molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: الإحسان في أداء الحقوق- عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الجمعة 23 ديسمبر - 5:19:05 | |
|
الإحسان في أداء الحقوق
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التّقوى.
عبادَ الله، إنّ اللهَ جلّ وعلا أمَر المؤمنين بأن يوثِّقوا البيوعَ فيما بينهم؛ إمّا بالكتابة: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَٱكْتُبُوهُ [البقرة:282]، وأمر بالإشهاد: وَأَشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ [البقرة:282]، وأمر أن توَثَّق الحقوق بالرّهان لا سيّما في السفر: وَإِن كُنتُمْ عَلَىٰ سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَـٰنٌ مَّقْبُوضَةٌ [البقرة:283]. ثمّ إنّه تعالى أمَر بأمر آخرَ فوقَ هذا كلّه فقال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
أيّها المسلم، فإذا أمِنكَ أخوك على حقٍّ بينك وبينه لم يكُن هناك كتابةٌ ولا رهون ولا إِشهاد, ولكنّه أمِنك واطمأنّ لإيمانك وصدقك, فإيّاك أن تخونَه, وإيّاك أن تسِيء ظنَّه بك, وإيّاك أن تكذِب, فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283], ليسدِّد الحقوقَ, ليوفِ ما عليه من الحقوق, ليبرئ ذمّتَه من حقوق الآخرين.
أيّها المسلم، إنَّ حقوقَ النّاس مبنيّة على المشاحّةِ والمضايَقَة, فلا يحلّ مالُ امرئٍ مسلم إلاّ بطيبة من نفسه, والأصلُ حرمة أموالِ المسلمين, ((إنّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرام))[1]، والله يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَـٰطِلِ [النساء:29].
فمِن أكلِ أموال النّاس بالباطل جحودُ الحقّ الواجبِ عليك, فتجحَد ما في ذمّتك, وتنكِر ما عليك من حقّ. ومِن أكل أموال النّاس بالباطل وظلمِهم أن تماطلَ في الوفاء, فلا تعطي حقوقَهم بطمأنينة نفس، لكن تماطِلهم عسى أن يرضَوا منك باليسير, ويقتنِعوا منك باليَسير, فيسقِطوا بعضَ ما عليك رجاءَ أن يحوزوا البقيّةَ, فيسترجعوا أموالهم بجزءٍ منها مقابلَ مماطلتِك وظلمك وتأخيرك للوفاء. إذًا ما أخذتَ مِن هذا فإنّك أخذتَه بغير حقّ ظلمًا وعدوانًا، إذ الواجبُ عليك أن تسدّدَ الحقَّ الواجبَ عليك, وأن تؤدّي ما في ذمّتك عن طوعٍ واختيار, في الحديث: ((مَن أخذَ أموالَ النّاس يريد أداءَها أدّى الله عنه, ومن أخَذها يريد إتلافَها أتلفَه الله))[2].
أيّها المسلم، فما في ذمّتِك مِن حقوق فأدِّها عن طيبِ نفس وعن رِضا نفس, لا تجحَد, لا تماطِل بالوفاء, لا تضارَّ صاحبَ الحقّ, لا تُلجئه إلى شكايةٍ ورفع للجهات المختصّة, لا تتعِبه وتشغله حتى يتعبَ منك, وربما ترَك حقَّه عجزًا عن مطالبتِك, فتظنّ أنّ ذلك مباحٌ لك, والله يعلم أنّه حرامٌ عليك, إذ الواجبُ أن تؤدّيَ الحقَّ بطيب نفس واختيار, هذا إذا كنتَ قادرًا ولا عذرَ لك، والنبيّ يقول: ((مَن كان لَه عندَ أخيه مَظلمةٌ من مالٍ أو عرض فليتحلَّل منه اليوم قبلَ أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، إن كان له حسناتٌ أخِذ من حسناته, وإن قضيت الحسنات قبل أن يُقضى ما عليه أخِذ من سيئاتِ صاحبه فحُمل عليه))[3].
أيّها المسلم، فأبرِئ ذمّتَك من حقوق العباد, وأدِّها أداءً كاملاً, ولا عذرَ لك إلاّ أن تكونَ معسِرًا عاجِزًا عن التّسديد، فالله يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، أمّا إن كنتَ قادرًا فأدّ الحقَّ فورًا, والنبيّ يقول: ((مطلُ الغنيّ ظلم, يحِلّ عرضَه وعقوبتَه))[4].
أيّها المسلم، أدّ أثمانَ المبيع، وأدِّ أجرةَ العينِ المستأجرة, كلّ هذه واجبٌ أداؤها, وواجب تسليمُها والمبادرةُ بذلك.
أيّها المسلم، البعضُ من النّاس لدَيه قدرةٌ على التحايُل والمراوغة، إذا توجّه الحقّ عليه حاولَ بكلّ وسيلةٍ أن يؤخِّر الوفاء بعللٍ واهية وأكاذيبَ وأباطيل, يماطِل بصاحب الحقّ ويتعبه ويعييه, ليلجَأ إلى الخصومة، أو يتعبَ ويكلّ ويعجز فيترك حقَّه عجزًا لا سماحة من نفسه، ولكن عجزًا عن المطالبة, وكلّ هذا لا يبرئُك من حقوق النّاس ولا يعفيك من الواجِب عليك.
أيّها المسلم، أمّا إن كانتِ الحقوق غيرَ واضحةً للجميع بأن يكونَ الأمر مشتبِهًا وحقوقًا متداخِلة، قد لا يستطيع الشّخصان أن يخلِّصا حقَّ كلٍّ من الآخر، فالنّبيّ قد أرشدنا إلى الطّريق السويّ في ذلك, فتروي أمّ سلمة زوجُ النبيّ أنّ شخصين اختصَما إلى النبيّ في مواريثَ دارِسة بينهما ليس لأحدِهما بيّنه, فقال لهم النبيّ : ((إنّكم تختصمون إليّ, وإنما أنا بشر, ولعلّ بعضَكم ألحن بحجّته من الآخر، فأقضي له بنحوٍ مما أسمع, فمن فضيتُ له بشيء من حقّ أخيه فلا يأخذْه, فإنما أقطعُ له قطعةً من النّار يحملها [إسطامًا] على عنقه يومَ القيامة))، فبكى الرّجلان, وقال كلٌّ منهما: حقّي لأخي, فقال : ((أمّا أنا فاذهَبا واقتسِما وتوخّيا الصّوابَ واستهِما, وليحلِّل كلٌّ منكما صاحبَه))[5]، فأرشَدَهما النبيّ إلى هذا الطّريق الذي تبرَأ به الذّمم؛ مواريثُ مندرِسة لا يعلَم كلٌّ ما له من الآخر، أمَرَهم النبيّ أن يتوخَّيا الصواب, ويفعَلا قدرَ ما يظنّا أنّ ذلك هو الحقّ, ثمّ يجريا بينهما قرعةً، فمن خرجت له القرعةُ فله ذلك النّصيب, ثمّ يقتسمان, ويحلِّل كلّ منهما صاحبَه, حتى تكون النفوس مطمئنّة وراضية، هكذا حكمُ رسول الله , وهذان الرّجلان عندما وعظَهم النبيّ بهذه الموعظةِ العظيمة بكيا إشفاقًا من الله وخوفًا من الله، هكذا حالُ أهل الإيمان.
أيّها المسلم، فلا يحلّ لك المضارّة لصاحب الحقّ ليصالحَك عن التنازل عن حقّه بشيء لأجلِ الإضرار, إنما الصّلح لو كان الأمر مجهولاً, لو كان الأمر غيرَ واضح, أمّا الأمور الواضحة والحقوق الجليّة التي لا إشكالَ فيها فواجبُ المسلم أن يؤدّيَ ما عليه, وأن لا يضارّ بأخيه المسلم, فمطلُ الغنيّ ظلمٌ يحلّ عرضَه وعقوبته, والله يقول: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ ٱلَّذِى ٱؤْتُمِنَ أَمَـٰنَتَهُ وَلْيَتَّقِ ٱللَّهَ رَبَّهُ [البقرة:283].
فتقوى الله واجبٌ بين العباد في تعاملِ بعضِهم مع بعض, فلا عدوانَ ولا ظلمَ ولا فِرار من الحقوق, ولكن أداءٌ ووفاء, يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ أَوْفُواْ بِٱلْعُقُودِ [المائدة:1]، هذا أمرُ الله أن نوفي بالعقودِ؛ عقودِ البيع عقودِ الإجارات كلّ عقودٍ بيننا مما أباحَ الشرع التعاقدَ بها فواجبُنا أن ينفِّذَ كلّ منّا العقدَ الذي التزمَ به؛ لأنّ هذا هو المطلوبُ من المسلمين، أن يكونَ الصدق والوفاء فيما بينهم خلقًا سائرًا وعملاً صالحًا, هكذا الإيمان الصّادق.
أسأل الله أن يوفّقني وإيّاكم لصالح القولِ والعمل, وأن يعينَنا على أنفسِنا ويكفيَنا بحلالِه عن حرامِه وبطاعته عن معصيتِه وبفضلِه عمّن سواه.
أقول قولي هذا, وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه, إنّه هو الغفور الرحيم.
[1] أخرجه البخاري في الحج، باب: الخطبة أيام منى (1741)، ومسلم في القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679) من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
[2] أخرجه البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس، باب: من أخذ أموال الناس يريد أداءها أو إتلافها (2387) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه البخاري في المظالم والغصب، باب: من كانت له مظلمة عند الرجل فحللها له (2449) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4] هذا النص مركَّب من حديثين: الأول قوله : ((مطل الغني ظلم)) أخرجه البخاري في الحوالات (2287)، ومسلم في المساقاة (1564) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. والثاني قوله : ((ليُّ الواجد يحِلّ عرضه وعقوبته)) علقه البخاري في الاستقراض، باب: لصاحب الحقّ مقال، ووصله أحمد (4/389)، وأبو داود في الأقضية، باب: في الحبس في الدين وغيره (3628)، والنسائي في البيوع، باب: مطل الغني (4689، 4690)، وابن ماجه في الأحكام، باب: الحبس في الدين والملازمة (2427) من حديث الشريد بن سويد رضي الله عنه، وصححه ابن حبان (5089)، والحاكم (4/102)، ووافقه الذهبي، وحسنه الحافظ في الفتح (5/62)، والألباني في الإرواء (1434).
[5] أخرجه أحمد في المسند (6/320)، وأبو داود في الأقضية، باب: في قضاء القاضي إذا أخطأ (3583)، وأبو يعلى (6897، 7027)، والدارقطني (4/238)، والبيهقي في الكبرى (6/66، 10/260) من حديث أم سلمة رضي الله عنها بنحوه، وصححه ابن الجارود (1000)، والحاكم (7033)، وحسنه الألباني في تخريج أحاديث المشكاة (3696)، وانظر: الإرواء (1423، 1621).
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربّنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله، رسول الله يحثّ المسلمين على الصّدقِ في تعاملِهم، رسول الله لا يلزِم أهلَ الحقوق أن يتنازلوا عن حقوقِهم، لا يلزِمهم التنازلَ عن حقوقِهم, بل يكون موقفُه مع صاحبِ الحقّ لا مع من عليهِ الحقّ فقط, وإنما موقفه مع صاحبِ الحق ليعطَى حقَّه، ومع من عليه حقّ لينظّم كيفَ يؤدّي الحقّ, أمّا أن يفرَض على صاحب الحقّ أن يتنازلَ عن شيء من حقّه فإنّ هذا لم تأتِ به السنّة, فحقوق النّاس هم أولى بها, ولا يحلّ مال امرئٍ مسلم إلا بطيبةٍ من نفسه.
أيّها المسلم، قد تلجَأ أحيانًا للمُماطلة, وقد تستعين بمحامٍ لكي يماطِل بصاحبِ الحقّ ويظلم صاحبَ الحقّ، كلّ هذا من التّعاون على الإثم والعدوان, الواجبُ الإنصاف وإعطاءُ الناس حقوقَهم, وأن لا يظلَم من له الحقّ ولا من عليه الحقّ.
اسمع إذًا سنّةَ محمّد , اسمَع عدالتَه، اسمَع موقفَه مع من له الحقّ ومن عليه الحقّ؛ لتعلمَ أنّ شريعتَه شريعةُ العدل والحقِّ والإنصاف، يروي جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رضي الله عنه أنّ أباه استُشهد يومَ أحد, وكان على أبيه دينٌ, فاستمهَل الغرماءَ فلم يمهِلوا, وأراد أن يعطيَهم ثمرَ حائطِه مقابلَ حقِّهم فأبَوا, فأتى النبيّ ، فقال له: ((إني آتيك غدًا)), فأتى النبيّ حائطَه وطافَ فيه وبرَّك فيه, ثمّ قال: ((جُدَّ لهم))، فجدَّ لهم ثلاثين وَسقًا من التّمر وبقيَ له سبعةَ عشر وسقا.
فرسول الله لم يفرِض على الغرماءِ التنازلَ لما أبَوا أن يتنازلوا عن حقّهم لم يفرِض عليهم شيئًا مِن ذلك, ترك الأمرَ لهم, وفي بعض الألفاظ عن جابر أنّ يهوديًا كان له على أبي جابر ثلاثون وسقًا مِن تمر، فكلّمه جابر أن يعطيَه ثمرةَ حائطه ويتنازَل عن الباقي فأبى, فكلّم رسولَ الله أن يشفَع له, فكلّم النبيّ اليهوديّ فأبى, أبى أن يتنازلَ عن حقّه, فالنبيّ لم يلزِم ذلك اليهوديَّ بالتنازل, ولم يفرض عليه التواضعَ عن حقّه, وإنما أتى لحائطِ جابر فطاف فيه وأمره أن يجدَّ، فجدّ ثلاثين وسقًا، فأعطاه حقَّه كاملاً, وبقي لجابر بقيّة من ذلك[1].
إذا نظر المسلم إلى هذا علِم العدالةَ في الشريعة، وأنّ أهلَ الحقوق لا يظلَمون ولا يحمَلون على ما لا يريدون, وأنّ الأمرَ بيد صاحبِ الحقّ فهو أحقّ بماله، إن شاء تنازل وإن شاء استوفى حقَّه كاملاً. إذا كنتَ في أوّل الأمر أخذتَ ماله واستفدتَ منه أتريد أن تضارّه في القضاء, لماذا ما رتّبتَ أمرَك عندما أردتَ الأخذ من حقوق الناس؟
أمّا إذا تحمّلت حقوقَ الناس أردتَ المماطلة والمراوغةَ حتى ينقِّصوا من الحقوقِ, وحتى يرضَوا بإسقاطِ النّصف في سبيل النّصف الباقي، لا, حقوقُ الناس واجبٌ أداؤها, واجب تسديدُها, حرامٌ المماطلة بها, حرام المضارّة بأهلِ الحقوق, حرام المضارّة بأهل الأملاك, واجبٌ الوفاء سواء كانت قيمةَ مبيعات أو قيمةَ أجور أو غير ذلك, كلّ هذه الحقوق واجبٌ على المسلم أن يؤدّيَها بطيبِ نفسٍ حتى يكونَ من الصّادقين، فعلامة الإيمان الصادقِ أن يكون المسلم ذا وفاءٍ وقيام بالحقّ وتسديدٍ للحقّ دون أيّ مماطلة.
قصّ علينا نبيّنا قصّةً من أخبار بني إسرائيل من أخبار الماضين, وما قصّه مما هو صحيحٌ إليه فهو خبر صدقٍ عن محمّد , ملخّص هذه القصّة: ((أن رجلاً فيمن قبلنا استدَان من رجلٍ ألفَ دينار, فقال له مَن عنده الدنانير: أبغني كفيلاً, قال: كفى بالله كفيلاً, قال: أبغِني شهيدًا, قال: كفَى بالله شهيدًا, فأعطاه ألفَ دينار على أن يسدِّدها بعدَ عام، وقدّر ذلك الشّهر وذلك اليومَ الذي يكون فيه السّداد. لما مَضى عام كامل وجاءَ اليوم الذي هو موعِد السّداد خرج ذلك الرجل بألف دينار ليجِد مركبًا لعلّه أن يوصلَه إلى صاحبِ الحقّ فيعطيَه حقّه في وقته, فما وجدَ سفينةً يركبها ـ ما وجد مركبًا بحريًا يسير عليه ـ, فلمّا انقضى ذلك اليومُ وهو يراقِب عسى مركَبا بحريًّا يوصله إلى مكانِ صاحب الحقّ, فأيس من ذلك, فأخذ خشبةً ونجرها، وجعل فيها الألفَ الدّينار وصحيفةَ العقد، وزجّها وختمها، وألقاها في البحر, وقال: اللهمّ إنّ فلانًا طلب مني كفيلاً فرضيَ بك كفيلاً, ورضيَ بك شهيدًا, وهذا حقُّه فأسألك أن توصلَه إليه. قال: وخرج ذلك الرجل في ذلك اليومِ يرتقِب الموعدَ الذي وعده صاحبه, فما وجد أحدًا جاء, وإنما رأى خشبةً قد ألقِيت على ساحلِ البحر, فأخذها من بابِ أنها حطبٌ لأهله, فلمّا نشرها إذا الصحيفَة والألفُ الدينار موجود فيها, فأخذ حقَّه ألف دينار, وأخذَ صحيفتَه, وحمِد الله, وأثنى على صاحب الحقّ أنه أوصلَ حقَّه في يومه. ثم إنّ من عليه الحقّ بعد أيّام وجد مركبًا فسار عليه، وجاء بالألف الدينار إلى صاحبه، فقال: إني أعتذر فقد أخّرت الوفاءَ لأني ـ والله ـ ما وجدتُ مركبًا أسير عليه، قال: ألم تبعث لي خشبةً فيها ألف دينار وصحيفة؟! قال: يا أخي، والله ما وجدتُ مركبًا أسير عليه، قال: اعلم أنّ الله قد قضى عنك ما عليك, وأنّ تلك الخشبةَ التي ألقيتَها في البحر ما زال الرّيح بها حتى ألقتها على السّاحل, فأخذتها وأخذتُ نصيبي, فارجِع راشدًا بما معك, فجزاك الله خيرًا))[2].
لا شكّ أنها قصّة أخبرنا بها نبيّنا ، ليبيِّن لنا فضلَ الأمانة وأداء الحقوق وحسن التعامل بين المسلمين، نسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممن عمِل بشرع الله وتأدّب بآداب الله وأدّى الحقوق الواجبة ولم يخن ولم يماطل ولم يتعِب صاحبَ الحق, هذا هو المطلوب منّا في تعاملنا, وهو الذي يمليه علينا إيماننا بالله ورسوله, فحسن المعاملة بين المسلمين دليلٌ على الإيمان الصّادق، وأمّا سوء المعاملة وظلمُ العباد فإنها نقصٌ في حقّ الإنسان, فلا يغرّنّك ـ يا أخي ـ مجرّدُ محافظتك على الطاعة مع خيانة الأمانة وظلمِ النّاس والتّعدّي عليهم، فالإيمان الصادقُ يدعوك إلى الصّدق والأمانةِ والوفاء، قال بعض السلف: "والله، ما سبقهم أبو بكر بكثرةِ صلاة ولا بكثرةِ صيام، ولكن بإيمان وقر في قلبه". فالصّادق في صلاتِه وصيامِه وتعبّده هو الذي يعطِي الناسَ حقوقَهم ويوفي الناسَ حقوقَهم بلا مماطلة, وأما من يتظاهر بالخير ويتظاهر بالصّلاح ولكن عند المعاملة لا تجد شيئًا، فهذا دليلٌ على النّقص في الدّيانة, نسأل الله السلامةَ والعافية, وأن يجعلَ إيماننا صادقًا ظاهرًا وباطنًا, إنّه على كلّ شيء قدير.
واعلموا ـ رحمكم الله ـ أنَّ أحسنَ الحديثِ كتاب الله، وخير الهديِ هديِ محمّد ، وشرّ الأمورِ محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يد الله على الجماعَة، ومن شَذّ شذّ في النّار.
وصلّوا ـ رحمكم الله ـ على محمّد امتثالا لأمر ربّكم، قال تعالى: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن خلفائه الراشدين...
[1] أخرجه البخاري في المغازي، باب: إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ (4053) نحوه.
[2] علقه البخاري في الحوالات، باب: الكفالة في القرض والديون بالأبدان وغيرها عن أبي هريرة رضي الله عنه، ووصله في البيوع، باب: التجارة في البحر (2063).
| |
|