molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: مفسدات الصّيام - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الإثنين 26 ديسمبر - 6:56:31 | |
|
مفسدات الصّيام
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، الصومُ أمانة بين العبدِ وبين ربِّه، لا يطّلع على ذلك إلاّ الله وحدَه، فالصائم يعامِل اللهَ بالصّدق في أمانتِه، فيحرِص على صيامِه بأن يجنّبَه ما يفسِده، ويُحاوِل قدرَ استطاعته أن يصونَ صيامَه عمّا ينقص ثوابَه ويضعِفه.
لأجل هذا أضافَ الله الصيامَ إليه تشريفًا له: ((الصومُ لي، وأنا أجزي به))[1]، وجعل ثوابَ الصيام لا يقدَّر بمقدار، بل لا يعلم قدرَ ثوابه إلاّ الله، ((كلّ عملِ ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها، قال الله: إلاّ الصيام))[2]، أي: فإنّ ثوابَه عظيم، لا يعلمه إلاّ الله، فهو مِن الصبر، والصّبر ثوابُه الجنّة، إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10].
أخي الصائم، إنّ اللهَ جلّ جلاله بيّن في كتابه العزيز أصولَ المفسدات للصّيام، وبيّن رسوله شيئًا من ذلك، والمسلمُ يتفقّه في دينه حتّى تكون عبادته على شرعِ الله ودينه، ((ومن يردِ الله به خيرًا يفقّهه في الدّين))[3].
أخي المسلم، فممّا يفسِد الصيامَ بإجماع المسلمين تعمُّد الأكلِ والشّرب، فتعمُّد الأكلِ والشّرب منافٍ للصّيام بإجماع الأمّة، لكن إن كان هذا التعمّد لغرضٍ صحيح شرعيّ فذاك أمر آخر، وأمّا تعمُّده مخالفةً لشرع الله فلا يصدُر ذلك من قلبٍ فيه إيمان، إذِ المؤمن فرحَ برمضان، واستبشَر بالصّيام، وانشرَح صدره رجاءً لثواب الله وتصديقًا بوعدِ الله وتطبيقًا لأمر الله، كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183]. ويروَى أنّ من أفطر في رمضان عامدًا لم يكفِه الدّهر كلّه وإن صامه[4]. فأعيذك بالله ـ أيّها المسلم ـ أن يصدرَ منك انتهاكٌ لرمضان بتعمُّد أكلٍ وشرب، فذاك منافٍ للصّيام ودليلٌ على ضعفِ الإيمان، أعاذني الله وإيّاكم من نزَغات الشّيطان.
وأمّا الأكل والشّرب إن وقع من المسلم عن نسيانٍ فالله جلّ وعلا قد عذرَه، فيقول نبيّنا : ((من أكَل أو شرِب ناسيًا فليتمّ صومَه، فإنّما أطعمه الله وسقاه))[5] فصلوات الله وسلامه عليه، وصدق الله: لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [التوبة:128].
أخي الصائم، وممّا يُلحق بالأكل والشّرب ما قد يضطرّ المريض إليه من المغذّيات التي توضَع فيه لأجل أن تمدَّ الجسمَ بالغذاء، وتقوم مقام الطعام والشراب، فلا شكّ أنّ هذا نوعٌ من الأكل، فمن اضطرَّ إليها لمرضه فإنّه يقضي يومًا مكانَه، لأنّ هذه المغذِّيات قائمة مقامَ الأكل، ومن يستعملها يجد فيها الغنيةَ عن الطعام والشراب، فلذلك تكون مفسِدة للصّيام إذا اضطرّ المسلم إلى أن توضَع فيه، فإنّه يضعُها ويقضِي يومًا مكانَ هذا اليوم.
قال تعالى: وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصّيَامَ إِلَى ٱلَّيْلِ [البقرة:187]، فأباح في الليل الأكلَ والشرب، وأوجب الإمساكَ عند طلوع الفجر الثّاني إلى غروبِ الشمس، وأمّا من أكلَ يشكّ في الفجر ويوقِن بأنّ الليل باقٍ، ولكن الأمر على خلافِ معتقده، فإنّ صومَه صحيح، لأنّه بنى أكلَه على اعتقادِه بقاءَ الليل، والأصل بقاءُ الليل.
وممّا ينافي الصيام ويفسده إتيانُ الرجل امرأتَه في نهار رمضان، وهذا أمرٌ منافٍ للصّيام، لأنّ الله جلّ وعلا يقول لنا: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ [البقرة:187]، كانوا في أوّل الأمر، في أوّل الإسلام إذا صلّوا العشاءَ أو ناموا حرم عليهم الأكلُ والشرب وجماع النّساء، ولكنّ الله رحمهم، فأباح لهم في عموم الليل الأكلَ والشرب ومباشرةَ النساء، وحرّم ذلك في نهار الصيام.
والمسلم يحرِص على هذه الأمانة، ويحرص على البُعد عن كلّ وسيلة يمكن من خلالها أن تزلّ قدمهُ من حيث لا يشعر، وإتيانُ الرّجل امرأتَه في نهار الصّيام كبيرةٌ من كبائر الذنوب، معصيةٌ لله ورسوله، لكن على المسلم أن يتّقيَ ذلك، وقد أوجب النبيّ على من أتى امرأتَه في رمضان الكفّارة المغلّظة، هي كفّارة مغلّظة مع الإثم الذي لحِقه بانتهاك حرمةِ هذا الشهر.
أتى رجلٌ النبيّ قائلاً له: هلكتُ وأهلكت، قال: ((ما لك؟)) قال: أتيتُ امرأتي في رمضان، قال: ((أعتِق رقبة))، قال: لا أستطيع، قال: ((صُم شهرين كاملين متتابعين))، قال: لا أستطيع، قال: ((أطعِم ستّين مسكينًا))، فأتِي النبيّ بعِذق من تمر، قال: ((فأطعِم به))، قال: على أفقرَ منّي؟ والله، ما بين لابتَي المدينة أهل بيتٍ أفقر من أهلِ بيتي، فضحِك وقال له: ((خذه فأطعمه أهلك))[6]. فقال العلماء: إنّ الكفّارة مرتّبة: العِتق، فإن عجز عن وجود ما يعتقه انتقل إلى الصيام، والصوم يجِب عليه، ولا يسقط عنه ولا تبرَأ ذمّته إلا أن يكون عاجزًا لكِبر أو مرضٍ يمنعه ولا يرجَى برؤه، فينتقل إلى إطعامِ ستّين مسكينًا، كلّ ذلك لكي يكونَ المسلم على بصيرةٍ من أمره، فيتّقي كلَّ الأسباب التي يمكن من خلالها أن يقعَ في المحذور.
قال العلماء: وأمّا إنزال المنيّ بطريق الاحتلامِ أو التفكير فهذا أمرٌ معفوّ عنه؛ لأنّه ممّا لا استطاعةَ للإنسان بدفعه.
وممّا يفسِد الصّيام أيضًا تعمُّد إخراجِ المادّة المنويّة بطريق ما يسمّى بالاستمناء أو العادة السّريّة المستهجَنة، فهذا أمرٌ ينافي الصّيام لأنّ النبيّ قال في حقّ الصائم: ((يدَع طعامَه وشرابَه وشهوته من أجلي))، فهذا قول الله جلّ وعلا يرويه محمّد [7]. إذًا فتعمُّد ذلك منافٍ للصّيام؛ لأنّه شهوة تعمّد إخراجَها، فيقضي ذلك اليومَ الذي وقع فيه.
وممّا يفسِد الصّيام أيضًا لو اضطرّ إلى حقنه بدم، فإنّ حقنَ الدم في المريض ينافي صيامَه، لأنّ هذا غاية الغِذاء، فينافي ذلك للصيام. أمّا الإبَر العاديّة التي ليست غذاءً دائمًا، ولكنّها علاج في الحال، فإنّها لا تؤثّر على الصائم ولو كانت في العروق أو في العضل، وإن استعملها في اللّيل فذاك أكمل.
وممّا ينافي الصيامَ تعمُّد إخراج القيء، فإنّ تعمّدَه مفسدٌ للصّيام، سواء بشمّ رائحة أو عصرِ بطنه أو إدخال يدِه في جوف فمه أو نحو ذلك، لأنّ هذا ينافي الصيام، والنبيّ يقول: ((مَن استقاء فعليه القضاء، ومن غلب عليه القيء فلا شيءَ عليه))[8]، فمن تعمَّد إخراجَ القيء وجب عليه أن يقضيَ يومًا مكانَ هذا اليوم، وأمّا خروج القيء من غير اختياره فإنّه لا يفسد صومَه ولا يجِب عليه منعُه، وإنّما يتركه يخرج إن كان خروجه من غير اختياره، فلا يؤثّر ذلك عليه.
وممّا ينافي الصيام إخراجُ الدّم بطريق الحجامة، والنبيّ يقول: ((أفطرَ الحاجم والمحجوم))[9]، هذا حديث ثابتٌ عنه ، لما في ذلك من إضعافِ الصائم، وعدمِ قدرته على مواصلةِ الصيام، وإن واصله فبضعفٍ ومشقّة، لكن لو اضطرّ المسلم إلى أن يسعفَ أخًا له بدمِه لِضرورةٍ حلّت به وتعذّر إلاّ من طريق أخذِ الدّم منه وكان ذلك لأمرٍ ضروريّ فإنه إن سُحِب منه الدّم لأجل إسعافِ أخٍ له دعَت الضرورة إلى ذلك، فإنّه يؤخَذ الدم منه ويقضِي يومًا مكانَ هذا اليوم لأجلِ هذا العذر الشرعيّ.
وممّا ينافي الصيامَ خروجُ دم الحيض من المرأة، فإنّ خروجه ينافي الصيام، سئلت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصّيام ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كان يصيبنا ذلك في عهد النبيّ ، فنؤمَر بقضاء الصوم، ولا نؤمَر بقضاء الصلاة[10].
فالحائض إذا خرجَ دمُ حيضها سواءً في أوّل اليوم أو في آخره، حتى لو خرج منها قبَيل المغرب بدقائق لأصبح يومها فاسدًا، تقضِي يومًا مكانَه. وأمّا لو لم يخرج الحيض إلاّ بعد غروبِ الشمس ولو بدقائقَ فإنّ هذا اليومَ صحيح، لأنّه مضى دونَ أن ترى ما يفسِده.
أختي المسلمة، إنّ هناك أمورًا ينبغي التنبيهُ عليها لتأخذَ بها أخواتنا المسلمات في صيامهنّ، فمن ذلكم أنّ المرأةَ المسلمة كما سبق إذا رأت دمَ الحيض انتقض صومها، وتعيد يومًا مكانه، وإذا حاضت بعدَ غروب الشمس فلا شيءَ عليها وصومُها صحيح، ولو طهُرت في أثناء اليومِ أمسكَت بقيّة يومها ثم قضَته، فإمساكها لكونها ممّن شهد الصّيام، وقضاؤها لكونها مضى جزء من اليوم بدون صيام.
ومِن ذلكم أيضًا أنّ المرأةَ الحامل لو رأت دمًا قبل الولادة بيوم أو يومين عند إحساسها بطلق الولادة، أنّ هذا ملحَق بالنّفاس وتابعٌ له، فتقضي هذا اليوم أو اليومين اللذين يسبقان الولادة وقد أحسّت المرأة بأنّ هناك طلقَ الولادة، فيعتبر ذلك ملحَقًا به.
ومِن ذلكم أنّ المرأة المسلمة لو طهُرت قبلَ غروب الشمس مِن حيضها لكان واجبًا عليها أن تصلّي الظهرَ والعصر، وكذلك لو طهرت قبلَ الفجر أن تصلّي المغربَ والعشاء، [لأنّ الصلاتين] تجمعان في هذا الوقت.
ولو استيقظَ المسلم وهو جنُب لأمسك ثمّ اغتسل بعد ذلك؛ لأنّ نبيّنا كان يصبِح وهو جنُب مِن أهله، ثم يمسِك ويغتسِل بعد ذلك، هكذا أخبرت عائشة زوجه [11].
أيّتها المرأة المسلمة، إنّ المسلمةَ لو طهرت من نفاسِها ولو لم يمضِ عليها الأربعون يومًا، فإنّ طهرَها من نفاسها ولو مضى عشرون أو نحو ذلك أو أقل من ذلك إذا انقطَع الدّم ولم ترَ صُفرة ولا كدرة، وإنّما هو طهرٌ كامل وجَب عليها أن تصومَ ولو لم تستكمِل أربعين يومًا، ولو عاد الدّم عليها قبلَ الأربعين فالصّيام الذي صامَته صحيح، ولا شيءَ فيه، وتفطِر حتّى تكمل الأربعين، وبعد استكمال أربعين يومًا تصوم ولو كان معها دَم، ما لم يوافِق العادةَ الشهريّة.
هكذا ينبغي للمرأةِ المسلمة أن تتفقّه في دينِها لتكونَ على بصيرة في صيامها.
أسأل الله لي ولكم التوفيقَ والسداد والفقهَ في دين الله، وأن تكونَ أعمالنا على وفق شرعِ الله، خالصةً لله، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو التّوّاب الرحيم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ [الأنفال:20، 21].
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1904)، ومسلم في كتاب الصيام (1151) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو نفس الحديث السابق.
[3] أخرجه البخاري في فرض الخمس (3116)، ومسلم في ال+اة (1037) من حديث معاوية رضي الله عنه.
[4] علقه البخاري في كتاب الصوم عن أبي هريرة بصيغة التمريض، ووصله أحمد (2/458، 470)، وأبوداود في الصوم (2396)، والترمذي في الصوم (723)، والنسائي في الكبرى (2/244-245)، وابن ماجه في الصيام (1672)، وفيه اضطراب واختلاف، وقد ضعفه الألباني في تمام المنة (396).
[5] أخرجه البخاري في الصوم (1933)، ومسلم في الصيام (1155) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[6] أخرجه البخاري في الصوم، باب: إذا جامع في رمضان ولم يكن له شيء فتصدق (1936)، ومسلم في الصيام، باب: تغريظ تحريم الجماع في نهار رمضان على الصائم (1111) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[7] أخرجه البخاري في الصوم، باب: فضل الصوم (1894)، ومسلم في الصيام (1151) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[8] أخرجه أحمد (2/498)، وأبو داود في الصوم (2380)، والترمذي في الصوم (720)، والنسائي في الكبرى (3130)، وابن ماجه في الصيام (1676) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وصححه ابن الجارود (385)، وابن خزيمة (1960، 1961)، وابن حبان (3518)، والحاكم (1/426)، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في الإرواء (923).
[9] أخرجه أحمد (3/465)، والترمذي في الصوم (774)، والطبراني في الكبير (4/242) من حديث رافع بن خديج رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن خزيمة (1964)، وابن حبان (3535)، والحاكم (1/428)، وقال الترمذي: "وفي الباب عن علي وسعد وشداد بن أوس وثوبان وأسامة بن زيد وعائشة ومعقل بن سنان ـ ويقال: ابن يسار ـ وأبي هريرة وابن عباس وأبي موسى وبلال... وذكر عن أحمد بن حنبل أنه قال: أصح شيء في هذا الباب حديث رافع بن خديج"، وهو في صحيح سنن الترمذي (621).
[10] أخرجه البخاري في الصوم (321)، ومسلم في الصيام (335) واللفظ له.
[11] أخرجه البخاري في الصوم (1926)، ومسلم في الصيام (1109).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلي يوم الدّين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، قد يتساءل البعضُ عن أمور، فمنها ما يتعاطاه مَن أصيبَ بداء السّكّر، من تعاطِي إبَر "الأَنسُلين" عند الغروب أو قبله، هذا لا مانعَ منه، ولا ينافي الصّيام، وكذلك ما يستعمِله بعض من يصاب بداءِ الرّبو أو أمثاله من بخاخ يستعمِله لينفّس المجاريَ فلا مانعَ منه، وكذلك القطرات في العَين إن اضطرّ إليها، فإنّ ذلك لا مانعَ منه ولا تؤثّر على صيامه.
أيّها المسلمون، إنّ نبيّنا أرشدنا إلى آدابٍ شرعية عمل بها، ينبغي أن نقتديَ به فيها، فمن هديِه أكلةُ السّحر، فكان يحثّ عليها ويعمَلها، ويقول : ((تسحّروا، فإنّ في السّحور بركة))[1]، ويقول: ((السّحور بركة، فلا تدَعوه ولو أن يجرعَ أحدكم جرعةَ من ماء، فإنّ الله وملائكتَه يصلّون على المتسحِّرين))[2]، ويقول: ((فصل ما بين صيامِنا وصيامِ أهلِ الكتاب أكلةُ السّحر))[3]، فكون ملائكةِ الرّحمن تصلّي عليك، وكونُه بركة، وكونُه مميّزًا لصيامك عن صيامِ غير المسلمين، يدلّ على أنّه سنّة، وأنّه مرغَّب فيه، ولا شكّ أنّ المسلم إذا فعل هذه الأشياء مقتدِيًا بمحمّد متأسّيًا به سائرًا على نهجه معتقِدًا أنّ منهجه المنهجُ الكامل وهديه الهدي الكامل، وهو على أكملِ خلُق وأتمِّه صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين، وهو يتعاطى أكلةَ السّحر، ويرتبط بمحمّد ويتأسّى به، ويقتدِي به، فهو الهديُ الكامل والخلُق العظيم، وصدق الله: وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4].
قال أنس: تسحّر زيد بن ثابت مع رسول الله، فسألتُ زيدًا: كم كان بين سحورِكم وإقام الصلاة؟ قال: مقدار خمسين آية[4]، فكان يؤخِّر سحورَه، والسّحور سنّة ولو على قليل اقتداءً بالسنّة واتّباعًا لها.
وكان يعجّل الفطرَ إذا تأكّد غروبَ الشمس، ويقول: ((قال الله: أحبّ عبادي إليَّ أعجلهم فِطرًا))[5]، ويقول : ((لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر))[6].
وكان يقول: ((إنّ للصّائم عند فطرِه دعوة لا تردّ))[7]، لذا يكون المسلم عند فطره مستقبلَ القبلة، رافعًا يديه، متوجِّهًا إلى ربِّه، راجيًا فضلَه ورحمتَه، وهو ينهِي يومًا من أيّام رمضان صامَه احتسابًا ورجاءً لثواب الله، وطمعًا فيما عند الله، وتصديقًا بوعد الله، فهو عند فطره ينهِي يومًا من أيّامه، يسأل ربَّه عند ذلك فضلَه وكرمَه ورحمتَه وجودَه وإحسانه، فهو أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين. وخيرُ وسيلة إلى الله الأعمال الصّالحة التي عمِلتَها، فهي وسيلة منك إلى ربّك، تتوسّل إليه بفضلِه وكرمِه ووعده الحقّ الذي وعدَ به العاملين، فَٱسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ بَعْضُكُم مّن بَعْضٍ [آل عمران:195]، فالمسلم وهو ينهِي يومًا من أيّام الصيام، مستقبلَ القبلة، راجيًا من ربّه، موقنًا بوعدِه، منفّذًا لأمره، فيُرجَى له بتوفيقٍ من الله أن يسمَع الله دعاءَه، ويثيبَه ويجيبَ دعاءه، وربّكم أكرم الأكرمين وأرحم الرّاحمين وأجود الأجودين.
أسأل الله لي ولكم صيامًا مقبولاً وعملاً صالحًا خالصًا لله، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على سيّد الأوّلين والآخرين وإمامِ المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين محمّد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربّ العالمين: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في كتاب الصوم (1923)، ومسلم في كتاب الصيام (1095) عن أنس رضي الله عنه.
[2] أخرجه أحمد (3/12، 44) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال الهيثمي في المجمع (3/150): "فيه أبو رفاعة، ولم أجد من وثقه، وبقية رجاله رجال الصحيح"، هذا في إسناد الموضع الأول، أما الموضع الثاني ففي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم مشهور بالضعف، وقد قوّى الألباني الحديث بمجموع الطريقين وبشواهده. انظر: صحيح الترغيب (1070).
[3] أخرجه مسلم في الصيام (1096) من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه.
[4] أخرجه البخاري في الصوم (1921)، ومسلم في الصيام (1097).
[5] أخرجه أحمد (2/237، 329)، والترمذي في الصوم (700) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال: "حسن غريب"، وصححه ابن خزيمة (2062)، وابن حبان (3507)، ورمز له السيوطي بالصحة، إلا أن في إسناده قرة بن عبد الرحمن متكلَّم فيه، والحديث في ضعيف سنن الترمذي (111).
[6] أخرجه البخاري في الصوم (1957)، ومسلم في الصيام (1098) من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه.
[7] أخرجه ابن ماجه في الصيام (1753)، والحاكم (1535)، والبيهقي في الشعب (3904) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وفي سنده إسحاق بن عبد الله وقيل: ابن عبيد الله، اختلفوا فيه. وللحديث طريق آخر عند الطيالسي (2262)، والبيهقي في الشعب (3907) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. والحديث ضعفه الألباني في الإرواء (921).
| |
|