molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: رحمة الكبار - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الجمعة 3 فبراير - 5:41:39 | |
|
رحمة الكبار
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التَّقوى.
عِبادَ الله، دينُ الإسلام الذي أكمَله الله وأتمَّ بهِ عَلينا النّعمة ورَضِيَه لنا دينًا هو دِينُ الرّحمة، هوَ دِين الإحسانِ، هو الدّين الّذي عرَف لكلٍّ حَقَّه، ومحَمّد نبيُّ الرّحمةِ، والرَّحمةُ من صفاتِ رَبِّنا جلّ وعلا، وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [الكهف:58]، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156]، ومحَمّد رَحمةٌ لِلعالمِين أجمَع، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]. أجَل، رَحمة لِكلِّ العَالمين، فالَّذينَ آمَنوا بهِ وَاتَّبعوه رحِمَهم الله به في الدّنيا والآخرَةِ، والّذين خَضَعوا لأحكامِه وعَاشوا تحتَ ظلِّ عَدالةِ الإسلام رُحِموا؛ فاحتُرِمت حقوقُهم، وحقِنَت دماؤهم، وصِينَت أعراضُهم وأموالُهم.
أيّها المسلِم، جاءَ الإسلامُ بالرّحمة بِكلِّ ما تَعني هذهِ الكلِمةُ، فقَبل كلِّ شَيء ربُّنا وسِعَت رحمتُه كلَّ شيء، في الكتاب الذي كتبَه وهو موضوعٌ عندَه فوقَ عرشِه: ((إنَّ رحمَتي سبَقَت غضَبي))[1]. نَعم، رحمةُ اللهِ سَبقت غضبَه، كَم يعصيهِ الخلقُ وهو يحسِن إِليهم، وكَم يسيئون وَهو يَرحمهم ولا يُعاجِلهم بالعقوبةِ، وإن تَابوا وأنَابوا إليهِ قَبِل توبَتَهم وبدَّل سيِّئاتهم حسناتٍ.
ومحمّد أرحَمُ الخلقِ بالخلقِ في دَعوتِهم إلى الله والإحسانِ إليهم وتعليمِ جاهِلهم والرِّفق بهِم وتحمُّل كلِّ الأذَى في ذاتِ الله، فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159].
أيّها المسلِم، رحمةٌ يرحَم بها العالم الجاهلَ فيعلِّمُه ويرفُق به، رحمةٌ يرحَم بها الكَبيرُ الصّغيرَ فيَعطِف عليه، رحمةٌ يَرحَم بها الغَنيّ الفقيرَ فيُحسِن إليه ويواسِيهِ، رَحمةٌ يرحَم بها الحاكِم المحكومَ فيسعَى فيما ينفَعُهم ويدفَع عنهم ما يضرّهُم مستَعينًا بالله في كلِّ أحوالِه، رَحمةٌ ترحَم بِها الأمّ ولدَها ويرحَم بهَا الأب الأولادَ، رحمةٌ يرحم بها القريبُ رَحِمَه ويَرحم بها الجار جارَه إلى غير ذلِكَ.
أيّها المسلِم، وإنَّ دينَ الإسلامِ قامَ على الرّحمةِ والإحسانِ والعدلِ في كلِّ الأحوالِ.
أخِي المسلِم، لقد أخبَرَ الله جلّ وعلا عَن تَابعِي هذهِ الأمّة المحمّدية بقوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [الحشر:10].
نعَم، يرحَم بها الأواخِرُ الأوائِلَ، فيعرِفون لمَن سبقَهم فَضلَه، ويَعرِفون له سَابِقَتَه، ويعرِفون لَه مكانتَه، ويعرِفون له جِهَادَه وجِدّه ونَشاطَه، يَرحَمون أصحَابَ محمّد ، يَعرِفون لهم سَابِقَتَهم وجِهادَهم وتَضحيَتَهم معَ سيّد الأوّلين والآخرين، يَرحمونهم فيَدعونَ لهم دائمًا، ويترحَّمون عليهم، ويعرِفون للصِّدِّيق وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وسائرِ العشَرَة المبشّرين بالجنّة وأهلِ بدرٍ وبيعةِ الرّضوان ومَن أنفقوا قبلَ الفتح وجاهَدوا ومَن أنفَقوا بعدَه وجاهدوا، فيعرِفون لهم حقَّهم، ويتَرضَّون عَنهم، ولا يبحَثون عن مَساوِئِهم، وإن بَلغَهم خطَأٌ عن أحدٍ قالوا: هكَذا البَشَر يخطِئون، لكنّهم يحسِنون الظنَّ بهم وأنَّ مرادَهم الخيرُ. يَعرِفون لعلَماءِ هذه الأمّة السابقين فَضلَهم ومكانتَهم، فيقرؤون لهم، ويَتَرحَّمون عليهم، وإن وجَدوا خطأً قالوا: سنّةُ الله في الخلقِ، وكلُّنا خطّاءٌ، وخير الخطّائين التوّابون، لا يُخفون الحسَناتِ وينشرُون المسَاوِئ، ولكن يَعرِفون لكلٍّ حقَّه، ويعرِفون لكلٍّ فَضلَه. هكَذا المنصِفونَ الصّادِقون الّذين يُريدُون الخيرَ ويقصدونه، قال مالكٌ إمامُ دار الهِجرة النّبويّة: "ما منّا إلاّ رادٌّ ومَردود عليه إلاّ صاحِب هذا القبرِ"[2]، يعني محمّدًا الّذي لا يَنطِق عن الهوَى إن هو إلاّ وحيٌ يُوحى.
أيّها المسلِم، مِن أنواعِ الرّحمةِ رَحمةُ الصغارِ بالكِبار وشَفَقة الصِّغار على الكِبارِ، فكما أنَّ الكبيرَ يَرحَم الصغيرَ فكذلك الصِّغار يَرحمون كبارَهم ويَعرِفون قدرَهم ومكَانَتَهم.
أيّها المسلِم، إنَّ الله جلّ وعلا أخبَرنا عَن مبدَأ أمرِنَا ونهايَتِه فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [الروم:54]، قوَّتُنا بَين ضَعفَين: ضعفٍ في أوَّل الأمرِ وضعفٍ في آخِر الأمر، فبَينَما هو يخرُج من بطنِ أمِّه ضعيفًا خفيفًا تمضِي به السنون والأيّام تِلوَ الأيّامِ حتى يبلُغ أشدَّه ويستكمِل قواه ويتلذَّذ بِلذَّة الشباب وفَترةِ الشباب فيرَاها أحسنَ اللّحَظاتِ وأسعدَ السّاعات، وما هو إلاّ أن تتحوَّل هذه القوّة إلى ضعفٍ ووهن وعجزٍ، فتتحوَّل القوّةُ إلى ضعفٍ والقدرة إلى العجزِ، عند ذلكَ يَضعُف السَّمع ويقِلّ البصَر وتتبَاطأ الحرَكاتُ ويقلّ الممشَى، وربما لزِمَ الفراشَ لهَرمِه وكبَر سنّه.
إذًا أخِي، وقد بَلَغتَ من السنِّ ما بلغتَ وأصبحتَ في المشيبِ بعد الشباب وفي الكِبَر بعد الصّغَر وفي الضّعف والوَهن والعجزِ بعد القوَّة والقدرةِ وسائرِ الأحوال، فماذا يَلزَمك؟ مَاذا تفكِّر فيه؟ اعلَم أنَّ ما مَضَى لن يَعودَ، طُوِيَت صحائفُ الأعمالِ بما أودَعتها من خَيرٍ أو ضِدّه، فما المهمّ؟ المهمّ التّوبةُ إلى الله والإنابةُ إلى الله والاستغفار وأخذُ العدَّة والاحتِياط، ((أعذَرَ الله بعبدٍ بلَّغه السّتّينَ))[3]، يعني: ما جعَل الله له عذرًا بَعدَما بلغ الستين، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ [فاطر:37]، قيل: الشَّيب، وقيل: الستون سنة، وقيل: مبعث محمد .
أيّها الشَّيخ الكَبير، أقبِل عَلى ربِّك، وتَدارَك ما مضَى مِن سنينِك وأيّامك، وأكثِر مِنَ الاستغفارِ والتّوبة إلى اللهِ، فإنَّ اللهَ يمحو بالتوبةِ ما مضَى منَ الذّنوب، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110].
أيّها الشّيخُ الكَبير، جبَر الله كَسرَك وأحسَنَ إليك، ففِي الله عِوَضٌ عن كلّ شيءٍ، وفي رجاءِ الله سلوةٌ عن كلِّ شيءٍ، فقَوِّ ثِقتَكَ بِربّك، وأحسِنِ الظنَّ به، فهو عندَ حسنِ ظنِّ عبدِه بِه، تعرَّف إليه فيما بقِيَ من عمرك بذكرِه ودعائه والالتجاءِ إليه، وسَله حُسنَ الخاتمة والوَفاةَ على الإسلام؛ لتلقاه وهو عَنك راضٍ بتوفيقِه ومنَّتِه وفضلِهِ.
أيّها الشّيخُ الكبير، مَضَى الشبابُ بما مضَى فيه، ومَضت سنون الشبابِ والقُوّة، وجاء دورُ الضّعف والعجزِ، فما عليكَ إلاّ أن تلجأَ إلى ذي الجلالِ والإكرامِ ليرحمَ ضعفَكَ وليُقيلَ عثرتَك وليحسنَ إليك وليشمَلَك بعمومِ فضلِه، أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ [النمل:62].
أيّها الشبابُ المسلم، دِينُكم يدعُوكم إلى احتِرامِ كِبارِكم والإحسانِ إِليهِم.
أيّها الشّابُّ المسلِم، الرّحمةُ بالكبيرِ والإحسانُ إليه أدَبٌ من آدابِ الإسلام وسنّةُ محَمّد سيِّد الأنام صَلَوات الله وسلامه عليه، إِكرامُ الكبارِ سنَّة الأنبياءِ وخُلُق الصالحين الأوفياءِ.
أيّها الشابِّ المسلِم، اعرِف لهذا الشيخِ الكبيرِ مكانتَه، اعرِف له حقوقَه الّتي طالَ ما ضيِّعَت، واعرِف له أَحاسِيسَه ومشاعرَه التي طال ما جُرحَت، واعلَم له حقَّه ومكانتَه.
أيّها الشابّ المسلِم، كم نشاهِدُ من شبابٍ تجاهَلوا الكِبارَ، إن تحدَّثَ الكبير قاطَعَه الصّبيان، وإن أبدى مَشورةً قاطعه السفهاءُ والأرذال، فهوَ يموت كَمدًا مما يرَى من سوءِ المعاملة.
أيّها الشابّ المسلِم، فللكِبارِ حقٌّ عليكَ؛ رَحمتُهم والإحسان إِليهم، ولا سيَّما الوالدين والأرحام؛ فإنَّ الله يقول: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
أخي المسلم، كَم يعاني الكبيرُ ممّا يعاني من النّشء [من] عدَم الاحترام والتّقديرِ، أصبَح الكبيرُ غريبًا في بَيتِه ثَقيلاً حتّى على أولادِه وأحفادِه، من يؤَنِّسه بالكلام؟! من يرُدّ الصوت عليه؟! من يسأله عن حَاجتِه؟! من يهتمّ بشأنِه؟! إنَّها المصيبةُ العظمَى. كم من شبابٍ ضيَّعوا كبارَهم من آباء أو أمّهاتٍ أو أرحامٍ، مِن أعمامٍ وعمّات وأخوالٍ وخالات، إن جلَس مع الكبيرِ لحظةً استَثقَلها واستطالَها، وإن جلَس مع الأصدقاءِ الليلَ كلَّه فكأنها دقائق وثواني. الأب يئنّ في مرَضٍ، والأمّ تئنّ ممّن يخدمها، فإمّا خادِم لا يرحَم، وإمّا حياةٌ على ملَل، وأنتَ في صحّةٍ وقوّةٍ، فاعرِف لهذا الشيخِ حقَّه، اعرِف لهذه المرأةِ الكبيرةِ الأمِّ حقَّها وفضلَها، اعرِف للقرابَة حقَّهم، والطف بهم، وارحَمهم، وأَحسِن إليهم، في الحديثِ: ((إنَّ من إجلالِ الله إكرامَ ذي الشيبةِ من المسلمين وحَاملِ القرآن غيرِ الغَالي فيهِ والجافي عَنه))[4]. ارحَم الكبيرَ يَرحمك الله، ومَن رحِم كبيرًا في سنِّه هيَّأ الله له مَن يحسِن إليه عندَ كبرِه، والجزاءُ من جنسِ العمل.
أتَى الصّدِّيق رضيَ الله عنه عامَ الفتح بأبيه أبي قُحَافةَ إلى النبيِّ لكَي يبايِع النّبيَّ ويعلنَ إسلامَه، فقالَ النبيّ للصدِّيق: ((ألا تركتَ الشيخَ في بيتِه فنأتيهِ نحن))[5]، فصلوات الله وسلامُه عليه أبدًا دائمًا إلى يومِ الدين. ((ألا تركتَ الشيخ في بيتِه حتى نأتي))، هكذا يعامل رسول الله المسِنِّين، وهَكذا يرحَمهم ويُشفِق عليهم، وهكذا يعلِّم أَصحابَه كيفَ التعاملُ معَ الكِبار. كان إذا تحدَّث الصغير قال: ((كبِّر كبِّر))[6]، فيُقدِّم الكِبارَ ليتَحدّثوا تأدِيبًا للصّغار؛ ليعلَموا حقَّ الكبارِ وفضلَ الكِبار.
أيّها المسلم، وكان يحترِم الكِبار ويقدِّمهم ويَضَعهم في المكانِ المناسبِ لهم، هكَذا هديُ الإسلام، هَكذا الرّحمةُ الإيمانيّة التي يملِيها الإيمانُ الصادقُ والإسلام الحقّ.
أيّها المسلِم، هذِه الخِصالُ عند أهلِ الإسلام خاصّة، الذين يرتَبط بعضُهم ببعضٍ برابطةِ الإيمان، فالكبار يحسِنون، والصّغار يرحَمون، والكِبار يرحمون، فـ((الرّاحمون يرحمُهم الرحمن، ارحَموا مَن في الأرضِ يرحمكم من في السّماء))[7].
أيّها المسلِم، الرّحمةُ مِن أهلِ الإيمانِ رحمةٌ لإخوانِهم المؤمنين، ورحمةٌ حتّى على غيرهم، رحمة بالبهائِم، رحمة بها والإحسان إليها، ((إذا قتَلتُم فأَحسِنوا القِتلة، وليحِدَّ أحدُكم شَفرتَه، وليُرِح ذبيحتَه))[8]، وقائل لِرسول الله : إني أذبَح الشاةَ وأرحمها، قال: ((الشاةُ إن رحمتَها رحِمَك الله))[9].
أيّها الشابّ المسلم، إذا مَررتَ بالمسِنّ الكبيرِ فارحَم ضَعفَه وعَجزَه، وإن احتَاج إليك فَاقضِ حاجتَه، وإن طَلبَ منك أمرًا تَستطيعه فحقِّق الأمرَ، فإنَّ الله سيجعل لك في كبَرك من يعامِلكَ بتلك المعاملةِ الحسنَة، لا يَغرَّنَّك الشبابُ والقوّةُ والمال والجاه، فكأنّك لا تَرَى الناسَ شيئًا، يمرّ بكَ الكَبير وكأن ما مرَّ بك، لا ترحَم كبيرًا، ولا تحنو على صَغير، هذه القوّة التي خدَعَك بها الشباب وغرَّك بها شبابك، فإنّ الأيامَ آتيةٌ، وستعود ضعيفًا بعد قوّتِك وعاجِزًا بعد قدرتِك ووهنًا بعد تحرُّكِك.
فيا شبابَ الإسلامِ، لنتخلَّق بأخلاقِ إِسلامِنا، ولنعرِف لكبارِنا حقَّهم.
أيّها الشيخُ الكبير، أنتَ كبيرٌ في القَلبِ والنّفس والعَين، طالما عَمِلتم وربَّيتم وبذَلتم واجتَهدتم، وستكونونَ قدوةً لصغارِكم في أعمالِكم وأَخلاقكم، وتدارَكوا نَقصَ شبابكم بالتّوبةِ إلى الله والاستغفارِ والنّدَم علَى ما مَضَى، وقولوا دائمًا: اللّهمّ اجعَل خيرَ أعمارِنا أواخِرها، وخيرَ أَعمالِنا خواتيمَها، وخيرَ أيّامِنا يومَ نلقاك فيه.
أيّها المسلِم، إنَّ هذا الأدَبَ الرّفيعَ في الإسلامِ خلُقٌ يتخلَّق بهِ المسلِمون، فتقوَى الرّوابِط بين الأمّة المسلِمة، رابطةُ الإيمان التي تحقِّق لهم مَعانيَ الرّحمة في أسمَى معانِيها وأجلِّها، هذا دِين الإسلامِ.
أيّها الشابّ المسلِم، كم مِن ابنٍ يفرّ من أبِيه، وكم من ابنٍ يفرّ من أمِّه، وكم من ابنٍ يفرّ من عَمِّه وخاله وعمّته وخالتِه، كَم يفرّ الأبناءُ من آبائِهم وأمَّهاتهم، فلو يَستطيعون أن يُلقوهم في البِحار لألقَوهم فيها، يبحَثون عن دارِ المسنِّين ليجعَلوهم فيها حتّى ينسَوهم ولا يعرِفوا حالهم، انتُزِعت الرّحمةُ من قلوبهم، فقُلوبهم قاسِيَة لا تَرحَم أحدًا، أمّا المؤمِن حقًّا فهو بخلافِ ذلك، في القَلبِ رَحمة، في القَلب إحسانٌ، في القَلبِ عَطفٌ، في القلب رِفق بالكبار وإحسان إليهم وتذكُّر حالهم، لا تَرفَعِ الصوت عليهم، ولا تخاطبه بسوءٍ، اعرف له ضعفَه وعجزَه وسوءَ كِبَره وقِلّةَ تحمُّله وصَبرِه، فارحمه يرحمك الله، وأحسِن إليه يحسنِ الله إليك.
أسأل اللهَ أن يوفِّقَني وإيّاكم لصالحِ القولِ والعملِ.
أقول قولي هذَا، وأَستغفِر الله العَظيمَ الكريم الجليلَ، وأسأله جَلّ وعلا أن يشمَلنا برحمته أجمعين، إنّه وليّ ذلك والقادِرُ عليه.
[1] أخرجه البخاري في التوحيد (7404)، ومسلم في التوبة (2751) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] انظر: البداية والنهاية (14/140).
[3] أخرجه البخاري في الرقاق (6419) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ولفظه: ((أعذر الله إلى امرئ أخَّر أجلَه حتى بلَّغه ستين سنة)).
[4] أخرجه أبو داود في الأدب (4843)، ومن طريقه البيهقي في الكبرى (8/163) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وحسنه النووي في رياض الصالحين (173)، وابن حجر في التلخيص الحبير (2/118)، والألباني في صحيح الترغيب (98). وقد أخرجه البخاري في الأدب المفرد (357)، وابن أبي شيبة (6/421) عن أبي موسى موقوفا، قال ابن عبد البر في التمهيد (17/430): "وقد روي مرفوعا من وجوه فيها لين".
[5] أخرجه أحمد (6/349)، والطبراني في الكبير (24/88) عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها، وصححه ابن حبان (7208)، والحاكم (4363)، وقال الهيثمي في المجمع (6/253): "رجاله ثقات". وجاء من أوجه أخرى: عن أبي بكر، وابن عمر، وابن عباس، وجابر، وعن الزهري مرسلا.
[6] رواه البخاري في الجزية (3173)، ومسلم في القسامة (1669) من حديث سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه.
[7] أخرجه أحمد (2/160)، وأبو داود في الأدب (4941)، والترمذي في البر (1924) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه الحاكم (4/159)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (925).
[8] أخرجه مسلم في الصيد والذبائح (1955) عن شداد بن أوس رضي الله عنه.
[9] أخرجه أحمد (3/436، 5/34)، وابن أبي شيبة (5/214)، والبخاري في الأدب المفرد (373)، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1100)، والطبراني في الكبير (19/22، 23، 24) والأوسط (2736، 3070)، وأبو نعيم في الحلية (6/343)، والبيهقي في الشعب (7/481) عن قرة بن إياس رضي الله عنه، وصححه الحاكم (7562)، وقال الهيثمي في المجمع (4/41): "رجاله ثقات"، وهو في السلسلة الصحيحة (26). وفي الباب عن معقل بن يسار وضرار بن الأزور رضي الله عنهما.
الخطبة الثانية
الحَمدُ لله ربِّ العالمين، حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَمَا يحبّ ربّنا ويرضَى، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عَليه وعلَى آله وصَحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بَعد: فيا أيّها الناس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، في سنَّة رَسولِ اللهِ حُقوقٌ لِلكبارِ مَعلومَة من سنَّته :
فَأوّلاً: كانَ يَبدَأ بالكِبار في الكلامِ فيقول للصِّغار: ((كبِّر كبِّر))[1].
ثانِيًا: نجِد في سنّتِه إيصاءً لأئَمَّة المصلِّين أن يرفقوا بالكبار فيقول : ((أيّكم أمَّ النّاسَ فليخفِّف؛ فإنَّ وراءَه الصّغيرَ والكبير والمرِيضَ وذا الحاجةِ))[2]، وقال له رَجل: يا رسولَ الله، إني أترك صلاةَ الفَجر من أجلِ فلانٍ مما يطيل بِنا، قال: فغضِب النّبيّ غضبًا لم يغضَب مثلَه وقال لذلك الإمام: ((أفتّان أنت يا معاذ؟! إنَّ مِنكم منفِّرين، أيّكم أمَّ الناس فليخفِّف، فإنَّ وراءَه الصغيرَ والكَبير والمريضَ وذا الحاجةِ))[3].
وجاءَ الإسلامُ ليجعلَ الكبيرَ الذي ضعُفت قوّته عن الصّيام أن يكتَفيَ بإطعام مدٍّ عَن كلّ يوم، فقال جل جلاله: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وهم العاجِزون الذين لا يَطيقونَ الصّومَ أن يُطعَمَ عن الكبير والمريضِ عن كلّ يوم ما يقارِب الكيلو والنِصف أي: خمس وأربعين كيلو من الأرز أو الحبّ عن الشّهرِ كلِّه. وجاءَته امرأةٌ في حجَّة الوَداع فقالت: يا رسولَ الله، إنَّ أبي أدركَته فَريضةُ الله شَيخًا كَبيرًا لا يَستطيع الثبوتَ على الرّاحلة، أفأَحُجّ عنه؟ قال: ((نَعم، أرَأَيتِ لو كَان على أبيكِ دَين أكُنتِ قاضِيَتَه؟! اقضُوا اللهَ، فالله أحقُّ بالقضاء))[4].
مرَّ رَجلٌ بابن عمَر وهو يطوف بالبَيت حاملاً أمَّه علَى كتِفِه يطوف بها، قال: يا عَبدَ الله بن عمر، أتَراني قمتُ بحقِّ أمّي؟ قال: يَا هذا، لاَ والله، ولا طَلقة من طلقاتِ الوِلادةِ، ولكنَّك محسِن والله يثيبك[5].
كان كِبارُهم يحترِمون صِغارَهم، ويشفِقون على كِبارهم، سواء الأقارب أو غير الأقارب، بل الأقارب والأرحام متأكِّد أمرُهم أن يؤدِّب الناسُ بعضهم بعضًا، فيعرِف الصغير للكبير مكانتَه، فيقدِّمه في مجلسِه، ويبدَأ به في الكلامِ، ويرفُق به، ويرحمه، هكذا المؤمنون حقًّا، وكم منَّ الله على بعضِ الفئاتِ منَ الناس فاحتَرم كبيرُهم صغيرَهم، فتستطيع أن تميِّز فارقَ العمر بينهم بتقديم كبيرهم ولو يومًا واحدًا.
هكذا الإسلام دعا إلى هذا الخلُقِ الكريم ورغَّب فيه، فالمطلوبُ منّا تأديبُ صِغارنا وحثُّهم على احترامِ الكِبار وبثّ تلك الروح الطيِّبة فيهم، وأنّ الصغيرَ لا يتقدَّم الكبيرَ لا في الخروجِ ولا في الدّخولِ ولا في الركوب ولا في المجالسِ، حتى يكونَ بين المسلِمين الارتباطُ العظيم الذي جاءَت به شريعةُ الإسلام. رَزقني الله وإيّاكم التأدّبَ بآدابِ الإسلامِ والثباتَ عليه، إنّه وليّ ذلك والقادِر عليه.
أيّها الأبُ الكريم، أبناؤُك على اختلاف مراحِلِ أعمارهم أدِّبهم، وقل للصّغير: لا تجلِس قبلَ الكبير، وقل للصّغير: لا تتقدَّم علَى الكبير، وقل للصّغير: لا تأخُذ أشياء قبلَ الكبير، فإذا بدأنا بأنفسِنا في بيوتِنا وبَين أبنائِنا ثم أقاربِنا ثم المسلِمين ولزِمنا هذا الأدَبَ وكانَ الصغير يتأخَّر ولَو هو أعلَى مرتَبة ومكانةً لكن لإظهارِ الأدَبِ الإسلاميّ كما يكون ذلك بين مَن منَّ الله عليهم بهذا الخلُقِ الكريم فالتزَموه.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أَحسنَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهَديِ هديُ محمَّد ، وشَرَّ الأمورِ محدَثاتها، وكلّ بِدعَةٍ ضَلالة، وعَليكم بجَماعَةِ المسلِمين، فإنّ يدَ اللهِ علَى الجمَاعةِ، ومَن شَذّ شذَّ في النّارِ.
وصلّوا على نبيكم محمّد كما أمَركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلَفائه الرّاشدين...
[1] تقدم تخريجه.
[2] أخرجه البخاري في الأذان (703)، ومسلم في الصلاة (467، 468) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
[3] أخرجه البخاري في الأذان (702، 704)، ومسلم في الصلاة (466) عن أبي مسعود رضي الله عنه نحوه، وليس فيه: ((أفتان أنت يا معاذ؟!)).
[4] أخرجه البخاري في الحج (1852) عن ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي فقالت: إن أمي نذرت أن تحجّ فلم تحجّ حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال: ((نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمّك دين أكنت قاضيته؟! اقضوا الله فالله أحق بالوفاء)).
[5] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (1/18)، البيهقي في الشعب (6/209)، وهو في صحيح الأدب المفرد (11).
| |
|