} (سورة النساء)
إن المسألة هنا تخرج من دائرة حساب البشر بعضهم البعض، إن الواحد منهم من المسلمين عندما يحيا بتحية، فالحق سبحانه قد طلب من كل مسلم أن يرد التحية، ولا تنتهي المسألة عند ذلك، ولكن لابد أن يكون لها حساب عند الله. فالحق سبحانه وتعالى عندما يرى خلقه المؤمنين به يتكارمون، فهو يضعها في الحساب، فالحساب لا ينتهي عند أن يرد المؤمن التحية أن يؤدي خيراً منها، ولكن هناك جزاء آخر في الجزاء الأعلى عند مليك مقتدر.
إن المؤمن له أن يفتخر بعمله، وأن يخشع في ذات الوقت، ويشكر الله الذي وفقه إلي أداء هذا العمل، لذلك فلا يجب أن يكون الإنسان المؤمن عظامياً، أي: يستمد الفخر مما صنعه الأجداد من مجد غابر بينما الحاضر خرب.
والشاعر العربي يقول:
لا ينفع الحسب الموروث من قدم
إلا ذوي همه غاروا على الحسب
العود من مثمرٍ إن لم يلد ثمراً
عوده مهما سما أصلاً من الحطب
إن الحق سبحانه يريد أن ينبه المؤمن إلي ضرورة أداء العمل الذي يمكن أن يفخر به. وينسب الفضل لله، إن المؤمن عليه أن يعرف أن مجد آبائه انتهى به، ولذلك يجب على المؤمن أن يكون عمله فخراً للآباء بأنهم أنجبوه. والتاريخ يحفظ لنا في هذا المجال ما رواه الرواة عن أبي الصقر الشيباني، وقال في نفسه هذا الشعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلت لهم
كلا لعمري ولكن منه شيبان
وكم أبٍ قد علا بابـن ذي شـرف
كما علت برسول الله عدنان
إن المؤمن عليه أن يعمل العمل الذي يفخر به، وأن ينسبه إلي الخالق الأكرم الذي يعطي المدد ليكون الإنسان ذا أثر في الوجود، لقد أراد الإسلام أن يضع نهاية للفخر بالآباء أو بأداء الأعمال التي يثيب عليها الحق، كإطعام الطعام أو حمل البقايا من الأماكن المقدسة، أو أداء الدية عن الفقير الذي دفعته الظروف أن يكون قاتلاً، وحتى لا تستمر التارات وسفك الدماء. وهذا هو المعنى الذي يصل إلينا من قول الحق سبحانه:
{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ"200"} (سورة البقرة)
إن ذكر الله هو الذي يعطي المدد والمعونة ليكون المؤمنون أهلاً لقيادة حركة الحياة في الأرض، يوطنون فيها الأمن والسلام والرحمة والعدل.