المقيت
قال تعالى:
{وكان الله على كل شيء مقيتاً "85"} (سورة النساء)
هو الذي يعطي الأقوات، وقيل في معنى المقيت: أي خالق الأقوات البدنية والروحانية، وموصلها إلي الأرواح والأشباح. وصلى الله على سيدنا محمد الذي جعل من القوت ذكر الحي الذي لا يموت.
قال عليه الصلاة والسلام: "أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني"
وقال الأزهري أن "المقيت" هو المقتدر بلغة قريش. فيكون قوله تعالى:
{وكان الله على كل شيء مقيتاً "85"} (سورة النساء)
{وكان الله على كل شيء مقتدراً "45"} (سورة الكهف)
أي: مطلقاً قادراً.
وفي ذلك تنبيه لكل العباد: إياكم أن يظن أحدكم أن هناك شيئاً مهما صغر سوف يفلت من حساب الله، فلا في الحسنة سيفلت شيء، ولا في السيئة سيضيع شيء. إن كلمة "مقيتاً" أخذت من العلماء أبحاثاً مستفيضة فقال عالم في معناها: إن الحق شهيد. وقال الآخر: إن الحق حسيب. وقال ثالث: إن مقيت معناها مانح القوت. ورابع قال: إنه حفيظ. وخامس قال: إنه رقيب. ونقول لهم جميعاً: لا داعي للخلاف في هذه المسألة. فهناك فرق بين تفسير اللفظ بلازم من لوازمه، وقد يكون متعدد اللوازم، ويصبح كل ذهاب إلي معنى من اللوازم، فهو صحيح، ولكن المعنى الجامع هو الذي يكون من مادة الكلمة ذاتها.
{وكان الله على كل شيء مقيتاً "85"} (سورة النساء)
و "مقيت" من "قاته" أي: أعطاه القوت، و "مقوت" أي: أعطاه القوت. ولماذا يعطيهم القوت؟ ليحافظ على حياتهم، فهل مقيت بمعنى أنه يعطيهم ما يحفظ حياتهم، ومعناها أيضاً المحافظ عليهم. فهو الحفيظ. وبما أنه يعطي القوت ليظل الإنسان حياً فهو مشاهد له، لا يغيب المخلوق عن خالقه لحظة، وبما أنه يعطي القوت للإنسان على قدر حاجته، فهو حسيب. وبما أنه يرقب كل سلوك للإنسان فهو يجازيه. إذن: كلها تدخل في مادة واحدة، لذلك لا يجب أن نقول: اختلف العلماء في هذا المعنى، ولكن لنقل: إن كل عالم لاحظ لحظاً في الكلمة، فالذي لاحظ القوت الأصلي: لاحظ مراقبته لعباده دائماً فهو شهيد، ولا يعطي واحداً قوتاً إلا إذا كان قائماً وهو حسيب.
إنه سبحانه يقيت الإنسان فقط، ولكن يقيت كل خلقه، فهل يقيت الحيوان فيوصي الحيوان أن يأكل صنفاً معيناً من الطعام، ولا يأكل الصنف الآخر. إذن: فإذا رأينا العلماء ينظرون إلي "مقيت" من زاوية مختلفة، فهم جميعاً على صواب سواء من جعلها من القوت أو الحفظ أو القدرة أو المشاهدة أو من الحساب، وكل واحد إنما نظر إلي لازم من لوازم كلمة "مقيت".
{وكان الله على كل شيء مقيتاً "85"} (سورة النساء)
فهو سبحانه يقيت كل شيء فهو يقيت الإنسان والحيوان والنبات والجماد، ونحن نجد علماء النبات يشرحون ذلك، فنحن على سبيل المثال نزرع النبات، فجذور النبات تمتص العناصر الغذائية من الأرض. وقبل أن يصبح للنبات جذور فهو يأخذ غذاءه من فلقتي الحب التي تضم غذاء النبات إلي أن ينبت له جذر، وبعد أن يكبر جذر النبات، فإن الفلقتين تصيران إلي ورقتين، فهو على كل شيء مقيت. ويقول العلماء من بعد ذلك: إن الغذاء قد امتصه النبات بخاصية الأنابيب الشعرية، ما معنى الأنابيب الشعرية؟
إن النبات يمتص الغذاء من التربة بواسطة الجذور الرفيعة التي تمتص الماء المذاب فيه عناصر الغذاء، وفتحة الأنبوبة في الأنابيب الشعرية لا تسع إلا مقدار الشعرة، وعندما توضع في الإناء فإن السائل يصعد فيها ويرتفع الماء عند مستوى الحوض. وعندما تتوازى ضغوط الهواء على مستويات الماء، فالماء لا يصعد، وعندما يأتي بماء ملون نضعه في الإناء والأنابيب الشعرية، فالسائل الملون يصعد إلي الأنابيب الشعرية، ولا توجد أنبوبة تأخذ مادة مختلفة من السائل، بل كل الأنابيب تأخذ المادة نفسها، لكن شعيرات النبات تأخذ من الأرض الشيء الصالح لها، وتترك الشيء غير الصالح.
ويقول عنه العلماء: إن ذلك هو الانتخاب الطبيعي، ومعنى الانتخاب هو الاختيار. والاختيار يقتضي عقلاً يفكر ويرجح. والنبات لا عقل له، لذلك كان يجب أن يقولوا إنه الانتخاب الإلهي. فالطبيعة لا عقل لها، ولكن يديرها حكيم له مطلق العلم والحكمة والقيومية، والحق سبحانه يقول عن ذلك:
{يسقي بماءٍ واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون "4"} (سورة الرعد)
فالفلفل يأخذ المادة المناسبة الحريفية، والقصب يأخذ المادة التي تصنع حلاوته، والرمان يأخذ المادة الحمضية، فهذا هو الانتخاب الإلهي:
{وكان الله على كل شيء مقيتاً "85"} (سورة النساء)
وساعة تسمع "كان الله" فإياك أن تسمع لـ"كان" ملحظاً في الزمن، فعندما نقول بالنسبة للبشر: "كان زيد غنياً" فزيد من الأغنياء، قد يكون ثراؤه قد ذهب. لكن عندما نقول "كان الله". فإننا نقول "كان الله ومازال" لأن الذي كان ويتغير هو من تدركه الأغيار، ولكن الحق سبحانه هو الذي يغير ولا يتغير، فهو موجود منذ الأزل وإلي الأزل، إنه سبحانه قال لنا عن الشفاعة، وأمرنا أن يعدد الواحد منا مواهبه على الغير حتى تتساند قدرات المجتمع، إنه سبحانه مربب الفائدة للعبد المؤمن ويرببها للجميع.