البارئ
(برؤ) بضم الراء أي خلا من العيب أو التهمة، و(برأ) من العيب أو التهمة أي قضى ببراءته منه، والاسم (برئ) كما في قوله تعالى:
{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا"112"} (سورة النساء)
و(البراء) مرادف لبرئ ومنه قوله تعالى:
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ "26"} (سورة الزخرف)
و(أبرأ) فلانا من حق له عليه أي خلصه منه.
و(برئ) المريض أي شفى من مرضه.
و(برأ) الله الشيء أي خلقه صالحا ومناسبا للمهمة والغاية التي ابتغاها من خلقه، ومنه بريت القلم أي جعلته صالحا للكتابة، وبريت السهم أي جعلته مناسبا وصالحا للإصابة .. والاسم (بارئ).
و(البارئ) اسم من أسماء الله الحسنى، فإذا قلنا خلق الله عز وجل الإنسان فمعنى ذلك أنه استحدثه وأوجده من العدم المطلق، وإذا قلنا برئ الله الإنسان فمعنى ذلك أنه استحدثه وأوجده من العدم المطلق في خلقة تناسب المهمة والغاية التي خلق من أجلها. فالخالق قد يخلق الشيء مناسبا أو غير مناسب، أما البارئ فلا يخلق الشيء إلا مناسبا للغاية التي أرادها من خلقه ويؤخذ ذلك من قوله تعالى:
{ لَقَد خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)} (سورة التين)
فلو كان فعل الخلق يشير إلي درجة الخلق من الحسن أو القبح لما أضاف المولى عز وجل عبارة في احسن تقويم، ولو كان اسم الله عز وجل (البارئ) مرادفا مرادفة تامة لاسمه (الخالق) لما قال تبارك وتعالى:
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ "24"} (سورة الحشر)
وإذا تأملنا الكون المحيط بنا سنلاحظ أن الله عز وجل قد خلق كل شيء صالحا لمهمته مناسبا للغاية من خلقه ومتوائما مع المحيط الذي وضع فيه. فالإنسان خلق ليكون خليفة الله عز وجل على الأرض وليكون عارفا بالله عابدا له متأملا في ملكوته لذلك برأه في خلقه تناسب جلال الغاية فبرأه أي خلقه في احسن تقويم .. أي احسن خلقه، فجعله احسن المخلوقات من حيث التركيب ومن حيث الشكل، مألوفا من سائر الكائنات الحية، معظم الكائنات في علاقة ود وتراحم مع الإنسان .. الحصان .. الجمل .. الحمار .. الكلب .. القط .. الطيور حتى الجن يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم كما قال المولى عز وجل:
{يَا بَنِي آَدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآَتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ "27"} (سورة الأعراف)
فالشياطين يروننا لأننا مقبولون مألوفون لهم شكلا بينما لا نرى نحن الشياطين لأن أشكالهم غير مألوفة ولا مقبولة لدينا. ولقد صرح المولى عز وجل بخلافة الإنسان على الأرض فقال سبحانه:
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ "30"} (سورة البقرة)
فالإنسان بصريح الآية السابقة خليفة الله عز وجل على الأرض .. خلق ليكون عارفاً بالله عابداً له، لذا برأه مناسبا لهذه الغاية بأن ميزه بالعقل، والعقل كما نعلم هو مستقر ومستودع وسائل الإدراك .. إليه ترجع قدرة الإنسان على السمع والبصر والشم واللمس، وهو الذي يحوي الذاكرة مخزن المعلومات، وهو المسئول عن عملية التفكير والتي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات.
وليس ذلك فحسب بل جعل الله للإنسان وسيلة للتعبير والبيان عما يجول بخاطره .. فخلق له لسانا مبينا ينطق الحروف بمخارجها، والحرف أساس الكلمة، والكلمة وسيلة التعبير عن المعنى الكامن في عقل الإنسان، والمولى عز وجل قد علم آدم كل الكلمات كما جاء في قوله تعالى:
{وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)} (سورة البقرة)
وقال سبحانه أيضا:
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)} (سورة الرحمن)
وإذا تأملنا سائر الكائنات والتي خلقت مسخرة للإنسان، سنجد أن المولى عز وجل قد برأ كل كائن ـ أي خلقه مناسبا لمهمته ـ، فالناقة والحمار لديهما من القوة ما يمكنهما من حمل الإنسان وأثقاله إلي الأماكن المتباعدة. والحصان أوتى قدرا من السرعة ليتمكن به الإنسان من قطع المسافات البعيدة في أزمنة قصيرة. والبقر أوتى لحما كثيرا ليمد الإنسان بالغذاء الذي يحتاج إليه من البروتين وغيره من المواد الغذائية، وأجرى الله من بطونه لبنا نقيا سائغا للشاربين كما قال جل وعلا:
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ "66"} (سورة النحل)
حتى المخلوقات التي يظن البعض أن وجودها يمثل شرا محضا للإنسان .. تجد المناسبة بينها وبين مهمتها في الكون واضحة جلية، فهي من جهة تملك إيذاء الإنسان، إذ منها ما هو مفترس، ومنها ما قد يقتل الإنسان بسمه، وهذا الإيذاء ليس مقصودا بذاته وإنما قصد به إحاطة الإنسان بقدر من الأعداء لا يملك أن يتصدى لهم إلا بمعونة الله عز وجل .. فيلجأ إليه بالعبادة والدعاء إذا تمكن منه أحد هؤلاء الأعداء.
ذلك أن الإنسان يكون أقرب ما يكون من ربه عز وجل في حالات الحاجة كالمرض والشيخوخة والظلمة وغير ذلك من دواعي الحاجة والضيق والخوف وفي ذلك يقول جل وعلا:
{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ "12"} (سورة يونس)
وقوله تعالى:
{فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ"49" } (سورة الزمر)
ومن جهة أخرى فإن الإنسان ينتفع بهذه المخلوقات .. فمنها ما ينتفع بجلده ومنها ما يفرز سموما تستخدم في صناعة الأدوية والعقاقير، كما قال شوقي رحمه الله في مدح الرسول عليه افضل السلام وأتم التسليم:
الحرب في حق لديك شريعة
ومن السموم الناقعات دواء
وإذا تأملنا المخترعات التي توصل إليها الإنسان واستطاع أن يخرجها إلي حيز الوجود .. سنجد أن الإنسان لم يخلقها من العدم المطلق بل صنعها من مواد سابقة لها في الوجود، والإنسان لم يعط هذه المواد الخصائص الملازمة لها والتي كانت أساس هذا الاختراع أو ذاك. خذ على سبيل المثال التلفاز والمذياع تجد أن نظرية عملهما تقوم على تحويل الصوت أو الصورة إلي موجات كهربائية لها تردد أو ذبذبات الصوت .. هذه الموجات تنتقل عبر الهواء أو الأثير، ثم يتم استقبالها بواسطة أجهزة استقبال، ثم يتم تحويل هذه الموجات الكهربائية إلي صوت أو صورة مرة أخرى من خلال التلفاز أو المذياع.
وهنا نتساءل: هل الإنسان هو الذي جعل الهواء قادرا على نقل الموجات اللاسلكية؟. لاشك أن الله عز وجل هو الذي (برأ) الهواء أي خلقه بما له من خصائص ليناسب المهمة والغاية التي ابتغاها من خلقه .. فهو الذي جعل في الأوكسجين اللازم لتنفس الإنسان وثاني أكسيد الكربون اللازم لتنفس النبات، وجعل فيه من الخاصية ما يمكنه من نقل الموجات الكهربائية واللاسلكية، فهو جل وعلا يعلم بعلمه الأزلي وأراد بمشيته أن يمكن الإنسان في يوم من الأيام من اختراع أجهزة لنقل الصوت والصورة .. هذا اليوم الذي سيزداد فيه أهل الأرض وتتباعد بينهم المسافات فيستلزم الأمر وسائل للتعارف وتبادل العلوم .. فهو جل وعلا القائل:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ "13"} (سورة الحجرات)
وهو سبحانه المتكفل بأن يظل هذا التعارف قائما لا يحول دونه بحار أو محيطات أو جبال أو تلال، وهذا ما حققته الأجهزة الحديثة للاتصالات والتي اخترعت من مواد لها خصائص معينة، هذه الخصائص ـ كما قلنا ـ لازمتها منذ أن خلقها الله عز وجل. تأمل أيضا وسائل النقل .. تجد أن الله عز وجل قد خلق المعدن الذي استخدمه الإنسان في تصنيع هذه الوسائل .. وهو سبحانه الذي خلق البترول بما له من خاصية الاشتعال وتوليد الطاقة، وأودعه في باطن الأرض حين يحين ميعاد استخراجه واستخدامه. كل شيء في الكون .. برأه الله عز وجل أي خلقه مناسبا وصالحا للمهمة والغاية التي خلق لها، فندعوه جل وعلا كما برأنا أن يبرئنا من العيوب والخطايا وأن يبعثنا يوم القيامة من الفزع آمنين.