molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: منزلة الأعمال من الإيمان - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الخميس 2 فبراير - 3:06:32 | |
|
منزلة الأعمال من الإيمان
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، أجمع علماءُ سلفِ هذه الأمّة من الصّحابةِ والتابعين ومن تَبِعهم بإحسانٍ أنَّ الإيمانَ مُكوَّن من عقيدةِ القَلب وعمَلِ الجوارِح ونُطقِ اللّسان، وأنَّ الأَعمالَ الصالحةَ القوليّةَ والفِعليّةَ جزءٌ مِن أجزاءِ الإيمانِ، فلا يمكِن إيمانٌ بلا عمل، وأيّ إيمانٍ خالٍ من العمَل فهو إيمان لا حقيقةَ له؛ إذ لو كان إيمانًا حقًّا لأنتجَ الأعمالَ الصالحة ودعَا إلى الالتزام بالأعمال والأخلاقِ الكريمة.
إنَّ من يتأمّل كتابَ الله وسنَّة محمَد ليجِد حقًّا أنّ الأعمالَ الصالحة إنما هي مرتكِزة على العقيدة السّليمة، وأنَّ العقيدة الحقّةَ هي التي تدعو إلى التزامِ الأعمال والقيامِ بالواجباتِ والفرائض والتخلُّق بالأخلاق الفاضِلة والسّيَر النبيلةِ.
أيّها المسلم، وكلُّ عملٍ مبتورٍ عن العقيدةِ فعَمَلٌ لا أثرَ له وعملٌ لا استقرارَ له، بل هو عمل مبتورٌ، بل هو عملٌ لا حقيقةَ له، ولا ينفَع صاحبَه لا في الدنيَا ولا آخِرة، وإن نفَعه في الدنيا زمنًا ووقتًا لكنّه عمَلٌ مبتور، لا يبقَى له أثر، وفي الآخرة العذابُ الأليم.
أخي المسلم، إنَّ هناك من ينادِي إلى تكوينِ فئةٍ مسلمةٍ أو جماعةٍ مسلمة أو ح+ٍِ مسلم، ينادون بتكوينِه، هذه الفئةُ أو الجماعة أو الأحزاب ـ وسمِّ ما شئت ـ ما حقيقة إسلامِها؟! ينادون بأنّه لا ارتباطَ بين الإيمان والأعمال، ينادون بأنَّ العقيدة الصحيحةَ لا يُعوَّلُ عليها، ينادونَ بأن تكونَ العلاقة علاقةً إسلاميّة، لكن لا صلَةَ لها بالعقيدة، ولا ارتباطَ لها بالعقيدةِ، فيرونَ العقيدة مفرِّقةً للشّمل، ويرون العقيدةَ عائقةً دون تقدّمِهم وأعمالهم، ويرون العقيدةَ السلَفيّة الصالحة عقبةً أمام آرائهم وأفكارهم، كلّ ذلك من تزيين الشيطانِ وتحسينه، ويأبى الله ذلك.
إنّ الإيمان الحقَّ هو الذي ينتج أعمالاً صالحَة، فالإيمان بالله وأسمائِه وصفاتِه، إفرادُه بالعبوديّة، إخلاصُ الدين له هو الذي يدعو إلى الأعمالِ الصالحة، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنْ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدْ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ [الزمر:1-3]، وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة:5].
ولذا نرَى محمَّدًا يفتَتِح دعوتَه بالدعوة إلى "لا إلهَ إلاّ الله"، يبدأ دعوتَه كما بدَأ إخوانُه الأنبياء والمرسَلون قبله، بالدّعوة إلى توحيدِ الله، إلى إخلاصِ الدّين لله، إلى أن يفرَدَ الله وحدَه بالعبادة، إلى تعلُّق القلبِ بالله رجاءً ومحبّةً وخوفًا. بقِيَ بمكّةَ عشرَ سنين لم تفرَض عليه صلاةٌ ولا +اة ولا أيّ فريضة، وإنما التوحيد يُبدِئ ويعيدُ فيه، ويعلِنُه ويدعو إلَيه، ويجتَثّ جذورَ الشرك من القلوب، حتى إذا حلَّ التوحيد محلَّ الشّركِ والإيمانُ محلَّ الكفرِ جاءت الفرائض والواجباتُ؛ لأنها مكمّلةٌ لهذا الدين والدّالّة على صدقِ الإيمان وحقيقته.
أيّها المسلم، انظر إلى أهلِ الإخلاص كيف يكون إخلاصُهم، وما هي آثار إخلاصِهم في أعمالهم. آثارُ إخلاصِهم أنّ هذه الأعمالَ التي يعملونها يبقَى لهم ذكرٌ في الدنيا والآخرة، وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ [الشعراء:84]. أعمالٌ عمِلوها أخلَصوها لله يجدون ثوابَها عند الله، المخلِصون لا ينحرِفون عن أعمالِهم، المخلصون مستقيمون على طاعتهم، المخلِصون مواصِلُون للأعمالِ الصالحة، قال الله جلّ وعلا عنهم: إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا [الإنسان:9-12].
أخِي المسلِم، الإخلاصُ يمنَع العبدَ مِن معاصي الله، كلّما همَّ بسيّئة تذكَّر المقامَ بين يديِ الله، تذكَّر علمَ الله به واطِّلاعَه عليه وأنَّ اللهَ يسمَع كلامَه ويرى مكانَه ويعلَم سرَّه وعلانيتَه، وكلُّ أعمالِه يعلمُها ربّه قبل أن يعمَلَها، وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].
أجل أيّها المسلم، كلّما تذكّر العبدُ عِلمَ الله، كلّما قام بقَلبه الإيمانُ بأسماء الله وصفاتِه وحقَّق ذلك الإيمانَ، كلّما أفرد اللهَ بالعبادة وتبرَّأ من كلّ معبودٍ سِوى الله، كلّما اتَّحد توحيدُه وعلِم أنَّ العبادةَ كلَّها لخالقِ الأرض والسماء، عند ذلك يقوَى الإخلاص ويتضاعَف اليقينُ ويزداد العبدُ خيرًا وهدى.
انظر إلى نبيِّ الله يوسُف عليه السلام والمحن التي مرَّت به والمغرِيَات التي عرَضَت له كيف تخطَّاها وتجاوَزها رغمَ كثرتِها، ما السببُ في ذلك؟ السبَب واضحٌ، سبَبٌ واحد، إخلاصُه لله حماه من كلِّ سوء، كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ [يوسف:24]. لمّا أخلَصَ للهِ توحيدَه أخلص للهِ عقيدتَه صار هذا الإخلاصُ سببًا لاتِّقاء المحرَّمات والقيام بالواجب.
أيّها المسلم، كم ينفَع الإخلاصُ أهلَه، وكم ينجيهِم من المضائِق والهموم، انظر إلى الثلاثةِ الذين انطبَقَت عليهم الصخرةُ في الغار، فأصبَحوا لا يقدِرون على أن يخرُجوا، لا يُسمَع لهم صوتٌ، ولا حولَ ولا قوّةَ لهم، ففكَّروا فالتَجؤوا إلى الله، وسألوا الله بما قام بقلوبهم من إخلاصهم لله، البارُّ بوالديه قال: اللّهمّ إن كنت تعلَم أني فعلتُ ذلك ابتغاء وجهِك فافرُج عنّا، فانفَرج عنهم شيءٌ، المترفِّع عن المعاصي بعد القدرةِ عليها قال: يا ربّ، إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهك فافرج عنّا، فانفرَج عنهم شيء، المؤدِّي للأمانة قال: إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاءَ وجهِك فافرُج عنّا، فانفَرَجت الصخرةُ وخرَجوا يمشون[1].
تلك آثارُ الإخلاص، تلك آثار العقيدةِ الصحيحة، أمّا العملُ بلا عقيدةٍ فعمَل حابِطٌ في الدنيا والآخرة، وإن نال به أصحابُه عرضَ الدنيا، لكنه عند الله حابِطٌ، قال جل وعلا: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15، 16].
أيّها المسلمون، إنَّ الأخلاقَ الكريمةَ جزءٌ من إيمانِ المسلم، فدينُه يدعوه إلى كلّ خير، ويربأ به عن كلِّ رذيلةٍ، ألا تسمَع النبيَّ يقول: ((آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذَب، وإذا وعدَ أخلف، وإذا ائتُمِن خان، وإن صلَّى وصام وزعَم أنه مسلم))[2]؛ إذِ الإسلام الحقيقيُّ والإيمان الصادِق هو الذي يحَلِّي العبدَ بمكارِم الأخلاق، فيتحلَّى بالصّدق والصّلَة والأمانةِ والبيانِ والوضوح والنُّصح وبذلِ المعروف والأخلاقِ العاليَة التي دعا إليها دينُ الإسلام، وصدَق الله في وصف نبيِّه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4]، تقول عائشة: هذا خُلُق رسولِ الله، خُلُقه القرآن[3]، يعمَل بأوامره، ويجتنِب نواهيَه، ويتأدَّب بآدابه، ويتخلَّق بأخلاقه، وأخلاقُ الإسلام مبنيَّة على العقيدَة الصحيحةِ حقًّا.
قال الله جلّ وعلا مبيِّنًا حالَ عدَمِ الإخلاص: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]، وقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65].
لقد كان عندَ العرَب في جاهليّتهم أخلاقٌ مِن كرَمٍ وشجاعةٍ وبذلِ معروفٍ إلى غير ذلك، لكن لما كانَت تلك الأخلاقِ لا ارتباطَ لها بالعقيدةِ لم تنفَع أصحابَها. سأل عديّ بن حاتم النبيَّ عن أبيه حاتم طيء وما له من مكانٍ وعظيمِ كرَمٍ وبَذلٍ للمَعروفِ إلى غير ذلك قال: ((إنَّ أباك أرادَ شيئًا فنالَه))[4]، يعني ما كان عملُه خالصًا، وما كان عملُه لله، وإنما أرادَ أبوك ثناءً في الدنيا فنالَ هذا الثناءَ فقط، وليس له في الآخرة اعتبار.
سألت عائشةُ رضي الله عنها النبيَّ عن عبد الله بن جدعَان الذي عرِف بالكرَم ووَصفوا جفنَتَه بما وصَفوها به وأنَّ الراكبَ ربما أكَل منها وهو راكِب لِعظَم شأنها والنبيُّ زاحَم عليها في صغَرِه: أيَنفع ابن جدعان ذلك؟ قال: ((لا، إنّه لم يقل يَومًا من الدّهرِ: ربِّ اغفِر لي خطيئَتي يومَ الدّين))[5].
إذًا فالأعمال التي لا عقيدةَ لها أعمالٌ حابِطة وأعمالٌ مبتورَة وأعمال لا تبقَى ولا تستمرّ، إنما يبقَى الخيرُ المربوط بالعقيدة، ولهذا لما بعَث الله محمّدًا ودخَل في الإسلام من دخَل فيه وقارَنوا بين جاهليَّتِهم وبين الإسلام عرَفوا عظيمَ نِعمة الله عليهم وتصوَّروا ذلك الباطلَ الذي عاشوه وضلالَه وأخطاءَه، ثم تصوَّروا نعمةَ الله عليهم بالإسلامِ والإيمان، فازدادوا ثباتًا في إيمانهم واستقامةً على إسلامِهم، وعرَفوا الحقَّ من الباطل، ولذا قال عمَر رضي الله عنه: (إنما تُنقَض عرَى الإسلام عروةً عروةً إذا نشَأ في الإسلام من لا يعرِف الجاهلية)[6]، فمن لم يعرِف الجاهليّةَ وضلالها وأخطاءَها لم يكن فهمُه للإسلام صحيحًا.
محمّد لما أراد الله به الخيرَ وأن يجعلَه خاتمَ أنبيائه ورسلِه ـ وربُّك أعلَم حيث يجعَل رسالتَه ـ جبَلَه على كلِّ خلُقٍ كريم، فعاش في الأخلاقِ منذ نشأتِه إلى أن بُعث، كان من نكاحٍ ولم يكن من سِفاح، كان على جانِبٍ من مكارِمِ الأخلاق وفضائِلِ الأعمال. تعرِفُه قريش منذ نعومةِ أظفاره بأنّه الصادق الأمين، فالصّدق والأمانةُ خلُقان له ، عرِف بهما في الجاهليّة، حتى إذا جاء الإسلام وحاوَل أن يكذِّبَ من يكذِّب قالوا بألسنَتِهم خلافَ ما يعتقِدون؛ ولذا قال الله: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام:33]. عندما جاءه الوحيُ في أوّل مرّةٍ ارتاع لِمَا رأَى، فأتى خديجةَ زوجتَه المباركة الطيّبة أمَّ المؤمنين فقال وأخبرها بما جرَى، فقالت: كلاّ والله، لا يخزيك الله أبدًا؛ إنّك لتصِل الرحم وتقرِئ الضيفَ وت+ِب المعدومَ وتعينُ على نوائب الحقِّ[7]. فصلوات الله وسلامه عليه أبَدًا دائمًا إلى يوم الدين. بعِث ليتمِّمَ مكارمَ الأخلاق.
أيّها المسلم، فاعلم أنَّ كلَّ أعمالِك وأقوالك إن تكُن مرتَكِزة على عقيدةٍ إيمانيّة صالحة فالأخلاقُ والأعمال تنفَع وتدوم وتستقِرّ، وإن كانت مبنيّةً على غير عقيدةٍ وعلى غير منهجٍ إسلاميّ يجعل الأعمال جزءًا من الإيمان فإنَّ هذه الأخلاقَ لا استقرارَ لها ولا ثباتَ لأهلها.
فأخلاق المؤمنين أخلاقُهم الكريمةُ وأعمالهم الطيّبة وصفاتهم الحميدةُ امتدادٌ لعقيدتهم الصحيحةِ التي قامَت بقلوبهم من إيمانٍ بالله ربًّا، إيمانٍ بأسمائه وصفاته، إيمانٍ بإخلاصِ الدّين له، إيمان بأنّه النافعُ الضارّ، وأنه يجِب أن يقصَدَ بالعَملِ ولا يشرَكَ معه غيرُه، وفي الحديث القدسيّ: ((يقول الله: أنا أغنى الشركاءِ عن الشّرك، من عمِل عملاً أشرك معيَ فيه غيري تركتُه وشركَه))[8]، وفي لفظ: ((وأنا منه بريء))[9]. فالله لا يقبَل من أعمالنا وأقوالِنا إلاّ ما كان خالِصًا لوجهِه، نبتغِي به وجهَه والدارَ الآخرة، الأعمال والأقوال ممتدَّةٌ مِنَ العقيدةِ السليمة.
أمّا إيمانٌ بلا عقيدة إسلامٌ بلا توحيد مَنهجٌ يُقام على غيرِ هذا التوحيد الخالص فمنهَجٌ باطِل وأعمال حابِطَة، لا قيمةَ لها ولا اعتبارَ. لا بدَّ من تصحيحِ العقيدة أوّلاً؛ بأن يعتقِدَ المسلم أنَّ ربَّه وحده هو المستحقّ لأن تصرَفَ له كلّ أنواع العبادة، وأنَّ حركاته وسكناتِه يجب أن تكونَ في سبيل ما يقرِّبه إلى الله زلفى وفي سبيلِ ما يعلي شأنَه وفي سبيل ما يجعله صادِقًا في أقواله وأعماله.
ألا ترَى الصحابة رضي الله عنهم ومن سلَك مسلَكهم من التابعين وتابعِيهم وعلماءِ هذه الأمة الذين حفِظ الله بهم الشريعةَ حفِظ الله بهم الكتابَ والسنّة ما هي آثارُهم؟ ما هي أخلاقُهم؟ يدعَى لهم في اللّيلِ والنهار، وكلُّ من قرَأ لهم دعَا لهم وترحَّم عليهم. وانظر إلى أهل البدَع وأهلِ المقالات الباطلة كيف انتَهَت آثارُهم، وكيف قبِرت أخلاقُهم، وإن ذكِروا ذكِروا بما اشتَمَلوا عَليه من العيبِ للإسلام وأهله. فأهلُ التوحيد الخالِص هم أهلُ الأعمال الصالحة، وإذا خلاَ القلبُ من توحيدِ الله والإيمانِ بأسمائه وصفاتِه وكمالِ ربوبيّته وقدرتِه على كلّ شيء، إذا خلاَ القلب من هذا فالأعمالُ لا تنفَع ولا تفيد.
أسأل الله أن يوفِّقَني وإياكم لكلِّ عمَلٍ يرضيه، إنه على كل شيء قدير.
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة فتوسلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة الخالصة أخرجها البخاري في الأدب (5974)، ومسلم في الذكر (2743) عن ابن عمر رضي الله عنهما بنحوها.
[2] أخرجه البخاري في الإيمان (33)، ومسلم في الإيمان (59) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في كتاب صلاة المسافرين (746) من حديث سعد بن هشام بن عامر في قصة طويلة، وفيها: فقلت: يا أم المؤمنين، أنبئيني عن خلق رسول الله ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟! قلت: بلى، قالت: فإن خلق النبي كان القرآن.
[4] رواه الطيالسي (1034)، وأحمد (4/258، 377)، والطبراني في الكبير (17/104)، والبيهقي في الكبرى (7/279) عن عدي رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (332)، وقال الهيثمي في المجمع (1/119): "رجاله ثقات"، وانظر: السلسلة الصحيحة (3022).
[5] أخرجه مسلم في الإيمان (214) عن عائشة رضي الله عنها وكانت هي السائلة.
[6] انظر: مفتاح دار السعادة (1/295)، ومدارج السالكين (1/343)، والجواب الكافي (ص152).
[7] أخرجه البخاري في كتاب بدء الوحي (4)، ومسلم في كتاب الإيمان (160) عن عائشة رضي الله عنها.
[8] أخرجه مسلم في الزهد (2985) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[9] هذه الرواية عند أحمد (2/435)، وابن ماجه في الزهد (4202).
الخطبة الثانية
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيّها الناس، اتَّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، يومَ القيامة إذا جمع الله الخلائقَ الأوّلينَ والآخرين أوّلُ من تُسعَّر بهم النارُ ثلاثة: عالمٌ وقارِئ للقرآن، يوقِفُه الله بين يدَيه، فيسأله: ماذا؟ فيقول: يا ربِّ، تعلَّمتُ فيك العلمَ وقرأتُ فيك القرآن، فيقال له: كذبتَ، ليقَال: قارِئ أو عالم، فيؤمَر فيسحَب على وجهه إلى النار. ومقاتلٌ في سبيل الله يوقِفه الله بين يدَيه فيسأله، يقول: يا ربِّ، قاتلتُ في سبيلك، يقول الله: كذبتَ ليقال: جريء فقد قيل، فيؤمَر فيسحَب على وجهِه في النار. ومتصدِّقٌ أنفَق الأموالَ لم يرِد بها إلاّ رياءً وسمعة، ليقال: هذا الكريم، وهذا المنفِق، وهذا المحسِن، وهذا المعطِي، والله يعلم أنّه ما أراد وجهَ الله، وإنما أراد ثناءَ الناس عليه، فيقول: ربِّ، ما تركتُ سبيلاً تحِبّ أن ينفَقَ فيه إلاّ أنفَقتُ فيه، فيقال له: كذبتَ، لِيُقال: متصدِّقٌ فقد قيل، فيؤمَر فيسحَب على وجهِه في النار[1].
إذًا فالأعمالُ كلُّها إذا لم تكن على عقيدةِ الإخلاص لله وقصدِ الله بالعمَل فأعمالٌ حابِطَة لا تنفَع صاحبَها، قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [الكهف:103، 104]. فالعقيدَةُ السليمَةُ يجب أن تكونَ مصدرًا لكل منهَج وأمّة، وأيّ منهجٍ أو أيّ سلوكٍ أو أيّ تجمّع يدعِّي الإسلامَ مع انفصالِ منهَجِهم عن الأعمالِ ومع بُعدهم عن الأعمالِ الحقَّةِ فتلك مناهجُ باطِلة، لا بقاءَ لها، بل أهلُها في تبارٍ لأنَّهم لم يخلِصوا لله أعمالَهم، فالعقيدةُ التي تقوم بقلبِ مؤمن من تعظيمِه لله وإيمانِه بالله ورسولِه ودينِه هو الباقي له، قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، وقال: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36]. إذًا فلا بدَّ من رِضًا بدين الله ورِضًا بتوحيدِ الله وربطِ كلِّ مَنهجٍ أو فِكر برباط العقيدةِ الصحيحة، عبادةُ الله، إخلاصُ الله بأنواع العبادةِ كلِّها، أن لا نجعلَ مع الله شريكًا في أيّ نوعٍ من أنواع العبادة؛ لتكونَ أعمالنا مقبولةً عند ربِّنا.
نسأل الله أن يثبِّتَنا وإياكم على قولِه الثابت في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ، إنه على كل شيءٍ قدير.
واعلَموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخيرَ الهدي هديُ محمّد ، وشر الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومن شذّ شذَّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمّد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائِه الراشِدين...
[1] أخرج حديثهم مسلم في الإمارة (1905) عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه.
| |
|