القابض - الباسط
الحق سبحانه وتعالى هو الذي يقبض ويبسط، أي: أنه الذي يعطي الرزق اختباراً، ويمنع الرزق اختباراً. ويرد لك ما تعطيه لغيرك، أو تنفقه في سبيل الله أضعافاً مضاعفة، ويأمر المقترض بضرورة سداد القرض متى أصبح قادراً وإليه ترجعون، فيأخذ كل ذي حق حقه. الحق سبحانه وتعالى عنده الخزائن التي لا تنفذ إذا أعطى لكل واحد مطلوبه، فلن ينقص ذلك مما عنده شيئاً.
قال تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أن أولكم وآخرك، وحيكم وميتكم، ورطبكم ويابسكم اجتمعوا في صعيد واحد، فسأل كل إنسان منكم ما بلغت أمنيته، فأعطيت كل سائل منكم ما سأل ما نقص ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمس فيه إبرة ثم رفعها إليه ذلك بأني جواد ماجد، افعل ما أريد، عطائي كلام، وعذابي كلام، إنما أمري بشيء إذا أردته أن أقول له: كن فيكون".
لأن الإنسان لو لم يكن محتاجاً في بطنه قوت، وعلى بدنه ثياب، وفي بطن أولاده قوت، وعلى أجسادهم ثياب، فإنه لا يذهب إلي المهن التي تتطلبها الحياة ويعمل بها، ولكن الذي يجعله يلجأ إلي هذه الأعمال حاجته إلي المال، فالله يقبض عنه حتى يزاول حركته الحياة التي يستنكف أن يصفها إن لم يكن محتاجاً. والله لا يريد لحركة الحياة أن يتفضل الناس على الناس، بل لابد أن ترتبط مصالح الناس على الناس، بل لابد أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بالحاجة من الناس إلي الناس. فإذا كان الحق سبحانه لا يبسط على الناس كل البسط، ولا يقبض عنهم كل القبض، ولكنه يبسط ويقبض.
قال تعالى:
{الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .. "26"} (سورة الرعد)
فإذا كان الحق ـ سبحانه وتعالى ـ الذي لا تنفد خزائنه يعطي بمقدار، فلا يبسط على الناس جميعاً، ولا يقبض عنهم جميعاً، فمن باب أولى أن يكون الإنسان كذلك، فلا يبسط يده كل البسط، ولا يجعلها مغلولة إلي عنقه، ويقبضها كل القبض. وهذه نظرية اقتصادية تضمن راحة الدنيا؛ لأن الذي يتعب الحياة أن صاحب الرزق الضيق، يريد أن يعيش في مستوى الذي وسع عليه في رزقه نقول له لا، رحم الله أمراً عرف قدر نفسه.
فساعة تدخل مثلاً أنت وزميل لك متجراً ليشتري كل منكما بذلة، وكل منكما يتقاضى راتباً قدره مائة جنيه مثلاً أنت أبوك غني يعطيك على المائة جنية خمسين جنيهاً من عنده، فيكون دخلك مائة وخمسين جنيهاً، وزميلك والده فقير فيعطيه ابنه ثلاثين جنيهاً، ويعيش هو بسبعين جنيهاً. إذن: فمستواه الاقتصادي ليس هو المستوى العلمي والوظيفي معاً، فدخله نصف دخلك تماماً، فإذا اشتريت أنت بذلة ثمنها ثلاثون جنيهاً مثلاً، فالكلام الاقتصادي الدقيق أن يشتري هو بذلة ثمنها خمسة عشر جنيهاً؛ لأن مستواه الاقتصادي كذلك.
لكن الذي يتعب الدنيا أن الفقير يعاند الغني ويحاول أن يظهر بمظهره وينفق مثله في الأكل والشرب والمعيشة، وهذه آفة المجتمعات، ورحم الله امرؤ عرف قدر نفسه. ولنعلم أن الذي يحترم قدر الله حين يقدر الله عليه ويعيش في مستواه غير متمرد على وضعه. يقول له الله سبحانه وتعالى: "رضيت بقدري فيك فأرفعك إلي قدري عندك". ولذلك نجد كل واحد يرضي بقدر الله فيه، ويعيش في رضاء وشكر لله، ولا يتطلع إلي ما أتى الله بعض خلقه، ويقبل الرزق من الرازق يقول له الحق سبحانه وتعالى: "أنت رضيت بقسمتي وقدري فيك، فسأعطيك افضل ما أعطي خلقي".
وكل الناس الذين يرضون بقدر الله فيهم ولا يحقدون أو يغضبون تجد حياتهم ترتقي ارتقاءات عالية ويعيشون عيشة سعيدة مطمئنة. فالله سبحانه وتعالى يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ لأن تعالى يريد أن يضع الإنسان خليفة في الأرض وليس أصيلاً فيها، والذي يتعب الدنيا أن يظن الإنسان نفسه أصيلاً في الكون نقول له: لا أنت خليفة فقط. والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة في الكون، ويظن أنه أصيل فيه، والخليفة يعني أنه خليفة لمن استخلفه، فأنت ممدود ممن أمدك، فإياك أن تفتري أو أن تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدره الله لك. فالله يبسط الرزق لهذا، ويقبضه عن هذا، يضيق على الغني، ويوسع على الفقير، ليولد في الإنسان غرور الاستغناء عن الله، فلا يظن أحد أنه بغناه استغنى عن ربه.
فلو أن الله متع الإنسان دائماً بالصحة لما استمتع الكون بلذة دعاء المريض، اللهم اشفني، ولو متعه بالغنى لما قال أحد: يا رب ارزقني، فالذي يجعل الإنسان مردوداً للمنعم أن النعمة بيده سبحانه. قال تعالى:
{كلا إن الإنسان ليطغى "6" إن رآه استغنى "7"} (سورة العلق)
فالبسط والقبض والسعة والتضييق لكل منها حكمة، فالله لا يبسط للناس كل البسط فيعطيهم ما يريدون، ولا يقبض عليهم كل القبض فيعطيهم ما يكرهون، ولكن يعطي هذا، ويمنع هذا، لتستقيم حركة الحياة. فإذا كان الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر الكون، فلو استغنى كل واحد لاستقل بذاته عن الناس، وتمرد على الكون وما فيه، ويكثر الحقد والبغض. ولكن حين يعلم الإنسان أنه ابن أغيار، وأن الغنى أو الفقر ليس أصيلاً فيه، وأنه من عند الله، حينئذ سيرضى بقدر الله فيه، فإن أعطاه شكر وشعر بالفقراء والمحتاجين، وأعطاهم من فضل الله، وإن ضيق عليه صبر، وعلم أن هذا ابتلاء من الله.
فمن رضى التضييق في وقت، وسع الله عليه في وقت آخر، والذي يغتر بالنعمة في وقت يضيق الله عليه في وقت آخر؛ ليظل الكون المخلوق موصولاً بالمكون الخالق، فقوله تعالى:
{إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً "30"} (سورة الإسراء)
أي: أن ربك يا محمد أنت عبده أكرم الخلق، ومع ذلك حين يبسط الله لك أصبحت تعطي عطاء من لا يخشى الفقر، وحين قبض عنك كنت تربط على بطنك الحجر من الجوع، فإذا كنت أنت أكرم الخلق، وفعل الله معك هذا، فيجب على الناس ألا يستنكفوا إذا فعل الله معهم ذلك؛ لأن ذلك لحكمة.
{ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدرٍ ما يشاء .. "27"} (سورة الشورى)
قال تعالى:
{أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون "37"} (سورة الروم)
ألم يروا كيف قسم الله الأرزاق في الكون، فهناك غني لم يتعب في جمع المال بل ورثه عن أبيه، وهناك فقير يكدح ليحصل على قوت يومه وتكون عيشته كفافاً، وهذه عملية استقبلها الفلاسفة بما في ضمائرهم من إيمان وإلحاد. فواحد استقبلها بإيمان، وآخر استقبلها بإلحاد. والاستقبال واحد لشيء واحد. فابن الرواندي الملحد يقول:
كم علم عالم أعـيت مذاهبه
وجاهل جـاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة
وصير العالم النحرير زنديقا
أي: كيف يكون العالم العاقل فقيراً مضيقاً عليه في الرزق، ويكون الجاهل الأحمق غنياً مبسوطاً؟ فرد عليه واحد يملك الإيمان قلبه بقوله:
كم عالم قد بات في عسر
وجاهل جاهل قد بات في يسر
تحير الناس في هذا فقلت لهم: هذا الذي أوجب الإيمان بالقدر لكي نعرف أن العالم ميكانيكياً، لكن انظر إلي البسط فيمن بسط وهو الله، فلا تعزل البسط عمن قدره، وهو الله، ولا تعزل القبض والتقدير عن الله، فالفاعل واحد والناس بالنسبة له سواء. فلابد أن تعرف أن له حكمة في هذه وحكمة في تلك، فإذا نظرت إلي الغنى المترف الذي يلهو أولاده ويعبثون بالأموال، ويبعثرونها على ملذاتهم وشهواتهم، ويشربون بها المحرمات، ويتعاطون المخدرات بأنواعها. وهناك أيضا الرجل الفقير الذي يكد ويكدح لينفق على أولاده من حلال، ورغم دخله الضئيل الذي يعيش منه على الكفاف هو وأولاده تجد أولاد هذا الفقير ينجحون في المدارس ويتفوقون على أولاد الأغنياء المترفين رغم ما ينفقونه من أموال على الدروس الخصوصية طوال العام.
إذن: لله حكمة في ذلك، فهو يبسط لحكمه ويقدر لحكمه، حتى يعلم الناس أن المسألة ليست ميكانيكا، وأن الرزق ليس بالفهلوة أو الشطارة، ولكنه مقسم بقدر الله وإرادته. ولذلك نحن قلنا سابقاً: إن ألمانيا فيها مدرستان فلسفيتان، كل واحدة منها تمثل رأياً، وأولها رأيهم في العقيدة والإيمان. المدرسة الأولى يزعم صاحبها أن العالم ليس له إله لماذا؟
قال: لأنه لو كان للعالم إله يحكم لما خلق إنساناً أعور أو أعمى أو أعرج .. الخ وكان جعل كل الخلق متساوين، فهو أخذ الشذوذ في الكون دليلاً على الإلحاد.
والمدرسة الأخرى مقابلة لهذه المدرسة، وصاحبها يدعي أن الكون ميكانيكا، فالناس يخلقون بطريقة واحدة عن طريق الزواج والحمل والوضع .. الخ وكذلك الحيوانات والطيور، والأفلاك في الكون، تسير كلها بنظام رتيب لا يتغير، فلو كان هناك إله لغير هذا النظام، وخلق الناس بطرق مختلفة وأشكال مختلفة، ولكانت له إرادة مطلقة عن هذه الميكانيكا.
فهو أخذ ثبات النظام في الكون دليلاً على الإلحاد، والآخر أخذ شذوذ النظام دليلاً على الإلحاد، فكأن كل واحد منهما يريد أن يلحد، ويأتي بأدلة زائفة يؤيد بها رأيه، حتى لو تناقض مع غيره. ونحن نرد على كل واحد منهما، فالذي يتخذ الشذوذ في الكون دليلاً على عدم وجود إله حكيم نقول له: هذا الشذوذ يأتي في الأفراد الذين يعوض بعضهم عن بعض، فمثلاً واحد أعمى، وآخر أعور، وكثيرون مبصرون. فإذا وجد واحد أعمى فلن تفسد الدنيا، والنظام الثابت إذا أردت أن تراه فانظر إلي الكون الأعلى من شمس وقمر ونجوم والهواء والكواكب والبحار والأنهار، ففي النظام العام ثبات، وفي الأفراد الذين يغني بعضهم عن الآخر يوجد بعض الشذوذ.
فهذا الشذوذ يثبت بطلاقة القدرة، وثبات النظام في الملأ الأعلى يعطينا حكمة القدرة، فيا من تريد ثبات نظام الكون دليلاً على الإيمان، فهو موجود في القوى العليا، ويا من تريد الشذوذ في الخلق دليلاً على الإيمان، فهذا موجود في الأفراد، ولكن إذا كان هذا الشذوذ في الملأ الأعلى تخرب الدنيا. فيا من تريد ثبات النظام دليلاً على الإيمان فهو موجود، ويا من تريد شذوذ النظام دليلاً على الإيمان فهو موجود أيضاً.
فقوله تعالى:
{أو لم يروا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر .. "37"} (سورة الروم)
يعني: ألم ينظروا بأعينهم كيف يوسع الله الرزق لبعض الناس، ويضيق على البعض الآخر، ولأن الله تعالى هو الرزاق فمرة يرزق بالأسباب، ومرة أخرى يقول لك: إياك أن تغتر بالأسباب لأنك قد تفعل الأسباب، ولكن الله لم يقدر لك رزقاً فتأتي الأسباب، فقد تزرع الزرع وتتعهده بالرعاية والري والتسميد وقبل أن ينضج المحصول تصيبه جائرة، فيضيع المحصول دون أن تستفيد بشيء منه.
إذن: ساعة تجدي الأسباب، فهذا يدل على غرور الإنسان، فلا يتواكل ويأخذ بالأسباب؛ لأن المطلوب منك أن تتحرى إلي الرزق أسبابه، ولا تشغلن بعدها بالك؛ فإنك تجهل عنوانه، ورزقك يعلم عنوانك.