molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: إعداد الذات - عبد الله بن عبد العزيز المبرد / الرياض الإثنين 30 يوليو - 5:11:07 | |
|
إعداد الذات
عبد الله بن عبد العزيز المبرد / الرياض
الخطبة الأولى إنَّ من بالغِ حكمةِ الله عز وجل أن يجعلَ عباده درجات بعضهم فوقَ بعض، يُقسِّمُ بينهم الأرزاق والأخلاق، ويتمايزون في العلمِ وفي نظرتهم للحياة وفهمهم لحقيقةِ ما خُلِقوا من أجله، ثمَّ تمضي الحياةُ، وتطوي أعمارَ الناسِ فضلائهم ومفضوليهم، ويصيرون إلى ربهم، فمنهم من أعتقَ نفسه، ومنهم من أوبقها، فمنهم من يُقال له: كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]، ويقال لآخرين: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ[الطور:14]. الحياةُ وأيامُها الغاديات الرائحات هبةُ الله لعباده، وهي كذلك بلاءٌ لهم واختبار؛ كيف يديرونها؟ وكيف يعيشونها؟ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك:2]. أجل، فاللهُ عزَّ وجل يهبُ عبده الحياةَ، ويمدّهُ بأسبابها ليبلُوه، لينظرَ كيف يعمل، كيف يتصرف، كيف يمضيها. يقولُ ابن القيم: "والناسُ قسمان: عِلْيَة، [ومنهم] الشريف الذي عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصدًا الوصول إليه، وهذا هو الكريم. وسَفَلةً، [ومنهم] اللئيم الذي لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعَرّفها، فهذا هو اللئيمُ الذي قال الله فيه: وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ [الحج:18]". ففهمُ الحياةِ على حقيقتها وتحقيقُ العبوديةِ التي هي علةُ الإيجاد وغايةُ الخلقِ والتزامُ الحقِّ والدفاع عنه والجدّيةُ في الالتزامِ بالإسلام هي معارجُ النجاةِ في الدنيا والآخرة، وهي كذلك سرّ عزِّ الأمةِ وسبب قوّتها ومجدها، فدولةُ الإسلام الأولى التي شيَّدها رسول الله إنَّما قامت على أكتافِ الرجالِ الأشدّاء ذوي العزمِ والجدِ والصدقِ والإخلاص، كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعليٍ وأبي عبيدةَ وسعد بن أبي وقاص وغيرهم، أولئكَ الرجالُ ومن شابههم من أفذاذِ الأمةِ في عصورها المتلاحقةِ أسَّسُوا حياتهم على فهمٍ عميق وإيمانٍ وثيق وجدٍ متّصل، فكان واحدهم كألف، بل إنَّ الأمةَ قد تمرُ بأزمةٍ شديدة أو منعطفٍ خطير فإذا واحدٌ من أبنائها وفردٌ من رجالها يمسكُ بزمامها، فيعصمها الله به من شرٍ عظيم وخطرٍ ماحِق، كما فعل الصدِّيقُ يومَ الردّةِ، وكما فعلَ عُمرُ بن عبد العزيز حين غشَاها الظلمُ والجور، وكما فعل أحمد بن حنبل يوم فتنة خلقِ القرآن، وكما فعل محمدُ بن عبد الوهاب يوم تاهت الأمة في فجاجِ الشرك. كلُّ أولئك وغيرهم إنَّما هم أفرادٌ وهبهم اللهُ من السماتِ والخصائص ما وهبهم، ثمَّ أدّبوا أنفسهم وربّوها، وأ+بُوها من خصالِ الجدِّ والعزم والصدق والصبر ما أهَّلهم للقيادة ورشَّحهم للتأثير والتغيير. ولأجل ذلك فإنَّهُ لا عجب أن يمرَّ بالأمّةِ أزماتٌ ومحنٌ وشدائدُ، ولكنَّ العجبَ أن لا يخرجَ من أبنائها من يصُدّ عنها، العجبُ أن تنجحَ مشاريعُ الأعداءِ في تشتيتِ اهتماماتِ رجال الأمة، وتنجحَ في تسطيحِ اهتماماتِ شبابها، فلا يعرفون قيمةَ ذواتهم، ولا يفهمون مهمّتهم، ولا يُقدِّرون ما وهبهم اللهُ من مواهب وقدرات، فتضيعُ حياتُهم في الركضِ وراءَ المصالحِ الشخصية أو خلفَ الشهوات الدنِيّة، فتبقى قضايا الأمةِ الكبرى من الدعوةِ والجهاد والنجْدةِ والإغاثة والإصلاح لا نمنحها إلاَّ المواهبَ المتواضعة والأوقاتِ المتقطعة والفكرِ المكدُود. أخذ عُمر بن الخطاب مجلسهُ من أصحاب رسول الله فقال لهم: تمنّوا، فقال أحدهم: أتمنّى لو أنَّ هذه الدار مملوءة ذهبًا فأُنفقهُ في سبيل الله، ثم قال عمر: تمنّوا، فقال آخر: أتمنّى لو أنَّها مملوءة لؤلؤًا أو زَبَرْجَدًا أو جوهرًا فأنفقهُ في سبيل الله وأتصدقُ به، فلا زالَ يقولُ لهم: تمنّوا حتى قالوا: ما ندري يا أميرَ المؤمنين، ما ندري يا أميرَ المؤمنين، فقال عُمر: أتمنّى لو أنَّها مملوءة رجالاً مثلَ أبي عبيدةَ بن الجراح ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حُذيفة وحذيفةَ بن اليمان. أجل، لقد كان مشغولاً بالأفرادِ الأفذاذ الذين تكاملَ تكوينهم إيمانًا وعلمًا وصدقًا وصبرًا وتضحيةً في سبيلِ الله، أولئكَ أنفعُ للأمةِ من الذهبِ والفضةِ ومن اللؤلؤ والزَّبَرْجَد. هؤلاءِ الرجال هم الذين يُغيّرون مَجْرى التاريخ، وهم مَن تقومُ عليهم الحضارات وتسيرُ بهم في الآفاقِ المبادئ والدعوات. أيَّها المصلون، في كلِ فردٍ منَّا خصائص ومواهب وصفات لو أخدمها للإسلامِ لتغيّرَ طعم الحياةِ في مذاقه، ولأحسَّ بقيمته وقدره، والإسلامُ لا يريدُكَ أن تُغيّر مُيُولَك أو تلغي صفاتِك، وإنَّما يُريدُك أن توجّهها الوجهةَ الصحيحة، يُريدُك أن تزدادَ بها شرفًا ورفعةً، ويُريدُها أن تزيدَك قُربًا من ربك. فمن كان قويًا شُجاعًا مِقْدامًا فعلام يضيعُ ذلك في العبثِ والمغامرات الرياضية والإسلامُ بأمسِ الحاجةِ إلى شُجاعٍ يُقدِّمُ نفسه أو يصدع بالحقِ؟! ومن كان بليغًا فصيحًا فدُونهُ دعوة الحقِّ، فهي أحقُّ بمن كان ناصعا بيانُه وفصيحًا لسانُه، ومن كان رقيق القلبِ سخيّ النفس ليّن الطبع ففي الأمةِ من هُم بأمسِ الحاجةِ لفؤادٍ رؤوف وقلبٍ عطُوف، قال : ((كلٌّ مُيسّرٌ لما خُلِق له)). فعُمر بن الخطاب كان رجلاً قويًّا شُجاع القلبِ والرأي، إذا اعتنق رأيًا صدعَ به ونافحَ عنه، كان قويًّا في المواجهةِ، قادرًا على التحدّي، ولذلك نالَ المسلمين ما نالهم منهُ وهو على الكفرِ، فلمَّا هداهُ الله للإسلامِ حوّلَ خصائصَ القوةِ إلى خدمةِ الإسلام، سماتُهُ كانت كما هي، ولكنَّهُ استثمرها في الدعوةِ للحقِ والدفاعِ عنه، فالذي كان يتهدّدُ رسول الله أصبحَ اليومَ يصرخُ في وجوهِ الكُفار بشهادة الحق، ويقول: (أحلف بالله لو قد كُنَّا ثلاثمائة رجلٍ لقد تركناها أو تركتموها لنا)، يعني: قاتلناكم في مكةَ حتى تكون لنا أو لكم. فقوّته المُهدرةُ قبل الإسلامِ أصبح يُتاجرُ بها مع الله ويشتري بها الجنة. وخالدُ بن الوليد الذي كان يهدِرُ فروسيتهُ وخبرتهُ القتالية من أجلِ أهدافِ القبيلة أصبحَ يستثمرُها بعد الإسلام لخدمةِ الرسالةِ العالمية والدين العظيم، فكان يقولُ : (ما ليلة تُهدى إليَّ فيها عروس أنا محب لها أو أُبشّرَ فيها بغلامٍ بأحب إلىَّ من ليلةٍ شديدة الجليد بتُّ فيها مع نفرٍ من المهاجرين أُصبِّحُ بها العدو). أجل، إنَّ الخسارةَ أن يَهبَك اللهُ عقلاً سليمًا وجسمًا صحيحًا ويُنعمُ عليك بما لا تعدهُ من النِّعم والمواهبِ والقدراتِ والحياةِ المديدة ثم تضيعُه من بين يديكَ في تافهِ الاهتمامات، وهل أعظمُ من أن يخسرَ الإنسانُ نفسه؟! ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15]، ولذلك سمّى اللهُ القيامة يوم التغابُن؛ لأنَّ فيه غَبْنًا وحسرةً وألمًا وندامةً على فُرصٍ ضاعت وقُدراتٍ أُهدرت ومواهبَ أُهملت. يومَ القيامةِ يُنادى كل عبدٍ بحسبِ اهتماماتهِ في الدنيا، قال : ((فمن كان من أهلِ الصلاةِ دُعي من باب الصلاةِ، ومن كان من أهلِ الجهادِ دُعي من باب الجهاد، ومن كان من أهلِ الصيامِ دُعي من باب الرّيّان، ومن كان من أهلِ الصدقةِ دُعي من باب الصدقة))، فقال أبو بكرٍ وكان ذا همةٍ عاليةٍ ونظرةٍ طموحةٍ: يا رسول الله، ما على أحدٍ يُدعى من هذه الأبواب من ضرورة؟ ـ ويعني: من أيّ بابٍ دُعي الإنسانُ ما دام سيدخُلُ الجنةَ، فليس عليه من بأسٍ أن يُدعى من باب الصلاةِ أو من باب ال+اةِ أو من باب الصومِ أو من باب الجهادِ أو من غيرها ـ فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبوابِ كلها؟ قال : ((نعم، وأرجو أن تكون منهم)). إنَّ جماع الخيرِ ومِعْراج الفلاح أن تربّي نفسك على أن تعشق المعالي والأهداف العظيمة، أن تعرف قيمةَ ذاتك، وأن تنعتق من الدَّورانِ حولَ نفسك؛ فليست الحياةُ الكريمةُ أن تلبسَ أحسنَ اللباس وتسكُن فارِهَ المساكن أو تحوز أضخمَ الأرصدةِ، ليس ذلك هو النجاحُ، وليس هو التفوقُ، بل هو الإخفاقُ بعينه، فعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((تعس عبدُ الدينار، تعس عبدُ الدرهم، تعس عبدُ الخميصةِ، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعط منها سخط، تعس وانتكس، وإذا شِيكَ فلا انْتَقَش)). انظر كيف نعتهُ رسول الله بالعبوديةِ للدرهمِ والدينار والخميصةِ، وليس بعد ذلك دناءة، وذلك وصفٌ لأهلِ الدنيا المشتغلين بها الذّاهِلين عمّا خُلِقوا من أجله، فلا يَعنيهم شيءٌ من أحوال أمتهم ولا دينهم. ثمَّ يمضى الحديثُ الشريف يذكر صنفًا يُقابلُ هذا الصنف ويُعا+ه في السعي والاتجاه، فيقولُ : ((طوبى لعبدٍ آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه، مغبرّةٌ قدماه، إن كان في الحراسةِ كان في الحراسةِ، وإن كان في السَّاقةِ كان في السَّاقة، إن استأذنَ لم يُؤذن له، وإن شفعَ لم يُشفَّع))، فهو كبيرُ الهدف عظيمُ النفس حتى وإن بدا في أعين الناسِ لا شأن له، فلا يضرهُ ذلك، فقد قال فيه : ((طُوبى له)).
الخطبة الثانية اعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ الإسلامَ يأبى لأتباعه أن يمضوا حياتهم صرعى شهواتٍ وأُسارى ملذاتٍ، يأبى لهم أن تتضاءلَ أهدافُهم حتى تنحصرَ في جمعِ المالِ أو تَبَوُّء منصبِ أو بناء بيتٍ أو زواج أو غيرها، ولو كانت هذه هي أهدافُ المؤمن فإنَّهُ لا فرقَ بينه وبين غيرهِ ممن حُرم نورَ الإيمان، فليس بمؤمنٍ من بات عقلُه مَسْبِيًّا في بلادِ الشهوات، وأملُهُ موقوفًا على اجتناءِ اللذّات، وسيرتهُ جارية على أسوأ العادات، ودينه مستهلكًا بالمعاصي والمخالفات، وهمتهُ واقفةً مع السُّفْلِيّات، وعقيدتُه غير مُتلقّاة من مشكاةِ النبوات، فهو في الشهواتِ مُنغَمِس، وفي الشُبهات مُنتَكِس، وعن الناصحِ مُعرض، وعلى المرشدِ مُعترِض، وعن السرّاءِ نائمٌ، وقلبُهُ في كلِ وادٍ هائم. ومن لم يربِّ نفسهُ فمن يُربّيه وقد بلغَ رُشدهُ واستوى على أشدّه؟! لقد جاءتنا نُذرُ ربنا: أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ [الشعراء:205-207].
| |
|