molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: وقفات مع مشكلة الطلاق - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الجمعة 23 ديسمبر - 5:47:31 | |
|
وقفات مع مشكلة الطلاق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها الناس، اتقوا الله تعَالى حقَّ التقوى.
عِبادَ الله، إنَّ الواجِبَ على كلِّ مؤمِنٍ ومؤمِنَة قَبولُ أحكامِ الله والرِّضَا بها وانشِراح الصَّدرِ لها وعدَم الاعتِراض عليها بأيِّ عِبارةٍ كانت، فتَسليمُ العبدِ المؤمنِ والمؤمنة لله والرِّضَا بحكمِه والاطمِئنانُ بذَلك هذا أمرٌ يَدلّ على صحَّةِ الإيمان وقوَّته، يَقول الله جلّ جلاله: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا [الأحزاب:36].
أيّها المسلِم الكَريم، أيَّتها المؤمِنة، إنّ هناكَ قضِيّةً اجتماعيّةً يحصُل أحيانًا مِن وُقوعِها ضجَرُ بعضِ ضُعَفاءِ الإيمانِ مِن أحكامِ اللهِ واستِنقاصُهم لأحكامِ الله وعَدَمُ قناعتِهم ورِضاهم بحكمِ الله، فيتفوَّهونَ بكلماتٍ سيِّئة وألفاظٍ وقِحَة، لو عَادوا إلى رُشدِهم لعلِموا أنّ تلكَ الألفاظَ والأقوالَ مُنافيةٌ لكَمالِ الإيمانِ، لأنّ الوَاجبَ الرِّضا والتسليمُ، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
هذهِ المشكلةُ الاجتماعيّة تتمثَّل عندما يقَع الطَّلاق من الزوجِ لامرأتِه، فإذا وقَعَ الطّلاقُ منَ الزوجِ لامرَأَتِه عند ذلكَ تَسمَع من الزوجِ أو أهلِ الزّوجِ أو الزّوجةِ أو أهلِهَا تسمَع ألفاظًا وقِحَة واعتراضاتٍ على الشّرعِ، وربّما تسمَع سوءَ ظنٍّ بالله وندَمًا على ما حصَل، ويا ليتَ الزواجَ لم يتمّ، ويا ليتَنا لم نقبَل فلانًا، ويا ليتَنا لم نعرِفه، ويا ليتنَا لم نرتبِط به، وما أقبَحَ السَّاعةَ التي عرفَّتنَا بهذا أو بهذا. هذا يقَع من الزّوجِ أحيانًا وأهلِه، وقد يقَع من الزّوجةِ أو مِن أهلِها، وكلُّ ذلك خَطأٌ من الجمِيع.
هو لا شكَّ أنّ تطبيقَ الأحكامِ الشرعيّة أحيانًا يخِلّ به البعضُ، فيأتي الخطرُ لا مِن ذاتِ الحكمِ الشرعيّ، ولكن من سوءِ التّطبيق، يأتي الخطَر من سوءِ التّطبيق وقِلَّة العنايةِ بالأحكامِ الشّرعيّة، أمّا الأحكام الشرعيّةُ في حدِّ ذاتها فلا ضرَرَ ولا تناقُضَ ولا اضطرابَ فيها، بل هي عَدلٌ، وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الأنعام:115]، لكن سوءُ التّطبيقِ من أحَدِ الزّوجين الرّجلِ أو المرأةِ هو الذي يسبِّب المشاكِلَ ويحدِث الضَّغائنَ في النفوس، فيحصُل ما يحصُل.
أيّها الرَّجل المؤمِن، وأيّتها المرأةُ المؤمنة، الطلاقُ حكمٌ من أحكامِ الله، حكمٌ تشريعيٌّ من أحكامِ الله، عندما يطبَّق التَّطبيقَ الصحيحَ وتُلتَزَم فيه آدَابُ الشريعةِ فلن يحصلَ أيُّ اضطِرابٍ ولا أيّ قلَق، ولكن عندَما يكون السبَب المثيرُ للطّلاق أمورًا مِن قِبَل المرأةِ أو أمورًا من قِبَل الزّوج أو أهلِه عند ذلك يقَع هَذا الإشكالُ، نسأَل الله التوفيقَ لما يُرضيه.
أيّها الرّجل المؤمِن، أيّتها المؤمِنة، لنَعلم جميعًا أنَّ اللهَ جلّ وعلا حينَما شرعَ الطلاقَ شَرعَه لحِكَمٍ، شرعَه لمصالحَ، شرَعَه لتخليصِ الزوجين عندَما يتعذّر الوِئام ويَصعُب البقَاء في النّكاح، فجاءَ الإسلام بحلٍّ لهذِه المشكِلةِ بِشروطِه وقيودِهِ المبيَّنةِ في شرعِ الله.
أيّها المسلم، إذًا فعلَى المؤمِنةِ أن ترضَى بالطّلاقِ، وعَلى الرّجلِ أن يَرضَى، يَرضَى الجميعُ بحكمِ الله، والواجِبُ تطبيقُ أحكامِ الله والحِرصُ على تطبِيقِ الأحكامِ الشّرعيّة حتى تأخذَ مسَارَها الحقيقيّ وتسلَم البيوتُ من قيل وقالَ.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، إنّ الشارعَ عندما أذِن في الطَّلاق وجعَله على مراحِلَ ثلاث: الأولى والثانِية والثالثة يقصد منها علاجَ الوَضع، فإذا تعذَّر الأمرُ فإنّ الشّرعَ أذِن في الطلاق تخليصًا للمرأة من مُشكِلة وتخليصًا للرّجل من مُشكلة، فلم يمنَعِ الطلاق ليجعل المرأةَ غِلاًّ في عنُقِ الرجل، ولم يمنعِ الطّلاق ليجعلَ أيضًا الرّجلَ في قلقٍ وشَقاءٍ ويحول بينَه وبين الاستمتاعِ بما أباحَ الله له، بل جاءَ العلاجُ الشرعيّ لمن تبصَّرَ وتدَبَّر وتعقَّل.
أيّها المسلم، أيّتها المسلِمة، وعندَما أُذِن في الطّلاق لم يكن ذلك الإذنُ معناه مغلِقًا للرّجعة، لا، بل لما أُذِن في الطّلاق شُرِعت الرّجعة للرّجل على امرأتِه في أثناءِ العِدّة بلا حاجةٍ إلى قَضاءِ قاضٍ، وإنما إشهادٌ يُشهِد الرّجل على الرّجعةِ شاهدَي عدلٍ لأنّ الله يَقول: وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق:2]. وهذه الرجعةُ تكون باتِّفاق الزوجَين ما دامَت عدّةُ الطّلاق باقيةً، فإنِ انقَضَت عدّةُ الطلاقِ في الطّلقةِ الأولى أو الثانِية فلا بدَّ مِن عقدٍ جديدٍ، وإن وقعَتِ الطلقةُ الثالثة فلا بدّ من نِكاحِ زوجٍ آخَر نِكاحًا لا يُهدف منه تحليلُها، ولكن إن وقَع النّكاحُ اتِّفاقًا ثم طلَّقَها الزّوج الثاني جازَ لزوجِها الأوّل العَود إليها؛ لأنّ الله يقول: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [البقرة:230].
وشرَط الله للرّجعةِ أن يكونَ القَصد من الرّجعة الإصلاحَ، ولذا قال الله: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا [البقرة:228]، فإذا أرادَ الزّوجُ الرجعةَ للمَرأة وقد نوَى أن يصلِحَ ويغيِّر مِن وضعِه إن كان الخطَأ منه أو تغيِّر المرأةُ مِن وضعِها إن يكن الخطَأ منها كانتِ الرّجعة مشروعةً، وإن راجَع الرجلُ لأجلِ الإضرارِ بالمرأَة كان آثمًا ومخالِفًا للشّرع.
وربُّنا جلّ وعلا عندما أذِن بالطلاق أمَر الزوجَ بأن يُبقِيَ المرأةَ المطلَّقةَ عندَه في منزلِهِ إذا كانَ الطّلاقُ الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية؛ عسَاه أن يعودَ إليها، وعسَى المياهُ أن تعودَ لمجارِيها، قال الله تعالى: لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا [الطلاق:1]. فأمَر جلّ وعَلا المطلِّق أن يُبقيَ المرأةَ المطلَّقةَ في حالِ كونِ الطّلاق الطلقةَ الأولى أو الطّلقةَ الثانية أن تبقَى في بيتِ الزوج كإحدى زوجاتِه؛ ينظر إليها وتنظر إليه، ويخلو بها وتخلو به، فلعلّ نظرةً توجِب للقلبِ محبّةً وموَدّة كما قال الله: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا، أي: رَجعةً بعدَما وقعَ مِن طلاقٍ.
وأمرٌ آخر أنّ اللهَ جلّ وعلا شرعَ أيضًا للمطلَّقةِ أن تُمتَّع بمتعةٍ حسنة، بمعنى: أن يعطِيَها زوجُها إذا طلَّقَها شيئًا أو عِوَضًا ماليًّا تذكيرًا لما كان بينَهما من العلاقةِ، قال تعالى: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [البقرة:241، 242]. وذكَّر تعالى الزّوجين ما بينَهما من صلاتٍ قديمة، فلا ينسى الرجل للمرأةِ مواقفَها، ولا تنسَى له أيامَهُ ولياليَه معها، قال تعالى: وَلا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ [البقرة:237].
أيّها المسلِم، أيّتها المسلمة، إنّ المصيبةَ اليومَ تقَع من بعض تصرّفات بعض أولياءِ الزوج أو بعضِ أولياء المرأة أو من أحدِ الزوجين، عندما تطلَّق المرأةُ من زوجِها يكون هناك تصرّفاتٌ خاطئة، إمَّا من الزّوجين بعضِهم مع بعض وأهلِ المرأة أو أهل الزوج، أو مِن أفرادِ بعض المجتمَع.
فمِنَ الأخطاء السيِّئة عندما يقَع الطلاق بين الزوجين ترى الزوجَ أو أهلَ الزوج يحاوِلون تبريرَ الموقف، فهنا تُنشَر الأسرار التي كانت غائبةً، فينشُر الرجل فضائحَ المرأة، إمّا صِدقًا وإما كذبًا، يبرِّر موقِفَه من طلاقها وينشُر عيوبَها ويقول: قالت وفعَلت وفعلت وإلى آخره، قد يكون مصيبًا فيما يَقول، وقد يكون مخطِئًا فيما يقول، وقد يكون حمَل المرأةَ على ما فعَلت نتيجةً لتصرّفِ الزوج الخاطِئ الذي ليس أهلاً لتحمُّل تلك المسؤوليّة، وربما تحدَّثتِ المرأة أو أولياؤها عن الزوجِ وأهلِه وقالوا عنه كذا وكذا، تكشَف الأسرار، وتنبسِط الألسنةُ بالغيبة، ويكون التشفِّي من أحدِهما بالآخر، وهذا ـ يا إخواني ـ من الأمور الخطيرة.
الله جلّ وعلا شرَع الطلاق، وهذا قضاءٌ وقدر، والمؤمِن والمؤمِنة يرضيان بقضاءِ الله وقدَره، مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22]. وقَع هذا الطلاقُ فهل معناه أنّ هذه المطلَّقةَ سيُرخَى الستارُ عليها وتُخفَى من الدّنيا ولا يرغَب فيها أحَد ولا يميلُ قلبُ أحَدٍ إليها؟ هذا كلُّه خطَأ، هي امرأةٌ طلِّقَت إمّا لمشكلةٍ منَ الزوج أو مِنها، والنبيّ يقول: ((الأرواحُ جنودٌ مجنّدة، فما تعارَفَ منها ائتلَف، وما تناكر منها اختلف))[1]. قد تكون أخلاقُ هذا الزوجِ لا تتَّفق مع أخلاقِ المرأة، وأخلاقُ المرأة لا تتَّفق مع طباعِ الزوج ولو كان كلٌّ [من] الزوجَين على منهجٍ منَ الاستقامة والالتزام الشرعيّ، لكن اختلافُ الطبائع والأخلاقِ هذه أمورٌ بيَد الله جل وعلا.
إذًا فعَيب المطلَّقَة وإلقاءُ اللّوم عليها واحتقارُها أو اعتقادُ أنها المرأةُ التي فقدَت حياتها فيجِب أن تلزمَ البيتَ وأن تيأسَ منَ الزّواج هذا كلُّه تصرّف خاطئ، هي امرأةٌ مسلمة، هب أنّ الزّوجَ طلّقها، ربما يكون طلاقُه ناتجًا من سوءِ تصرُّفه، من قِلّة تحمّله، من عدَم مبالاتِه، من كونه إنسانًا ليس على المستَوَى المطلوبِ منه وليس مؤهَّلاً لتحمُّل المسؤوليّة، أيُلقى العيبُ على هذه المرأةِ المطلقة، وينظُر المجتمعُ إليها نظرةَ احتقارٍ وازدِراء؟! هذا كلُّه خطأٌ وكلّه مخالفةٌ، الله جلّ وعلا قال مسلِّيًا للزّوجين عند الفراق: وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا [النساء:130]. وَإِنْ يَتَفَرَّقَا أي: الزوجان، يُغْنِ اللَّهُ كُلاً مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا. فيغني الله الزوجَ بامرأةٍ هي خيرٌ له من تلك، ويغني الله المرأةَ بزوجٍ هو خيرٌ لها من ذلكَ الزّوج، وسبحانَ الحكيم العليم فيما يقضِي ويقدِّر. المهمُّ من هذا أن لا نجعلَ الطلاقَ سببًا للعداء وسَببًا للبغضاءِ وسببًا للقطيعة.
خُذ مثلاً عندما يطلِّق الرّجل امرأتَه التي هي مِن أقاربِه؛ بنت عمّه، بنت عمّته، بنت خاله، بنت خالته، يكون هذا الطلاقُ سببًا لقطيعةِ الرّحم، فيبغِضون ذلك الزوجَ، ويكرهونه، ويعيبونه، وإذا سُئلوا عنه قالوا فيه أمورًا يعلَم الله براءَته منها، لماذا؟ لأنه طلَّق ابنتَهم. هذا الطلاقُ لا شكَّ أنّه وقع بقضاءٍ وقدَر، فهل يليقُ بنا أن نقطَعَ الرّحِم وأن نكرَهَ ذلك الزوج وأن نلفِّقَ به تُهَمًا هو بَرِيء منها أو يليق أن يتحدَّث أولياءُ الزّوج عن تلك المرأةِ ويقولون فيها ما يقولون؟! كلّ هذه أمورٌ يجب أن يُبتعَدَ عنها، وأن يرضى الجميعُ بقضاءِ الله وقدَره، ويسلِّموا للهِ حكمَه وتشريعَه.
أيّها المسلم، إنّ النبيَّ لمّا توفِّيَ زَوجُ أمّ سَلمَة قَال لها آمِرًا لها أن تقولَ: إنّا لله وإنّا إليه راجِعون، اللهمّ آجِرني في مصيبَتي واخلُف عليّ خيرًا منها، تقول أمّ سلَمة: قلتُها ثمّ قلتُ في نفسي: ومن خيرٌ من أبي سلمة؛ هاجر مع رسول الله وجاهد معه؟! قالت: فلمّا انقضت عدَّتي خطبَني رسولُ الله إلى نفسه، فكان رسولُ الله خيرًا لي من أبي سلمَة[2].
أيّها المسلم، لا نزهد في أحكامِ الله، ولا نجعل تنفيذَ أحكام الله سببًا لتفرُّق قلوبِنا وقطيعةِ أرحامنا، وأن نحفظَ للبيوتِ أسرارَها، فالزوج واجبٌ عليه أن يتّقيَ الله ويستُرَ على المرأة ما عَسى أن لا يكونَ موافِقًا له، هو ينصَح الزوجةَ ويحسِن إليها ويرعاهَا حقَّ الرعاية، وإذا تعذَّرتِ العَلاقةُ معها فإيّاه ونشرَ أسرارِها وكشفَ الأسرارِ وما جرى في البيتِ من قيل وقال. ليلزَمْ أدبَه ويمسِك لسانَه ويحمَدِ الله على العافِية ويَبحث وسَيَرى في النساءِ أخرَيَات. والمرأة أيضًا يجِب عليها وعلى أهلِها الإمساك عن قيل وقال والتحدّث وكشف الأسرارِ والأمور الخفيّة، فلا يجوز أن تظهَرَ على الساحةِ أسرارُ البيوت وما جرَى فيها، يجب أن يرخَى عليها السّتار وأن يُعتَبر أمرًا مضَى وانتهى، أمَّا التحدُّث والتكلّم بالقيلِ والقال والبحث عن المعائِبِ السّابقَة والتحدّث عن ذلك فكلُّها غيبَةٌ أحيانًا، وربما يكون بهتانًا إذا قيلَ خلافُ الواقِع، وربما أوقَعَ الإنسان نفسَه في حرجٍ عندما يعيبُ الزّوج ويتمنّى أنّه ما قبِل خطبتَه وأنّه ما زوّجه، أو يتمنّى الرجل أنّه ما خطَب تلك المرأة. كلُّ هذهِ الأمور لا ينبغِي التحدّث بها، بل ينبغي الرّضا والتسليمُ للهِ ومعالجة الوضعِ بأحسنِ سبيلٍ، حتى تضمَنَ الحياةُ السعيدة ويسلَم المجتمَع من هذه الأشياء التّافهة التي لا يحيِيها ولا يسير وراءَها إلاَّ السفهاءُ منَ الرّجال والنساء.
وفّق الله الجميعَ لكلّ خير، إنّه على كلّ شيء قديرًا.
أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنبٍ، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] رواه مسلم في البر (2638) عن أبي هريرة رضي الله عنه. وورد عن عائشة رضي الله عنها أيضا.
[2] قصة أم سلمة هذه رواها مسلم في الجنائز (918) عنها رضي الله عنها بمعناها.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كَما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأشهَد أنّ محمّدًا عبده ورَسوله، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يومِ الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تَعالى حقَّ التّقوَى.
عبادَ الله، ينتُج من الطلاقِ مشكلةُ حضانة الأطفال من بنينَ وبناتٍ، والشّرعُ المطهَّر حكَم على أنّ المرأةَ أحقُّ بولدَها ما لم تتزوّج، هذا حكمٌ شرعي لا إشكالَ فيه، لكن المشكلةُ تأتي من أنّ أحيانًا الزوجَ يسعَى في الإضرارِ بالمرأة، وذلك إذا كان تعلُّق أولادها الصغار بها وخوفها من أن يكونَ زواجُها يسبِّب أخذَ الزّوجِ لأبنائِه وبناتِه الصّغار فيقِف حجرَ عثرةٍ ويهدِّد المرأةَ ويقول: إن تزوّجتِ سأفعلُ وأفعَل، وهو يعلم أنّ أولادَه لن ينتسِبوا إلى غيره، ولا شكّ أنّ حكمَ الشّرع أنّ المطلَّقةَ إذا تزوّجت تسقُط حضانتها، لكن لا ينبغي أن يُتَّخذَ ذريعة في الضّغط عليها والحيلولةِ بينها وبين أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، بإمكانِه السعيُ في الإصلاحِ والتّوفيق وأن لا يضيعَ الصغارُ لتصلّب الزّوجِ أو أهله أو تصلُّب المرأةِ أو أهلِها، فقد تبقَى المطلَّقَة عانسةً تعلَم أنّ بزواجِها سيتسلّط الزوج هذا على الأولادِ، وربما أخَذَهم، وليس المهمّ الأخذ لكن يمنعُهم من زيارَتها ويحولُ بينهم وبينَ رؤيَتِها إلاَّ بعد التّرافُعِ للمحاكِم والقيل والقال، وهذا التصرُّف خاطئ. أنت أحَقُّ بأولادِك حكمًا شرعيًّا بلا إشكال، لكن هذا الحقُّ هل يقتضِي أن يترتَّبَ عليه الضغطُ عليها ومنعُها من الزواجِ والحيلولةُ بينها وبين الزّواج؟! ثمّ إذا قُسِم أنها تزوَّجت صار في قلبِها ولعٌ على أبنائِها وبناتها، وأنت ـ يا قاسيَ القلبِ ـ لا تحبّ أن تفرِّحَهم بأمّهم ولو يومًا في الأسبوعِ أو نحو ذلك، بل يكونُ عندك تشدُّدٌ ومواقِف متصلِّبة لا تخدِم هدفًا، المضرّةُ إنما تقَع على الصغار من بنينَ وبنات؛ عقدٌ نفسيّة وحالةٌ محرِجة. الواجبُ على الجميعِ تقوَى الله والسعيُ في الخير، وأن لا نحملَ المرأة على ما لا يليق، هذا هو المطلوب منَّا جميعًا.
كما أنّ المرأةَ مطلوبٌ منها أيضًا تعاونُ أوليائها مع الزوج في سبيل رؤيةِ أبنائه والالتقاءِ بهم ونحو ذلك؛ حتى تعالَجَ الأمور بعلاجٍ شرعيّ هدفُه الإصلاحُ العامّ، لا التشفّي ولا الظلم ولا العدوان ولا المواقفُ التي ليسَ لها مبرِّر، وإنما هي قسوةُ قلبٍ وجفاءٍ وانتقام من أحدهما للآخر، وهذا أمرٌ لا يليق بالأمّة المسلِمة.
الواجبُ تقوَى الله في كلّ الأحوال والسعيُ في تربية النشءِ الصّغار تربيةً طيّبة، يعرِفون بها أباهم وشفقتَه وأمَّهم ومرحمتَها وحنانها عليهم، فيتبادَل الجميع المنافعَ، ويكون الأولاد لا يشعُرونَ بضَرَر ولا بفَقدِ الأمّ أو الأب، أما إذا تعصَّب أولياءُ المرأة ووقَفوا المواقفَ السيّئة أو أولياءُ الزوج أو الزوج فالضّحيّة العظيمةُ هم الأبناءُ والبنات. فالواجبُ تقوَى الله، والواجبُ على المطلِّق أو المطلّقة كفُّ الألسُن وعدَمُ التحدّث في الماضي والستر على كلِّ ما مضى، تلك أخلاقُ الكِرامِ. أسأل الله أن يعينَنا وإيّاكم على كلّ خير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخيرَ الهدي هَدي محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجمَاعة المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعة، ومَن شذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمد كما أمركم بذلك ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمّ صَلِّ وسَلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن خلَفائِه الرّاشدين...
| |
|