molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: تربية الأولاد - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الجمعة 23 ديسمبر - 5:23:16 | |
|
تربية الأولاد
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، صلاحُ الأبناء والبنات أمنيّةٌ للآباء والأمهات، صلاح الأولاد ذكورهم وإناثِهم نعمةٌ عظيمة ومنّة جليلة من رب العالمين. ما أسعدَ المسلم وهو ينظر إلى أولاده قد هداهم الله الطريقَ المستقيم ورزقهم الاستقامة على الدين والهدى، يحبهم ويحبونه، يودّهم ويودّونه، إن أمرهم أطاعوه، فهم يبرّون به، ويطيعونه، وينفّذون أوامره في طاعة الله، قرّت بهم عينه، وانشرح بهم صدرُه، وطابت بهم حياته، تلك نعمة عظيمة من الله. أولادٌ رُبُّوا تربية صالحةً، هُذِّبت أخلاقهم، حسُن سلوكهم، طابت ألفاظهم، حسُنت معاملتهم لربهم قبل كل شيء، ثم للأبوين، ثم للإخوان والجيران والأرحام والمسلمين عمومًا. رُبُّوا على مكارم الأخلاق وفضائل الأعمال، فصاروا عونًا للأبوين على كلّ ما أهمّهم من أمر دينهم ودنياهم.
أيّها المسلمون، ولعظيم هذا الشأن نرى أنبياءَ الله وخيرته من خلقه يسألون الله لذريَّتهم الصلاح والهداية، قال تعالى عن الخليل عليه السلام وهو يدعو ربَّه بتلكم الدعوات: رَبّ ٱجْعَلْنِى مُقِيمَ ٱلصَّلوٰةِ وَمِن ذُرّيَتِى [إبراهيم:40]، أي: اجعل من ذريتي من يصلي ويزكي، وها هو +ريا عليه السلام ينادي ربه قائلاً: رَبّ هَبْ لِى مِن لَّدُنْكَ ذُرّيَّةً طَيّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَاء [آل عمران:38]، وها هم المؤمنون كما أخبر الله عنهم أنهم يقولون في دعائهم: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـٰتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَٱجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا [الفرقان:74]، وها هو الرجل الصالح الذي أنعم الله عليه بنعمه يتذكَّر نعم الله عليه ويقول شاكرًا لنعم الله شاكرًا لآلائه وإفضاله: رَبّ أَوْزِعْنِى أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِى أَنْعَمْتَ عَلَىَّ وَعَلَىٰ وٰلِدَىَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَـٰلِحًا تَرْضَـٰهُ وَأَصْلِحْ لِى فِى ذُرّيَّتِى إِنّى تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنّى مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأحقاف:15].
أيها المسلم، فأولادك من ذكورٍ وإناث بأمسِّ الحاجة إلى دعوات منك إلى الله أن يهديَهم صراطه المستقيم. الجأ إلى فاطر الأرض والسموات، وادعوه آناء الليل وأطراف النهار أن يصلحَ لك عقِبك، وأن يعيذهم من مكائد شياطين الإنس والجن، وأن يحفظهم بالإسلام، ويرزقهم الثباتَ والاستقامة عليه، فتلك قرة أعين المؤمنين، وَٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَٱتَّبَعَتْهُمْ ذُرّيَّتُهُم بِإِيمَـٰنٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَـٰهُمْ مّنْ عَمَلِهِم مّن شَىْء كُلُّ ٱمْرِىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ [الطور:21]. فالآباء يوم لقيامة قد تعلو منزلتهم وإن ضعُفت بأعمالهم إكرامًا من الله للأبناء الصالحين، وقد يرفع الله منزلة الأبناء إكرامًا للآباء الصالحين إذا كان الإيمان جامعًا للجميع.
أيها المسلم، أولادُك بأمسِّ الحاجة إلى دعائك، وبأمسِّ الحاجة إلى رعايتك، لتُربِّهم تربيةً صالحة، يسعدون بها في حياتهم وآخرتهم، وتسعَد أنت أيضًا بذلك، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَـئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [التحريم:6]. ومع دعاء الله، ومع الالتجاء إلى الله، ومع التضرُّع بين يدي الله فاعلم ـ أيها الأب الكريم ـ واعلمي ـ أيتها الأم الطيبة ـ أن تربيةَ الأولاد وصلاحَهم واستقامتهم بعد إرادة الله متوقفٌ على حركاتِ وسكنات الأبوين، على أقوالهم وأفعالهم، فالأبناء والبنات من الصِّغر يرقبون أخلاقَ الأبوين ويرقبون كلامَهم وتصرّفاتهم كلَّها، يرقبون أحوال الأبوين، فالأبناء والبنات إن تربَّوا في أحضان أب يخاف الله وأمّ تخشى الله نشؤوا على ذلك الخلق الكريم.
أيها الأب الكريم، إنَّ أولادك مرآةٌ يع+ون أخلاقك وأعمالك، إن رأوك تعظِّم الله وتخافه عظَّموا الله جل وعلا، إن رأوك تخشى الله وتتَّقيه خَشَوا الله واتقوه في أعمالهم بتوفيق من الله، إن رأوك ذا محافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها، إن رأوك على هذه الصفة تأسَّوا بك فحافظوا عليها، إن رأوك معظِّمًا لأبيك وأمك فإنهم سيعاملونك كذلك، إن رأوك تجالس ذوي التقى والصلاح بعيدًا عن أهل الإجرام والإفساد نفروا من تلك الشلل الفاسدة والمجتمعات الآسنة، إن رأوا منك كلمات طيبةً وألفاظًا حسنة كانت ألفاظهم كذلك، وإن سمعوا منك السِّباب واللعان والقبح والفحش في الأقوال سمعتَ منهم مثل ذلك وأشدّ.
أيها الأب الكريم، لا بدّ من عظةٍ للأبناء ونصيحة لهم ورسم الطريق الصالح ليسلكوه، اسمع الله يحدثنا عن لقمان الحكيم: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، يحذِّره من شركٍ بالله، ويأمره بإخلاص الدين لله، ثم يوجِّهه للأخلاق الكريمة: يٰبُنَىَّ أَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأمُورِ [لقمان:17]، ويحذِّره من الأخلاق السيئة: وَلاَ تُصَعّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِى ٱلأرْضِ مَرَحًا إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ وَٱقْصِدْ فِى مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأصْوٰتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ [لقمان:18، 19]، فهو يحذره من الكِبْرِ والعُجْبِ والتعالي على الناس بكل أحواله، ويبين له أيضًا أن الله مراقب عليه عَالمٌ بسره وعلانيته: يٰبُنَىَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِى صَخْرَةٍ أَوْ فِى ٱلسَّمَـٰوٰتِ أَوْ فِى ٱلأرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [لقمان:16]، تلك موعظةٌ عظيمة وجَّهها لقمان الحكيم لابنه، بينها الله لنا في كتابه، لنتأسى بتلكم الأخلاق وبأولئك الأقوام في أقوالهم وأعمالهم.
أيّها المسلم، الأبناء والبناتُ أمانة في العنق سيسألك الله عنهم يوم القيامة، إن رعيتهم حقَّ الرعاية أصبت، وإن خُنت الأمانة وضيَّعت فالله لا يحبّ الخائنين.
أيها المسلم، عوِّد الأبناء والبناتِ على كلِّ خير، عوّد الأولاد على المحافظة على المسجد، عوِّدهم على إقام الصلاة والعناية بها، حُثَّهم على مكارم الأخلاق، حثَّهم على البر والصلة، حُثّهم على إفشاء السلام وطيب الكلام، رغِّبهم في حسن المعاملة، حبِّب الصدق إلى نفوسهم، وكرّه الكذب إلى نفوسهم، حبِّب إليهم الأقوال الطيبة، وكرّه لهم الأقوال البذيئة، علّمهم حسنَ التعامل مع الآخرين؛ مع الأهل ومع الجيران والأرحام، حثّهم على المكارم والفضائل لينشؤوا النشأة الصالحة الطيبة المباركة.
أيها المسلم، هؤلاء الأولاد متى أحسنتَ تربيتهم نِلتَ بهم السعادة في الدنيا والآخرة، واسمع نبيَّك إذ يقول: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاَّ من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفَع به، أو ولد صالح يدعو له))[1]. فأنت في ظلمات الألحاد تصل إليك دعواتُ أولئك الأبرار الأخيار، يسألون الله لك ويدعون الله لك، وأنت في لحدك قد انقضى عملك، وأصبحت فريدًا في لحدك وحيدًا، تتمنَّى مثقال ذرة من خير، وإذا الدعوات الصادقة الصادرةُ من الأبناء والبنات الذين طالما غرستَ الفضائل في نفوسهم، وحبَّبت الإيمان إلى قلوبهم، فدعواتهم تصعد إلى الله لك بالمغفرة والرضوان والتجاوز، فما أنعمها من حالٍ وما أطيبه من فضل، هكذا التربية الصالحة ونتائجها الحميدة وثمارها المباركة.
فلنعتنِ ـ إخوتي ـ بأبنائنا وبناتنا، ولنبذل الجهدَ قدر الاستطاعة وربّك حكيم عليم، يهدي من يشاء، ويضلّ من يشاء، لكن على العبد بذلُ السبب، عليه القيام بالواجب، عليه أن يطهِّر بيته مما يخالف شرع الله. كيف يطمع في صلاح الأبناء والبنات من ترك البيتَ لا خير فيه، أو أدخل فيه المعاصي والفجور والمجون وشربَ المسكرات والعياذ بالله وترويج المخدرات والجلوس مع من لا خير فيهم ومن هم أهل الشقَاء والبلاء؟!
فاحذر ـ يا أخي ـ تلك الأمور السيئة، طهِّر بيتك ومجتمعك، طهِّر مجالسك من السوء، لينشأَ الأولاد والبنات على هذه العفة والصيانة والكرامة.
أيتها الأمّ المسلمة، ربي البناتِ التربية الصالحة، ربيهم على الأخلاق، ربي بناتك تربيةً صالحة، أعدِّيهن للمستقبل الطيّب، وربيهن على الأخلاق والمكارم، وأبعديهن عن السوء والسفور وما لا خير فيه. حذِّروا الأولادَ والبناتِ من بعض القنواتِ الفاجرة الظالمة التي تنشر السوءَ والفساد، وتحارب الأخلاق والفضيلة، وتبعد الأمة عن دينها وعن أخلاق إسلامها.
فلنتَّق الله في أنفسنا، ولنتّق الله في أولادنا، ولنتعاون جميعًا على البر والتقوى. أسأل الله أن يصلح لنا ولكم العاقبة، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن الشيطان وشركه، وأن نقترف على أنفسنا سوءًا أو أن نجره إلى مسلم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحبُّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عباد الله، إن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً [الأحزاب:72]. فالظلم والجهل متمكِّن في الإنسان، لا يرفع الجهلَ إلاَّ علم، ولا يرفع الظلمَ إلاَّ الإيمان الذي يدعو إلى العدل.
إنَّ البشر إذا فقدوا شرع الله ضلّوا سواء السبيل، وإذا خلَوا من التمسّك بالدين صاروا شرّ الخلق وأسوأهم، يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مّنَ ٱلْجِنّ وَٱلإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْغَـٰفِلُونَ [الأعراف:179]، ويقول جل وعلا: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَٱلأنْعَـٰمِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
فبيَّن أن الذين فقدوا شرعَ الله هم شرٌّ حتى من البهائم، البهائم أهدى منهم سبيلا. هذا الإنسان الذي فقد الدين فقدَ تعاليمَ الإسلام عاد قاسيَ القلب، غليظ الطبع، لا يبالي بأيِّ إنسان كائنًا من كان. لماذا؟ لأنه في حياته لا دين يركن إليه، ولا مبدأ يؤمن به، بل هو مجرِم بطبيعته، ظالم بنفسه، سيئ فقَد الإيمان، فقدَ الدين، فكلُّ شر وبلاء هو مصدره، وهو منطلق من ذلك؛ لأن الإسلام هو الذي يلين القلوب، ويجعلها تحترم الدماء والأموالَ والأعراض، لكن فاقد الدين لا قيمة للإنسان عنده، الدماءُ وسفكها قلَّت أو كثرت أمر عادي وطبيعي، لماذا؟ لأن هذه الفئة لا علاقةَ لها بالإسلام، إذًا فالإجرام مهما تضاعف وتعاظم فليس غريبًا أن يصدر منهم.
أيها المسلمون، تسمعون دائمًا وتنقل الأخبار لنا أحداثًا جسامًا ودماءً تراق ودمارًا كثيرًا وشيئًا يهول الإنسان ويقضّ مضجعه؛ من دماء تسفك بلا مبرِّر ولا سبب، لماذا؟ لأن هذه الأمة هي التي صنعت أسلحةَ الدمار، وأنشأتها بنفسها، فعاد شرُّها على مجتمعها، وعاد سلاحها على نحورها. صنعت أسلحةَ الدمار، وتنافست في صنع أسلحة الفتك بالبشرية، وقامت شركاتُ التسليح تروِّج لمنتجاتها وأسلحةِ دمارها بين العالم، بل تجعلها رخيصةً بمتناول أيِّ فرد، وتربي أجيالاً على هذا الإجرام، تربي فئاتٍ على هذا الإجرام وعلى هذا الفساد، لا يهنأ لها عيش حتى ترى الفساد منتشرًا في الخلق، والله جل وعلا قال عن أعدائه اليهود: وَيَسْعَوْنَ فِى ٱلأرْضِ فَسَادًا وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ [المائدة:64]، فكلّ فساد وظُلم إنما مصدره عندما يُفقد الإيمان، الإيمان الصحيحُ الذي بعث الله به محمدًا هو الدين الذي أرسى دعائمَ العدل، وبسط الرحمةَ والخير، فإن الله قال لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107]، فالرحمةُ التي بُعث بها محمد هي الرحمة التي عاش الناس في ظلالها في عدل الإسلام وأمان الإسلام، الدماءُ والأموال والأعراض محترمة بكل الوجوه، لماذا؟ لأن دين الإسلام دين الرحمة، دينُ العدل، دين الخير، دينٌ أهله رقةٌ في قلوبهم ومحبة الخير لأنفسهم وللبشرية أجمع، لكن هذا العدوان والظلم إنما مصدره من أمة ضائعة لا دينَ ولا شرع يحكمها، فهي ضالة مضلَّة، هذه أسلحة الدمار التي صنعها الأعداء وسخَّروها وتنافسوا في إبداعها وتسابقوا أيّهم الذي يصنع سلاحًا مدمِّرًا، وأيهم الذي ينشر الجريمة، وأيهم الذي يفتك بالبشرية، وأيهم المستطيع لأن [يجعل البشر] مجالاً لتدريب الأسلحة، واختبار لقوتها من ضعفها، وتأثيرها من عدمه.
هكذا الأعداء، ولهذا نبيّنا أخبرنا بأنّ هذا الأمر سيقع في آخر الزمان، عندما يُرفع العلم ويثبت الجهل ويكثر الهرج أي: القتل[1]، وأخبرنا نبينا : في آخر الزمان يقتل القاتل، لا يدري فيم قتَل، ولا يدري المقتول لماذا قُتِل[2]، لماذا؟ لأنها شرور عظيمة عامة، القاتل الذي ينفِّذ ما أمِر به لا يدري لأيِّ سبب فعل، والمقتول الذي ذهب لا يُدْرَى لأيِّ شيء ذهب. إنَّما هي فتنة، وإنما هي مصائب، وإنما هي بلايا، إنما هي أحداث جسام، عندما يسمعها الإنسان ويتصوّرها يرى العجب العُجَاب، في دول تدَّعي الحضارة والرقيَّ في نفسها، لكن الله حكيم عليم فيما يقضي ويقدر.
إنما المسلم لا يرضى بذلك، ولا تقرُّ عينه بذلك؛ لأنه يعلم أن دينَ الإسلام يرفض كلَّ الإجرام على اختلافه، وعلى وقوعه في أي البشرية كان، إذ الظلم في الإسلام محرَّم. ديننا دينُ الإسلام لم يكن سفّاكًا للدماء، ولا حريصًا على ذلك، بل كان حريصًا على حقنِ الدماء ما وجد لذلك سبيلا، كلُّ ذلك لأن دين الإسلام دين الرحمة، دين العدل، دين الخير، الدين الذي يصلِح البشرية في حاضرها ومستقبلها.
عندما فقدت معظمُ البشرية هذا الدينَ وهذا النور العظيم رأينا ما وقع، ونعوذ بالله من الشرور الآتية والمستقبلة. فإن المسلم حينما يتأمّل هذه الجرائم الشنيعة يعلم أن هناك فئةً من الناس قاسية قلوبهم، غليظة طباعهم، فاسدًا تصوّرُهم، إنما يطمئنون ويرتاحون عندما يدبِّرون هذه المؤامرات الدنيئة، وعندما تقع هذه الجرائم الكبيرة التي يذهب ضحيَّتها في لحظة من اللحظات مئات من البشر بلا سببٍ ولا مبِّرر ولا داعي، لكنها والعياذ بالله دليل على عُمق الجرم في النفس، وبعدهم عن الهدى والخير.
شريعةُ الإسلام التي عاش المسلمون في ظلّها قرونًا عديدة كان العدل والرحمة والخير يسود البشرية، فالدماء محترمة ((لا يحَلّ دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة))[3]، وأن من قتل نفسًا فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن حافظ على حياة نفس واحدة فكأنما أحيا الناسَ جميعًا، فاحتُرمت دماء الأمة مسلمِها ومعاهَدها، احترِمت في الإسلام وروعيَت حقوقُ البشرية جمعاء، هكذا عدالة الإسلام، وهكذا حقوق الإنسان في الإسلام، كلُّها الخير والعدل والهدى، أما ما نسمعه الآن وما تحمِله لنا وكالات الأنباء من هذه الجرائم المتعدِّدة التي أصبح الإنسانُ لا يأمن في جوّ ولا بحر ولا أرض إنما هي والعياذ بالله نتيجة تلك القلوبِ القاسية المجرمة الآثمة التي لا ترتبط بأيّ دين، ولكن تريد بثَّ الفساد في العالم، أعاذنا الله وإياكم من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وطهَّر مجتمعات المسلمين من كلِّ سوء وحفظهم من كلّ بلاء، إنه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنّ أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله على الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
وصلوا ـ رحمكم الله ـ على نبيكم محمد امتثالاً لأمر ربكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في العلم (85)، ومسلم في الأيمان (157) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في الفتن (2908) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في الديات (6878)، ومسلم في القسامة (1676) عن ابن مسعود رضي الله عنه.
| |
|