molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: فضل التفكر في نعم الله تعالى - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الخميس 2 فبراير - 2:24:56 | |
|
فضل التفكر في نعم الله تعالى
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
يقول الله جل جلاله: أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَمَا فِى ٱلأرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَـٰهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20].
أيّها المسلم، تذكَّر عظيمَ نِعم الله عليك، وفكِّر في آلاء الله عليك، عسى أن يكون ذلك التفكّر سببًا لشكر نعمة الله عليك، عسى أن يكونَ سببًا لإيقاظك من غفلتك وسِنتك.
إنَّ الكثيرَ من الناس لا يعرف لنعم الله قدرها، ولا يعرف لها حقّها، نعمُ الله تترادف عليه وتتوالى عليه، وكأنَّها أمورٌ معتادة لا يقدِّر لها قدرها ولا يعرف لها حقَّها، وهذا من الجهل العظيم.
وربّنا جلّ وعلا يذكّرنا دائمًا بنعمه علينا، ويعرّفنا بفضله علينا، يدعونا لأن نقابلَ هذه النّعم بشكره تعالى عليها، وثنائنا عليه، فلا أحدَ أحبّ [إليه الثناء من الله]، من أجل ذلك أثنى على نفسِه، فالحمد لله على نعمِه الظاهرة والباطنة.
أيّها المسلم، وإذا تدبَّرت كتابَ الله رأيتَ ذلك واضحًا جليًا، يقول الله جلّ وعلا مذكِّرًا عبادَه بنعمته عليهم حيث أوجدَهم من العدَم وربَّاهم بنعمه: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، فتفكَّر ـ أخي ـ في هذه الآية: يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ، لا أحد، اللهُ الذي ابتدأ خلقَك، وأنشأك من العدَم، وربّاك بنعمِه، هَلْ مِنْ خَـٰلِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضِ، لا خالق غيره، ولا رازق سواه.
ويقول جلّ وعلا آمرًا بشكره: فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:152]، اشكروا لي نعمي، اشكروا لي فضلي وإحساني، اشكروا لي خيري الذي عمَّكم، تتقلّبون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار.
ثمّ اعلم ـ أخي المسلم ـ أنَّ نعمَ الله تزدَاد بشكرِها، وتبقى بشكرِها الشكرَ الحقيقي، وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ [إبراهيم:7]، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ ٱذْكُرُواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ [إبراهيم:6].
فيا أخي المسلم، كن دائمًا متذكِّرًا لنعم الله، متفكِّرًا فيها، لتعلمَ قدرَها وفضلَها، ومهما عرفتَ فلن تستطيعَ أن تُحصيَ تلك النعمَ، ولن تستطيع أن تعُدَّها، فهي نعمٌ فاقتِ العدَّ، فاقتِ الحصر، وأعجزت على العادّ العدَّ، وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا [إبراهيم:34].
كلُّ نعمة فيك فمن الله، وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ [النحل:53]، ولقد ذمَّ الله من عرف نعمَه فكفرها: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ ٱللَّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ ٱلْكَـٰفِرُونَ [النحل:83].
فاعرف نعمةَ الله، واعترف بِها وأنّها من الله فضلاً وإحسانًا، يَـٰبَنِى إِسْرٰءيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِى ٱلَّتِى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ [البقرة:47]، كلُّ ذلك دعوةٌ للخلق إلى معرفةِ نعم الله، وتصوُّرِها على الحقيقة، حتى يؤدِّيَ العبد شكرَها.
وإنَّ شكرَ النعم مطلوب من المسلم بقلبِه وبلسانه بجوارحِه، فيشكرُ الله بقلبِه، ففي قلبِه تعظيمٌ لله، وثناء على الله، ويقينٌ جازم بأنَّ هذه النعمَ من الله فضلاً وكرمًا، فيزداد حبًّا لله وخوفًا من الله ورجاءً لما عند الله، فقلبُه موقن بهذه النعم، عارفٌ لها على الحقيقة، ولسانُه دائمًا يثني على الله، ويحمَد الله على كلّ الأحوال، يحمَد الله على نعمِه، كلَّما تذكَّرها قال: الحمد لله ربّ العالمين، يحمَد الله بلسانه دائمًا وأبدًا، ويشكر الله بجوارحِه، فتلك النعمُ تُسخَّر في طاعة الله، ويستعَان بها علَى ما يُرضي الله، ويتقرَّب إلى الله بطاعتِه شكرًا لله وطاعةً على تفضّلِه وإنعامه. فإذا سخَّر العبد نعمَ الله في طاعته واستعان بها على ما يرضي اللهَ كان من الشاكرين، وإن استعمَلها في غير طاعَة الله كانَ من الكافرين بها.
أيّها المسلم، لله عليك نعمٌ عظيمة، أعظمُ نعمةٍ من الله عليك هدايتُك للإسلام، أن عرَّفك بهذا الدين، وشرَحَ صدرَك لقبول الحقّ، هداك إلى معرفة هذا الدين والانتساب إليه، فتلك النعمة الكبرى والمنةُ العظمى. فاحمد الله أن كنتَ مسلمًا، عرفتَ ربَّك ودينك ونبيّك، عرفتَ لأيِّ شيءٍ خُلقتَ، عرفتَ أنك خُلقتَ لعبادة الله، بُعثَ فيك نبيٌّ كريم يدعوك إلى الله ويعرِّفُك بربّك على الحقيقة، فاحمدِ الله على هذه النعمة، فكم ضلَّ عنها الكثير من الناس، أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ فَوَيْلٌ لّلْقَـٰسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ ٱللَّهِ أُوْلَـئِكَ فِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [الزمر:22]، فمن شرح الله صدرَه فقبل الحقَّ وأحبَّ الحقَّ فليحمَد الله على هذه النعمة، كم أضلَّ الله عنها أقوامًا، وحال بينهم وبينَها مع عقولٍ وأسماع وأبصار، وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ [الأعراف:179]، نعم إنهم الغافلون، وإنهم أضلّ من الأنعام، بل الأنعام أهدى منهم سبيلاً، أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44]، فمن حُرم نعمة الإسلام، فإنَّ البهائم خيرٌ وأهدَى سبيلاً منه، من حُرم نعمةَ الإسلام فقد حُرمَ الخيرَ كلّه، لَقَدْ مَنَّ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ ءايَـٰتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِى ضَلَـٰلٍ مُّبِينٍ [آل عمران:164]، يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إِسْلَـٰمَكُمْ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَـٰنِ إِنُ كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ [الحجرات:17]، وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ ٱلإيمَـٰنَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ ٱلْكُفْرَ وَٱلْفُسُوقَ وَٱلْعِصْيَانَ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلرشِدُونَ فَضْلاً مّنَ ٱللَّهِ وَنِعْمَةً وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7، 8].
فنعمةُ الهداية للإسلام أعظمُ النّعم، كم حِيل بين أقوامٍ وبين الإسلام، فلم يصِل الإسلام إلى قلوبهم، لم ينفذ إلى نفوسِهم عقوبةً من الله، وَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرءانَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى ٱلْقُرْءانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَـٰرِهِمْ نُفُورًا [الإسراء:45، 46]، هكذا المارقون من الإسلام، لا يُصغون للقرآن ولا يستَمعون إليه، ولا يحبّونه ولا تصِل مواعظه إلى قلوبهم، حيل بينهم وبين ذلك، وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَٱعْمَلْ إِنَّنَا عَـٰمِلُونَ [فصلت:5].
فيا من هداه الله للإسلام، اعرف قدرَ هذه النعمة، وازدَد لله شكرًا وثناءً عليها، أن هداك فجعلك من المسلمين، جعلك من أمة محمّد ، جعلك ممَّن يُرجى له دخولُ الجنَّة بفضل الله وبرحمته، ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَـٰنَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ ٱلأمْنُ وَهُمْ مُّهْتَدُونَ [الأنعام:82].
ونعمةٌ أخرى نعمةُ الإيمان الذي هو أوسعُ من دائرة الإسلام، بأن يوفِّقك الله لالتزام الواجباتِ وأداءِ الفرائض والبُعد عن المحرَّمات، يحبِّب الله لك الصلاة، ويحبِّب لك ال+اة والصومَ والحجّ، ويحبِّب لك واجباتِ الإسلام من بِرٍّ وصلة وإحسانٍ وبذل معروفٍ، يحبِّب الله لك الإيمانَ وأخلاقَ المؤمنين، فتكون محبًا لها معظِّمًا لها، ويحول الله بينك وبين ما حرَّم عليك، فتكرَه المعاصيَ والسيِّئات، وتبتعِد عنها خوفًا مِن الله ورجاءً لرحمته، وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]. فإذا كرَّه الله لك الكفرَ والفسوقَ والعصيان وجعلك من الراشدين فاعلم أنّها نعمةٌ من الله، فحافِظ عليها، واسأل الله الثباتَ على الحقّ، وقل دائمًا: رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ [آل عمران:8]، ولهذا نبيُّكم كان يُكثر أن يقول: ((اللهم مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك))، تسأله عائشة فيقول: ((إن قلوبَ العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلِّبها كيف شاء، وإذا أراد أن يقلِب قلبَ عبدٍ قلبَه))[1]، فعياذًا بالله من الضلال بعد الهدى، ومن الزيغ بعد الاستقامة، نسأل الله الثبات على الإسلام والاستقامةَ على الهدى إلى أن نلقاه، غيرَ مبدِّلين ولا مغيّرين فضلاً منه، إنه على كل شيء قدير.
ثم أخي المسلم، تفكِّر في سائرِ نعم الله عليك، خَلَقك ربّك في أحسنِ تقويم، كرَّمك بهذا الخَلق الحسن، لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَـٰنَ فِى أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين:4]، كرَّمك الله بهذا الخلق الحسن، فاحمد الله على هذه النعمة، فكمال الخَلق وكونُ الخَلق سويًا نعمةٌ من الله عليك، فاشكر الله على هذا الخَلق الحسن، فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَـٰلِقِينَ [المؤمنون:14].
ثمّ أخي المسلم، فكِّر في نعم الله عليك، وهَبَك الله العقلَ تميِّز به بين الحسَن والقبيح، وبين الخير والشرّ، وبين النافع والضار، عقلٌ ميَّ+ الله به عن سائر الحيوان، عقلٌ كلّما كمُل قرَّبك إلى الله وأبعدَك عن كلّ سوء وحفظك الله به من المكاره، عقلٌ هو زينتُك أيّها الإنسان، متى ما استقام هذا العقلُ وصَفَا أرشدَك بتوفيق الله إلى الخير، وهداك إلى الخير، فتأمَّل نعمةَ العقل؛ إدراكِ الأمور على حقائقها، وتصوُّرِ الأشياءِ على حقائقها، في الأخذِ والعطاء وكلّ التصرفات، احمَد الله عليه حمدًا يليق بجلاله.
وانظر إلى من سُلِبوا هذه النعمةَ كيف حالهم، ألم يضجر منهم أهلوهم؟ ألم يُوضَعوا في المصحَّات؟ ألم يبقَوا أجسامًا خاويةً لا خيرَ فيها؟ سُلِبوا نعمةَ العقل فلا تصرُّفَ ولا حركة، سُلِبوا نعمةَ العقل فالتصرفاتُ خاطئة، والأقوال خاطئة، وكلّ الأفعال خاطئة، لأنَّ نعمة العقل سُلِبوها، فهم في حالة يُرثَى لها، يلعبُ بهم الصبيان، لو خرَجوا في الطرقات لكانوا موضعَ ازدراءٍ من الناس، ونظرِ احتقارٍ من الناس، لملّهم حتى أهلوهم، فاحمَد اللهَ أن زيّنَك بهذا العقل، فاحذَر ـ أخي ـ أن تتعاطَى ما يُضعِف تصوّرَه ويقلِّل انتظامَه. احمَد الله على نعمة العقل الذي ميّ+ الله به، ولهذا حُرّمت المسكرات والمخدرات حفاظًا على نعمة العقل، ليبقى العقلُ للعبد نورًا يستنير به، وهدًى يهتدي به، فالحمد لله على هذه النعمة.
ثم أخي، فكّر في نعمةِ السمع، تسمع به الأشياءَ، تسمع به الخطابَ، وتفهَم ما خوطِبتَ به، ثم تردّ الجوابَ، وتأخذ وتعطي، وتعامِل الناس، وتفكّر حالَ من فقَد سمعَه، ينادَى وكأنّه ينادى من مكانٍ بعيد، ويفهَم القليل ويغيب عنه الكثير، فاحمَد الله على سمعِك الذي تسمَع به، والذي هو كاملٌ في أموره.
ثمَّ انظر إلى نعمةِ البصر، وما ترى بهذه العينين، وما تنظر بهما، وتستعين بهما على أمورك العامّة والخاصة، أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ [البلد:8-10].
ثم انظر أيضًا في نعمةِ اللسان، هذا اللسان الذي تنطِق به، وتُعبّر به عمّا في ضميرك، فهو دليلٌ على ما في عقلك، ومخبِرٌ عن حالك وتصوّراتِك، فاحمَد الله وتذكَّر حالَ من لا يُحسنون الكلام، ولا يجيدونه، يخاطِبون بالإشارة فيُفهَم منهم شيءٌ ويفوت أشياء، وأنت تتكلّم وتنطِق، فاحمَد الله على هذه النعمة.
إنَّ نعمةَ السمع ونعمةَ البصر ونعمة العقل ونعمة النّطق نعمٌ عظيمة من الله عليك، فاحمد الله على كلّ حال، في الحديث: ((يصبح على كلِّ سلامى من أحدكم صدقة، فبكلِّ تسبيحة صدقة، وبكلّ تحميدة صدقة، وبكلّ تكبيرة صدقة، وبكلّ تهليلة صدقة، وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان تركعهما من الضحى))[2]، أي: أنّه لا بدّ أن تشكرَ الله بالتسبيح والتكبير والتحميد والتهليل على استقامة أعضائك وسلامتها وانتظامها، وركعتان تركعهما من الضّحى تكون شكرًا لله على النعم التي مُتِّعتَ بها، فاحمَد الله عليها. ولذا قال الله: إِنَّ ٱلسَّمْعَ وَٱلْبَصَرَ وَٱلْفُؤَادَ كُلُّ أُولـٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً [الإسراء:36].
هذه نعمٌ من الله عليك، أضِف إليها ما وهبَ الله لك من نعمةِ المسكَن والمأكَل والمشرَب والمرأة والوَلد إلى غير ذلك، فالنّعم عظيمة، فما جاء بعدَ عافية الدين والبدن مزيدُ خيرٍ ومزيد فضل، لكن على المسلم أن يعظِّم ربَّه، وأن يتفكَّر في نعم الله عليه؛ ليزداد شكرًا لها، فإنَّ الله جلّ وعلا يحبّ منّا أن نُثنيَ عليه، فهو أهل الثناء والمجد، في الحديث: ((إن الله يرضى على العبد يأكل الأكلةَ فيحمده عليها، ويشرب الشّربةَ فيحمده عليها))[3]، فكلّ النعم قليلها وكثيرها مِن الله، فضلٌ عليك وإحسان، فاعرف لربّك فضلَه، واعرف له إحسانَه، وقابِل ذلك بطاعته وإخلاص الدين له، وتعظيم أوامره بالامتثال، وتعظيم نواهيه بالاجتناب، وكن شاكرًا لله قائمًا وقاعدًا، وفي كلّ أحوالك.
أرجو الله أن يجعلَنا وإيّاكم من الشاكرين الذاكرين، العارفين لنعم الله، المثنين بها عليه، وأن يزيدَنا من فضله وكرمه، وأن يسبغَ علينا نعمَه، وأن لا ينزعها منّا بذنب من ذنوبنا.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، ومن تحوّل عافيتك، ومن فجاءة نقمتك، ومن سائر سخطك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، وفوق ما أثنى عليك عبادُك، لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن، أبدًا دائمًا يا ربّنا، فارضَ عنا، واجعل ما وهبتَه لنا من النعم عونًا لنا على ما يرضيك، إنّك على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه أحمد (6/250)، وابن أبي شيبة (6/25، 168)، وابن راهويه في مسنده (1402)، وابن أبي عاصم في السنة (224، 233)، وأبو يعلى (4669) من طريق علي بن زيد عن أم محمد عن عائشة، وأخرجه أيضا أحمد (6/91)، والنسائي في الكبرى (7737)، والهروي في الأربعين (26) من طريق الحسن عن عائشة، وللحديث طرق أخرى عنها رضي الله عنها لا تخلو من ضعف، لكن أصله ثابت في الصحيحين وغيرهما من طرق كثيرة، ولذا صححه الألباني في ظلال الجنة (224).
[2] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين (720) من حديث أبي ذر رضي الله عنه بنحوه.
[3] أخرجه مسلم في الذكر والدعاء (2734) من حديث أنس رضي الله عنه بنحوه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
عباد الله، إن أعظمَ النعم نعمةُ الإسلام، ولهذا أمرنا أن نقرأ فاتحةَ الكتاب في كلّ ركعة من ركعات صلاتنا، فيها: ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ [الفاتحة:6، 7].
فالمنعَم عليهم هم الذين كمُلت نعم الله عليهم، هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، أولئك الذين أنعمَ الله عليهم بنعمة الإيمان، بنعمةِ الهدى، فعرفوا لهذه النعم حقَّها، أطاعوا الله وأطاعوا الرسول، فنالوا الخير الكثير، وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّهِ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِيمًا [النساء:69، 70].
رجلٌ من أصحابِ النبيّ أتى النبيَّ فقال: يا رسول الله، إنّي كلّما ذكرتُك وأنا في منزلي لا تقرّ عيني حتّى أراك، ولكن ـ يا رسول الله ـ فكرتُ في المآل وأنَّك بعد موتك ستكون في أعلى علّيّين في أعلى منازل الجنة، وأنَّى أراك؟ أقلقَ نفسي وأتعبَني أنّي بعد مفارقتِك لن أراك لعلوّ منزلتك عند ربك، فأنزل الله: وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا ذٰلِكَ ٱلْفَضْلُ مِنَ ٱللَّه[1].
فالله جلّ وعلا أخبر أن أتباعَ الرسول هم على طريقته، وهم سيرونَه في دار كرامة الله وإن علت المنازل، لكن لا بدّ لهم من رؤية نبيّهم الذي طالما أطاعوه، واتّبعوا شريعتَه، وامتثلوا أمرَه، واجتنبوا نهيَه، فسيرِدون حوضَه يومَ القيامة، وسيرونَه في دار كرامة ربّهم، نسأل الله أن يجمعَنا وإياكم مع نبيّنا والصالحين من عباده، إنّه على كل شيء قدير.
وتفكّروا في نعم الله المترادفة عليكم، وخيرُ نعمِ الله المترادفة عليكم وخيره الذي عمَّكم أمنٌ واستقرار وارتباط وهدوء ورغدٌ من العيش، فاشكروا الله على نعمته، وقابلوها بالقيام بحقّ الله، نسأل الله أن يعينَكم على شكرِه، قال النبي لمعاذ: ((يا معاذ، إنّي أحبك، فلا تدعنَّ دبرَ كلِّ صلاة أن تقول: اللهم أعنِّي على شكرك وعلى ذكرك وعلى حسن عبادتك))[2].
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنَّ يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأولين والآخرين وإمام المتقين وقائد الغُرّ المحجّلين محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك سيّدنا محمد، وارضَ اللهمَّ عن خلفائه الراشدين...
[1] عزاه ابن كثير في التفسير (2/310-311) إلى ابن مردويه في تفسيره، والحافظ أبي عبد الله المقدسي في صفة الجنة عن عائشة رضي الله عنها، ونقل عنه أنه قال: "لا أرى بإسناده بأسًا". وقد أخرج نحوه الطبري في تفسيره (8/534-535) مرسلاً عن سعيد بن جبير ومسروق وقتادة والسدي والربيع بن أنس، قال ابن كثير (2/310) عن مرسل الربيع: "هو من أحسنها سندًا".
[2] أخرجه أحمد (5/247)، وأبو داود في الصلاة، باب: في الاستغفار (1522)، والنسائي في السهو، باب: نوع آخر من الدعاء (1303) من حديث معاذ رضي الله عنه، وصححه ابن خزيمة (751)، وابن حبان (2020)، والحاكم (1/407)، وقال النووي في الخلاصة كما في نصب الراية (2/235): "إسناده صحيح"، وصححه الحافظ في الفتح (11/133)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1347).
| |
|