molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: فضل العدل - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الإثنين 26 ديسمبر - 6:51:11 | |
|
فضل العدل
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، في الصحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسولَ الله يقول: ((المقسِطون على منابرَ من نور، عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَيه يمين، الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما وَلُوا))[1].
أيّها المسلمون، هذا الحديث من جوامِع الكلم الذي أعطِيَه محمّد ، فإنّ الله جلّ جلاله أعطاه جوامعَ الكلم، واختصر له الكلامَ اختصارًا، فكلماتٌ قليلات يقولها وتحتَها مِن المعاني ما الله به عليم.
فلننظر إلى هذا الحديثِ الصّحيح العظيم يبيّن فيه منزلةَ المقسِطين العادلين، منزلتَهم يومَ القيامة، وأنّ منزلتهم على منابرَ من نور؛ لأنّهم قد علَت منزلتهم وارتفع شأنهم، فهم على منابرَ من نور يومَ القيامة، لأنّهم تغلّبوا على الأهواءِ والنّفوس والشهوات، تغلّبوا عليها، فقهَروا أهواءَهم، وساروا على النّهج القويم، فأعلى الله يومَ القيامة منزلتَهم، ورفع شأنَهم فجعلهم على منابرَ من نور عن يمين الرّحمن، وكلتا يدَي الرّحمن يمين.
من هم هؤلاء؟ من هم هؤلاء المقسطون؟ من هم هؤلاء؟ الذين يعدِلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا. ذكر عدلَهم في أمور ثلاثة: في الحكم والأهل وما ولُوا من العمَل.
أيّها المسلمون، لقد عظّم الله شأنَ العدل، وأمر الله به عبادَه، أن يلزَموا العدلَ في الأقوال والأعمال، فقال: وَإِذَا قُلْتُمْ فَٱعْدِلُواْ [الأنعام:152]، وقال جلّ جلاله: وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة:8]، وقال جلّ جلاله: إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلإحْسَانِ [النحل:90]، وقال جلّ جلاله: وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [النساء:58]، وقال في الإصلاح بينَ النّاس: فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بِٱلْعَدْلِ [الحجرات:9].
فالعدلُ به قامت السّموات والأرض، العدلُ خلُق كريم، إنّما يمثّله ذو التّقى والصّلاح والاستقامة على الخير، إنّما يوجد العدلُ عند ذوي التقوى والصلاح المحكّمين لشرع الله، المنفّذين لأوامره، الواقفين عند حدودِه، يلزَمون العدلّ في الأقوال والأعمال، مع من يحبّون ومع من يكرَهون، وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ٱعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ [المائدة:8].
وفي هذا الحديثِ جُمَل ثلاث:
أوّل الجمل: ((الذين يعدِلون في حكمِهم))، فهم في حكمهم عادلون، لا يجورون، ولا يميلون، يقولون الحقَّ ولو على أنفسِهم، يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ ٱلْوٰلِدَيْنِ وَٱلأقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقَيرًا فَٱللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُواْ [النساء:135]، لا تتّبعوا الهوى فتتركوا العدلَ، فإنّ العدلَ إنّما يكون ممّن سَلِم من الهوى، أمّا صاحب الهوى فالهوى يميل به يمينًا ويسارًا، وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء:135]، وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:58].
فأهلُ الحكم بين النّاس واجبٌ عليهم تقوَى الله، واجبٌ عليهم تحرّي العدل، واجبٌ عليهم الإنصات، واجب التجرُّد من الهوى والمصالح الشّخصية، وأن تكونَ الأحكام متحرًّى فيها العدل، متحرًّى فيها الصّدق وإيقاع الأمورِ موقعَها، والله سائلٌ كلَّ حاكم عمّا استرعاه حفِظ ذلك أو ضيَّعه.
فالذين يعدِلون في حكمِهم يجعَل الله لهم محبّة في القلوب وطمأنينَة لقولهم وثقةً بهم، لأنّهم حكموا فعدلوا وقضَوا بين النّاس بالعدل، يٰدَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَـٰكَ خَلِيفَةً فِى ٱلأرْضِ فَٱحْكُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِٱلْحَقّ وَلاَ تَتَّبِعِ ٱلْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ ٱلْحِسَابِ [ص:26]، فالعادِلون في حكمِهم أهلُ دين وتُقى، حكموا فعدَلوا، فصارت أحكامُهم موافِقةً للصّواب، واتّقوا الله فيما يحكمون به، فأولئك لهم المنزلةُ الرّفيعة.
وثانيا: ((وفي أهليهم))، فهم أيضًا أهلُ عدل في أهليهم، فليس عندهم جورٌ في أهليهم، بل يعاملون أهليهم بالعدلِ في كلّ الأحوال. فالمسلم أمَام أولادِه ذكورًا وإناثًا يلزَم العدلَ بينهم، ويتّقي الله فيهم، ويظهِر لهم أنّه أبوهم الرّحيم بهم الشفيق عليهم، لا يطمع هذا في ظُلمه، وهذا في حَيفه، لا يطمَع أحدٌ فيه، فيطمع في ظلمِه لإخوانِه وميلِه معه دون غيره، وإنّما الكلّ مطمئنّون إليه، ذلك أنّ هذا الأب ربّى الأولادَ فأحسنّ التّربية، وعاملهم فأحسنَ المعاملة، عدل بينهم في كلّ الأحوال، فلا يفضِّل هذا على هذا، ولا يطمع هذا في مزيدٍ، وإنّما يرى من الأب الميزان العادلَ والمعاملة العادِلة، وذاك موفَّق للخير بتوفيق الله، ولهذا محمّد أرشد الآباءَ إلى هذا، أرشدهم إلى أن يتّقوا الله في أولادِهم، فلا يفضِّلوا بعضًا على بعض، ولا يقدّموا أحدًا على أحد.
في عهدِه جاءَه بشير بن سعد الأنصاريّ ليشهِدَه على أنّه وهب لابنِه النّعمان بن بشير غلامًا، وأمّ النعمان أبَت إلاّ أن توثّق تلك العطيّةَ بشهادةِ محمّد فقالت: لا أقبل أن تعطيَ ابني هذه العطيّة إلاّ أن يكونَ رسول الله شاهدًا عليها، لكي توثقها التّوثيقَ الذي لا توثيقَ بعده، وأيّ شهادةٍ أعظم من شهادة محمد وأصدق منها وأوثق منها؟! فلمّا جاءه وأخبره قال: إنّ أمّ هذا طلبت منّي أن أنْحل ابنَها غلامًا وأن أشهِدَك عليه، فماذا كان جواب المصطفى ؟ سأل بشيرًا سؤالاً معقولاً وسؤالاً واقعيًّا وسؤالاً فيه الإقناع له عن الرّجوع عن هذه الهبة، وعن هذه العطيّة الخاصة، فقال له: ((أكُلَّ ولدك نحلتَه مثل ذلك؟)) يعني: هل جميع أولادك أعطيتَهم مثلَ ما أعطيتَ النّعمان؟ قال: لا، قال: ((أتحبُّ أن يكونوا لك في البرِّ سواء؟)) قال: نعم، قال: ((إذًا فلا))[2]، فهو قال له: هل ترضى أن يكونوا جميعًا بارِّين بك؟ قال: نعم، أمنيّةٌ كلٌّ يتمنّاها، قال: إذًا، فكن معهم كما تريد أن يكونوا معك، إذًا فلا تفضِّل بعضًا على بعض، واجعَل العطيّة سواء، فقام بشير، فردّ تلك العطيّة، وألغاها طاعةً لله ورسوله، ورضًا بما حكَم به محمّد ، وفي لفظ أنّه قال له: ((أشهِد على هذا غيري))[3]، ففهِم منه أنّ هذا الأمرَ الذي امتنع محمّد أن يكونَ شاهدًا عليه دليل على أنّه مخالف للحقّ، وفي بعض الألفاظ أنّه قال له: ((لا تُشهِدني على جَور))[4]، وفي لفظ أنّه قال له: ((اتّقوا الله، واعدلوا بين أولادكم))[5]، هكذا يُربّي المصطفى أصحابَه، ويعْلِمهم بما فيه خير لهم في الحاضِر والمستقبل. وذلك أنّ هذا التفضيلَ يسبّب اختلافَ القلوب وتنافرَ القلوب، ويسبِّب العداوةَ والبغضاءَ بين الأولاد وبين أبيهم، فيستثقلون أباهم، ويكرَهون فعلَه، وربّما جنَوا على أخيهم الذي فضِّل عليهم، فحقدوا عليه، وكرِهوه، وأبغَضوه، والشّيطان حريصٌ على إفسادِ بني آدم، فهو أرشدَهم إلى هذا المنهج القويم.
ولذا طبّق السلف هذا الأمر، فيقول إبراهيم التّيمي رحمه الله: "إنّي لو قبّلت أحدَ الصغار من أولادي لرأيتُ لازمًا عليّ أن أقبّل الصغيرَ مثله خوفًا من أن يقعَ في نفس هذا عليّ أذى"، كلّ هذا تحرّي تطبيقِ السنّة، فإنّ العدلَ بين الأولاد أمرٌ مطلوب شرعًا، وتفضيل بعضهم على بعض بأيّ حيلة احتالها الأب يعلم الله منه أنّه أراد بها التفضيلَ يكون ذلك ظلمًا منه وجورًا، ولهذا يقول : ((إنّ الله قد أعطى كلَّ ذي حقّ حقَّه، فلا وصيّة لوارث))[6].
ومِن العدل في الأهلِ، عدلُ الرّجل بين زوجاتِه إن يكن عنده أكثرُ من واحدة، فإنّ العدلَ بين الزوجات واجب شرعيّ أمر الله به، وأمر به نبيّه ، فالله جلّ وعلا لما أباح لعباده التعدّد قيَّد ذلك بقوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى ٱلْيَتَـٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ ٱلنّسَاء مَثْنَىٰ وَثُلَـٰثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُكُمْ [النساء:3]، فأباح التعدّدَ وأذن فيه، لكن شريطةَ أن يكون المعدِّد يغلِب على ظنّه العدل بين الزوجات، وأن لا يقصِد بالتعدّد ظلمَ هذه لمصلحةِ هذه، وإنّما تقوى الله يحكمه، فيعدل بين الزوجاتِ في الأمور التي يمكنه العدل فيها، يعدل بينهنّ في النّفقة، فلا يفضّل تلك على أخرى بلا سبب، يعدِل في المبيت والمسكن والنّفقة، ولو كان في القلبِ حبٌّ لواحدة، لكن لا يظهر ذلك أمام الأخرى، فلا يقدح في هذه عند الأخرى، ولا يعيب هذه عند الأخرى، ولا يفشِي سرَّ هذه عند الأخرى، وإنّما يلزم العدلَ بينهنّ في الأمور الممكنة من النّفقة والكِسوة والسّكن والمعاشرَة العامّة، وأن لا يظهرَ لتلك ميولاً على الأخرى، هكذا سنّة محمّد .
ومحمّد أباح الله له التعدّد، وخصّه بأن أباح له فوقَ الأربعةِ، فكان له تسعٌ من النّسوة، ولكنّه كان أعدلَ الناس بين نسائه، أعدل النّاس وألزمهم للعدلِ في الأمور كلّها ، يقول أنس بن مالك خادمُ رسول الله : كان لرسول الله تسعٌ من النّسوة، يقسم بينهن فلا يعود إلى الأخرى إلاّ بعد ما يمضيَ تسع ليالٍ[7]، وتذكر عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنهما تقول: كان رسول الله ما يمضي يوم إلاّ مرّ بنا ـ أي: بنسائه ـ، فيدنو ويلمس من غير أن يمسّ، حتى ينتهي إلى التي عندها يومه[8]، أي: يمرّ بهنّ، ويقضي حاجتَهن، ولكن نهاية الاطمئنان عند من عندها يومه، فكنّ يعرفنَ ذلك من عدله .
وتذكر عائشة أنّه كان إذا أراد السّفر أجرى بينهنّ قرعة، فمن خرجت لها القرعةُ سافر بها[9] لتطمئنّ نفوسهنّ، وليعلمن أنّه أعدل الخلقِ في تعامله كلِّه.
ومن ذلكم لمّا مرض وفي الأسبوع الذي مات فيه ، كان يسأل كلّ يوم: ((أين أنا غدًا؟))، يسأل: متى يأتي يومُ عائشة؟ فلمّا علم النّساء منه ذلك أذنَّ له بعدما استأذنهنّ أن يمرَّض في بيتِ عائشة، فأذِنّ له، فكان موتُه في حجر عائشةَ بين حاقنتها وذاقِنتها رضي الله عنها وعن أبيها[10]، كلّ ذلك من عدلِه ، وكان له الحقّ أن يفرِض، لكنّه أعدل الخلقِ وأرحم الخلقِ صلوات الله وسلامه عليه أبدًا دائمًا إلى يوم الدين.
أيّها المسلمون، إنّ محمّدًا أعدل الخلق رسم لأمّته الطريقَ المستقيم والمنهج القويم في كلّ أحواله، فهو أسوةُ الأمّة وقدوتهم وإمامهم في كلِّ الأحوال ، ثمّ هو أيضًا حذّر المسلم من أن يجورَ ويظلم، فيقول أبو هريرة: قال رسول الله : ((مَن كان عنده امرأتان فمال إلى إحداهنّ دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقُّه ساقط))[11]، وفي بعض الألفاظ: ((جاء يوم القيامة وشقُّه مائل))[12]، وفي بعضها: ((وأحد شقَّيه مائل))[13]، كلّ هذا تحذيرٌ للمسلمين مِن الظلمِ في نسائِهم.
وللأسفِ الشّديد عمّا نسمع وما يستفتَى أنّ البعضَ من المسلمين هدانا الله وإياهم يرتكِبون أخطاء، وتميل بهم الأهواء، وتعصِف بهم الشّهوات حتى يعامِلوا النساءَ المعاملة السيّئة التي لا تصدر من قلبٍ فيه إيمان حقيقي. البعضُ منهم ربّما عدّد ولكن هذا التعدّد ما نتيجته؟ أنّ الأولى منهنّ ترفَض أحيانًا، وتهجَر أحيانًا، وتقطَع عنها النّفقة أحيانًا والمبيت أحيانًا، وربّما ضُربت وأهينَت وربّما ربّما.. كلّ ذلك من قلّة الإيمان وضعفِ البصيرة، وربّما ينساها، وينسى أيامَها، وينسى صبرَها معه، وينسى كونَها أمَّ أولاده، ويتجاهل كلَّ هذه الأمور في سبيلِ مسألة وهوى.
هذا أمرٌ لا يليق بالمسلم، الواجبُ تقوى الله والعدلُ والإنصاف والقيام بالواجب، فإنّ هذا الجور يسبّب افتراقَ الأولاد وتباغضَهم وتناحرَهم وعدم اتفاقهم، ويكون الأب يكره هذا، ويكره هذا، ويستثقلون حياتَه، وربّما دعَوا عليه، وربّما تمنّوا موتَه وهلاكه.
إنّ المسلم إذا خرج عن منهجِ الله في كلّ أحواله لا بدّ أن يصابَ بنقصٍ في كلّ أموره، فمَن التزم شرعَ الله ومنهجه في أحواله كلّها عاش بخيرٍ ومات بخير، ومَن خرج عن منهج الله وتعدّى سنّة محمّد فلا بدّ أن يصابَ بنقص في نفسه وولده على قدرِ مخالفتِه لشرع الله.
فلنتّق اللهَ في أنفسنا، ولنلزَم العدلَ في أحوالنا، ولنعامِل النساءَ إذا أرَدنا التعدّد المعاملةَ الشرعيّة، مستَقِين من هديِ محمّد .
والجملة الثالثة: ((وما وَلُوا))، أي: أنّ المسلم فيما تولّى من عملٍ يلزم العدلَ، يلزم العدلَ فيمن وُلّي عليهم ويسوسُهم السّياسة الشرعيّة ويحكم بينهم بالعدل، فلا يظلِم هذا، ولا يحقِد على هذا، ولا يحابي هذا ضدَّ هذا، إنّما يعدل بين من تولّى أمرَهم، ويسوسهم السّياسة الشرعيّة، ويقوم بهم على حسب العدلِ والقيام بالواجب، فأقرب النّاس إليه أحسنُهم أداء وأحسنهم عملاً وأنجزهم مهمّة، هذا أحبّ النّاس إليه، لا يميل مع هذا ضدّ هذا، وإنّما يلزم تقوى الله فيمن وُلّي عليهم، والله سائلٌ كلَّ راع وما استرعى؛ حفظ ذلك أو ضيَّعه.
فنسأل الله جلّ جلاله أن يجعلَنا وإيّاكم من العادلين في أقوالنا وأعمالنا وأفعالنا وما ولِّينا عليه، إنّه على كلّ شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الإمارة (1827) بنحوه.
[2] أخرجه البخاري في الهبة (2586)، ومسلم في الهبات (1623) عن النعمان بن بشير رضي الله عنه.
[3] هذا اللفظ هو إحدى روايات مسلم.
[4] أخرجه البخاري في الشهادات (2650)، ومسلم في الهبات (1623).
[5] أخرجه البخاري في الهبة (2587).
[6] أخرجه أحمد (5/267)، وأبو داود في الوصايا (2870) وفي البيوع (3565)، والترمذي في الوصايا (2120)، وابن ماجه في الوصايا (2713) من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (949)، قال الحافظ في الفتح (5/372): "في إسناده إسماعيل بن عيّاش, وقد قوّى حديثه عن الشّاميّين جماعة من الأئمّة منهم أحمد والبخاريّ, وهذا من روايته عن شرحبيل بن مسلم وهو شاميّ ثقة, وصرّح في روايته بالتّحديث عند التّرمذيّ"، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (2494). وله شاهد من حديث عمرو بن خارجة عند أحمد (4/186، 187، 238)، والتّرمذيّ في الوصايا (2121)، والنّسائيّ في الوصايا (3641، 3643)، وقال الترمذي: "حسن صحيح". وشاهد ثان من حديث أنس عند ابن ماجه في الوصايا (2714)، والدرقطني (4/70)، والبيهقي (6/264)، وصححه الضياء المقدسي (2144، 2145، 2146)، وقال البوصيري في المصباح (3/144): "إسناد صحيح، رجاله ثقات". وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند الدّارقطنيّ (4/98). وعن جابر عند الدّارقطنيّ (4/97) أيضا وقال: "الصّواب مرسل". وعن آخرين قال الحافظ في الفتح (5/372): "ولا يخلو إسناد كلّ منها عن مقال, لكن مجموعها يقتضي أنّ للحديث أصلا, بل جنح الشّافعيّ في الأمّ إلى أنّ هذا المتن متواتر فقال: وجدنا أهل الفتيا ومن حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أنّ النّبيّ قال عام الفتح: ((لا وصيّة لوارث))، ويؤثرون عمّن حفظوه عنه ممّن لقوه من أهل العلم, فكان نقل كافّة عن كافّة, فهو أقوى من نقل واحد".
[7] أخرجه مسلم في الرضاع (1462) بمعناه.
[8] أخرجه أحمد (6/107)، وأبو داود في النكاح (2135)، والدارقطني (3/284)، والبيهقي في الكبرى (7/74، 300)، وصححه الحاكم (2760)، وهو في صحيح سنن أبي داود (1868).
[9] أخرجه البخاري في الهبة (2594)، ومسلم في التوبة (2770).
[10] أخرجه البخاري في المغازي (4450)، ومسلم في فضائل الصحابة (2443) عن عائشة رضي الله عنها بمعناه.
[11] أخرجه أحمد (2/347، 471)، والترمذي في النكاح (1141) وتكلم فيه، وابن ماجه في النكاح (1969)، وصححه ابن الجارود (722)، وابن حبان (4207)، والحاكم (2759)، ووافقه الذهبي، وهو في صحيح سنن الترمذي (912). ولفظ أحمد وابن ماجه وابن الجارود وابن حبان: ((وأحد شقيه ساقط)).
[12] هذا اللفظ أخرجه أبو داود في النكاح (2133)، والدارمي في النكاح (2206)، قال الحافظ في البلوغ (1085): "إسناده صحيح"، وهو في صحيح سنن أبي داود (1867).
[13] هذا اللفظ أخرجه النسائي في عشرة النساء (3942)، والبيهقي في الشعب (6/413)، وهو في صحيح سنن النسائي (3682).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، تقول عائشة رضي الله عنهما: كان رسول الله يقسِم بين نسائِه فيعدِل، ثمّ يقول: ((اللهمَّ هذا قسْمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملِك ولا أملك))[1].
مرادُه أنّه أدّى الواجبَ عليه على قدر استطاعتِه من الأمور الظاهرة، أمّا ميول القلب فذاك أمرُه إلى الله، فالله الذي يسكن المحبّةَ في القلوب ويضعِفها ويزيدها وينقِصها، فهو أدّى الذي عليه وما يستطيعه، وما كان أمرًا غالبًا عليه قال: ((اللهمّ لا تلمني فيما تملك ولا أملك))، يعني محبّة القلب، ولهذا كان يعدِل بين نسائه، ولا يفضّل بعضًا على بعض، وإن كان يحبّ عائشة، ويُغلي عائشة، إلاّ أنّ محبّته لها لم تجعَله يميل معها دونَ الأخريات، بل كان يحبّها، ولها منزلةٌ رفيعة، لكنّه لا يعطيها أكثرَ ممّا يعطي بقيّةَ صواحبها.
هكذا كان، فميلُ القلب أمرٌ لا يقدِر عليه إلاّ الله، لكن المسلم مطالب بالأمور الظّاهرة من نفقةٍ وكِسوة وقَسم في المبيت بنفسٍ مطمئنّة، هذا هو المطلوب مِن المسلم حتّى يؤدّيَ الواجبَ الذي أوجب الله عليه.
وأسأل الله للجميع العونَ والتّوفيق والتّأييد.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمّد ، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعة، ومن شذّ شذّ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على عبد الله ورسوله محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه أحمد (6/144)، وأبو داود في النكاح (2134)، والترمذي في النكاح (1140)، والنسائي في عشرة النساء (3943)، وابن ماجه في النكاح (1971) من حديث عائشة رضي الله عنها، واختلف في وصله وإرساله، فرجح أبو زرعة والترمذي والدارقطني الإرسال، وصححه ابن حبان (4205)، والحاكم (2761)، وهو مخرج في الإرواء (2018، 2024).
| |
|