molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: خطبة عرفة 1423هـ - عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض الأربعاء 21 ديسمبر - 5:57:50 | |
|
خطبة عرفة 1423هـ
عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ / الرياض
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فيا أيّها النّاس، اتّقوا الله تعالى حقّ التقوى.
يقولُ الله جل جلاله وهو أصدق القائلين: إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَـٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً [الأحزاب:72].
أمّة الإسلام، أتَدرون ما هذه الأمانةُ التي حمَلها الإنسان بعدَما عَجز عن حملِها السموات والأرضُ والجبال خوفاً وإشفاقا؟ نعم، إنّها كلمةُ التوحيد التي كلِّفنا بها، أمِرنا بالعمل بها، حُذّرنا من مخالفتها، هي كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله"، أصلُ الملّة والدين، هي "لا إله إلا الله"، أساسُ التقوى، وهي العروة الوثقى.
كلمةٌ لأجلِها أرسَل الله الرسلَ، ولأجلِها أنزَل الكتبَ، وعليهَا قامت رايةُ الجهاد، وقامَ سوقُ الجنَّة والنار.
كلمةٌ لأجلها خُلقت السماوات والأرضون، بل خُلق لأجلها الخلائق أجمعون، وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56].
كلمةٌ فارقةٌ بين الإسلامِ والكفر، بين الهدى والضلالِ، بين الحقّ والباطل.
"لا إله إلا الله"، آمنّا بربّنا وخالقنا، أبدَع الخلقَ، أنشأه من العدم، وربَّاه بالنعم.
"لا إله إلا الله"، خلق الكونَ فأحسنَ خلقَه وإتقانَه، وأبدعَه ونظَّمَه فأتقنَ نظامَه.
"لا إله إلا الله"، رفعَ السمواتِ بغير عمَد، وألقى في الأرض رواسيَ أن تميدَ بنا، بثَّ فيها من كلّ دابّة، أجرى فيها الأنهار، أنزل من السماء ماءً فأنبت فيها من كل زوج كريم.
"لا إله إلا الله"، قدّر أرزاقَ عباده، وتكفّل بهم، وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي ٱلأرْضِ إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6].
"لا إله إلا الله"، له الأسماء الحسنى والصفات العُلى.
"لا إله إلا الله"، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. لا معبود بحقّ إلا الله، ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ ٱلْبَـٰطِلُ [لقمان:30].
"لا إله إلا الله"، ينفي المسلم بها كلَّ العبادةِ لغير الله، ويُثبت بها العبادةَ بكل أنواعها لمستحقِّها، وهو الله جل جلاله.
"لا إله إلا الله"، حقيقتُها صرفُ العباداتِ كلِّها القوليّة والفعليّة والاعتقاديّة لله، وَأَنَّ ٱلْمَسَـٰجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً [الجن:18]، وَمَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـهَا ءاخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون:117]. لا ندعو إلا الله، وَقَالَ رَبُّكُـمْ ٱدْعُونِى أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فالدعاءُ عبادة، فيجب أن يكونَ لله وحده. لا نرجو ولا نخاف حقًّا إلا من الله، إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِى ٱلْخَيْرٰتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خـٰشِعِينَ [الأنبياء:90]، إِنَّمَا ذٰلِكُمُ ٱلشَّيْطَـٰنُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [آل عمران:175]، لا نتقرَّب بالذبح والنّذر إلا لله، إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذٰلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162، 163]. لا نطوفُ تقرّباً إلا ببيت الله الحرام، نطوف بهذا البيتِ عبادةً لله، وتقرّباً إلى الله، لا نطوف بقبرِ نبيّ، ولا بقبر وليّ ولا صالح، ولا شجر ولا حجر؛ لأنّ ذلك يخالف شرعَ الله.
"لا إله إلا الله"، لا نستعينُ ولا نستغيث فيما لا يقدِر عليه إلا الله إلا بالله وحده.
نقول هذه الكلمة عالمين بمعناها، عاملين بمقتضَاها، صادقينَ فيما نقول، مخلصينَ محبِّين منقادين قابلين.
"لا إله إلا الله"، عقيدةُ المسلم إيمانٌ بملائكة الرحمن، فيؤمن بما أخبر الله عنهم إجمالاً، فهم عبادٌ خلِقوا من نور، مطيعون لربهم، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء:27]. نؤمن بهم إجمالاً، وبما سُمّي لنا من أسمائهم، وبما وُكل إليهم من الأعمال تفصيلاً.
نؤمِن بكتب الله التي أنزلها على أنبيائه لهداية الخلقِ وتبصيرهم، نؤمنُ بتوراةِ موسى وإنجيلِ عيسى و+ورِ داود وصحف إبراهيمَ وموسى، وأنَّ ما فيها حق، وأنَّ كلَّ كتاب منها أنزِل على حسب ذلك الزمان الذي أنزل فيه.
ونؤمن بالقرآن، وهو الذكرُ الحكيم، كتابُ الله العزيز، لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَـٰطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]. تكلَّم الله به حرفاً وصوتاً، وأنزله على نبيّه وحياً، محفوظٌ بحفظ الله، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ٱلذّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـٰفِظُونَ [الحجر:9]. مهيمنٌ على ما سواه، محقّ للحق ومبطل للباطل، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ بِٱلْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [المائدة:48].
نؤمنُ برسل الله، بشرٌ اختارهم الله، واصطفاهم وطهَّرهم وفضَّلهم بالرسالة، وجعلهم متفاوتين في الفضل، وختمَهم بسيّدهم وأفضلِهم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
نؤمنُ باليوم الآخر من حين مفارقة العبد للدنيا إلى أن يستقرّ أهلُ الجنة في الجنة وأهل النار في النار.
نؤمِن بقضاء الله وقدرِه، وأنَّ الله علم ما العبادُ عاملون، وكتب ذلك العلمَ قبل أن يخلق الخلائق بخمسين ألف سنة، وشاء ذلك وخلقه، وأنَّ القدر سرّ الله في خلقه، لا حجّة فيه لعاصٍ في معصيته.
أيّها المسلمون، كلمةُ التوحيد تُلزم قائلَها الإيمانَ بها والعملَ بمقتضاها، فلا يكفي الإيمان بلا اعتقاد، ولا اعتقادٌ بلا عمل.
حقوقُها أركانُ الإسلام؛ الصلاة وال+اة والصومُ والحج وسائر فروض الإسلام، مكمِّلاتها نوافلُ الطاعة التي شرعها الله لنا.
أمة الإسلام، إن دينَ الإسلام رحمة رحِم الله بها العبادَ، ورسولُ الإسلام رسولُ الرحمة، في الحديث يقول : ((أنا نبيّ الرحمة))[1]، ويقول: ((إنما بُعِثت رحمة))[2]، وربّنا يقول: وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ [الأنبياء:107].
أيُّ رحمةٍ أعظم مِن أن ينتشِل الله قلوبَ العباد بهذا الدين من الأعراض الدونيَّة والأغراض الماديَّة والأوحال الأرضيَّة، فيسمو بها إلى باريها وخالقها ومعبودها، فيتوحَّد اتجاهها، وإخلاصُها لربّها، ويتمحّض خوفُها ورجاؤها لربّ العالمين.
رحِمهم الله بهذا الدين، فاستنقذهم من الفوضى والاضطراب إلى الإيمانِ والخير والأمان. كانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء، فهذّب الله بالإسلام أخلاقَهم، وأصلحَ به عقائدَهم وأعمالَهم.
أمةَ الإسلام، إنَّ من حكمة الله أنّه لا استقامة للناس على الحقيقة في دنيَاهم إلا إذَا صلح دينُهم واستقامت أحوالهم ووحّدوا الله جل وعلا، فالحياة الطيبة نتيجةٌ للعمل الصالح، فَمَنِ ٱتَّبَعَ هُدَاىَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَىٰ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ ٱلْقِيـٰمَةِ أَعْمَىٰ [طه:123، 124].
من أجلِ هذا بعث الله الرسلَ مبشرين ومنذرين، في كلّ زمان فترة يبعث الله رسولاً بشريعة تناسب قومَه، تناسب ذلك الزمانَ، فيجبُ الإيمان بهم كلّهم، فنؤمِن بآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ومحمد ، ونؤمن بكلّ رسول أُخبرنا به، وأيضاً من لم نُخبَر به، فنؤمن بهم جميعاً، وأنهم أدَّوا الأمانة التي ائتمنَهم الله عليها، وأنَّ من كفر بواحد فقد كفَر بالكلّ، كَذَّبَتْ عَادٌ ٱلْمُرْسَلِينَ [الشعراء:123]، من كفر بمحمد وكذَّبه فقد كفر بموسى وكذَّبه، من كفر بمحمّد وكذَّبه فقد كفر بعيسى وكذَّبه، لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّن رُّسُلِهِ [البقرة:285]، فمحمّد خاتم الأنبياء والمرسلين، مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيّينَ [الأحزاب:40].
محمّد هو دعوةُ إبراهيمَ وبشرى عيسى عليه السلام، محمّد أخذ الله الميثاقَ على الأنبياء: مَن أدرك منهم محمّداً آمن به واتبعه، وأخذ الميثاقَ على قومه: من أدرك محمداً آمن به واتّبعه، وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلنَّبِيّيْنَ لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كِتَـٰبٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ ءأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ إِصْرِى قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَٱشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ ٱلشَّـٰهِدِينَ [آل عمران:81].
محمّدٌ يعرفه أهلُ الكتاب كما يعرفون أبناءهم، وكانوا يستفتحون به على الكافرين، فَلَمَّا جَاءهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ ٱللَّهِ عَلَى ٱلْكَـٰفِرِينَ [البقرة:89].
محمّد صفتُه واضحةٌ في توراة موسى وإنجيل عيسى، ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِىَّ ٱلأمّىَّ ٱلَّذِى يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ [الأعراف:157]، ولكن كما قال الله: وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ مُصَدّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ كِتَـٰبَ ٱللَّهِ وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [البقرة:101].
أمةَ الإسلام، إنَّ الدعوةَ إلى دين الإسلام وبثّه في الناس لهدايتهم وإقامة الحجة عليهم أمرٌ مطلوب من الجميع، يجبُ علينا أن نسعى جاهدين في هذا الأمر، وأن نبذلَ كلَّ غَال ونفيسٍ في سبيله. إنَّ هذا الدين القويمَ إنّما وصلَ إلينا على أكتاف رجالٍ صادقين، رجالٍ صدقوا ما عاهدوا اللهَ عليه، فمنهم من قضى نحبَه، ومنهم من هو على طريقه سائر، بقايا من أهلِ العلم هيّأهم الله ليبصِّروا الناسَ من العمى، ويهدوهم من الضلالة، ينفون عن دينِ الله تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، يدعون ويدعون ويدعون، ويؤذَون فيصبِرون، يتوارث خلفهم عن سلفهم رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوٰنِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإَيمَـٰنِ وَلاَ تَجْعَلْ فِى قُلُوبِنَا غِلاًّ لّلَّذِينَ ءامَنُواْ رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَّحِيمٌ [الحشر:10].
لقد حفِظ لنا التاريخُ نماذجَ مشرقة من سيرة أولئك الأمجاد الذين دَعَوا إلى الله، ففي كلّ فترة يهيّئ الله لهذه الأمة من علمائها من يدعوها إلى الله وينصر دينَ الله، فإنَّ الله ضمِن لهذه الأمة بقاءَ دينها إلى أن يرثَ الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، ((ولا تزل طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتيَ أمر الله))[3].
من تلكم الدعواتِ الصالحة المصلحة دعوةُ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الذي نذر نفسَه للعلم والتعليم والدعوة والجهاد في سبيل الله، صبر على شظفِ العيش ومُرّ الاغتراب، فما أن فتحَ الله على قلبه حتى نهضَ لتعليم الأمة ودعوتِها لسالف العهد السابق عهدِ محمّد في صفاء الشريعة ونقاء العقيدة، صبر وصابر، وأوذِي فهيّأ الله له من سبقت له من الله السعادةُ، هيَّأ الله له الإمامَ محمد بن سعود، فالتقيا على الحقّ، وتعاهدا على نصره، وقاما بهذه المهمّة خيرَ قيام، فلّما علم الله صدقَ النية نصرهم على من بغى عليهم، ولكنّ الأعداءَ تحدّثوا عن ذلك بما تمليه عليهم نفوسُهم من الشرِّ والبلاء، فقالوا عن هذه الدعوة المباركة: إنّها مذهب الخوارج، وإنّها الوهابيّة، وإنّهم الإرهابيّون، وإنّهم المكفّرون لعباد الله، وقالوا عنهم ما قالوا، إمّا عن جهلٍ بحقيقتها، وإمّا عن عناد ومقاومةٍ للحق، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا [الكهف:5].
هذه كتبُهم وهذه مؤلّفاتهم، وهؤلاء علماؤهم وهذه دولتهم، فانظروا هل لغير الحقّ سلكوا، أم لغير دين الله دَعَوا، أم لغير سنة محمّد نهجوا، أم لغير شرع الله حكّموا وتحاكموا؟ لا نكونُ أبواقاً بأيدي أعدائنا، نحاربُ هذه الدعواتِ الصالحة، بل يجبُ علينا أن نقفَ مع كلّ دعوة صالحة، تدعو إلى الحق والهدى، نصرةً لدين الله، وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ [التوبة:71].
لم تأتِ هذه الدعوةُ بما يخالف المسلمين، ولا بما [يخالف ما] عليه مناهجُ الأئمّة الأربعة، بل هي دعوةٌ إلى الحق، إلى كتاب الله، إلى سنّة رسول الله، إلى الرجوع بالأمّة إلى منهج الشرع القويم، الخالي من الإفراط والتفريط، من الغلوّ والجفاء.
أمّة الإسلام، ألا تَرَون ما يحلّ بالأمّة الإسلامية في كلّ عام من المصائب، ألا تنظرون إلى تسلّط العدو علينا من كلّ جانب، فكشَّروا عن أنياب العداوة، وأظهروا مقاصدَهم بمحاربةِ ديننا، ألا نسأل أنفسنا: من أين أوتينا؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، وَمَا أَصَـٰبَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
ما موقفُنا ـ معشر المسلمين ـ من الإخلاص لله في عبادتنا؟ ما موقفُنا من هذه الصلاة التي هي عمود الإسلام وثاني أركانه، والتي هي قرةُ عين المؤمن والصلة بينه وبين ربه، من تركها فقد كفر، ومن خلّفها عن وقتها فقد توُعِّد بالغي، ومن ضيّع أداءها في الجماعة فقد أثم. ما موقفُ المسلم من ال+اة، أدائها وإيصالها إلى مستحقيها؟ ما موقفه من بقيّة فرائض الإسلام؟ كيف حالُ المسلمين مع نواهي الله، مع الشرك والتنديد وسؤال الحاجة من العبيد؟ ما موقفُ المسلم من السحر تعلّماً وتعليماً واستعمالاً والله يقول: وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ ٱشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِى ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلَـٰقٍ [البقرة:102]؟ ما موقفُ المسلمين من جريمة الزنا التي حرَّمها الله وأخبَر عن فحشها: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً [الإسراء:32]؟ ما موقفُ المسلم من هذه الخمور والمخدرات، وهي التي ضرَّت الأمة وأفسدت عقولها، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا ٱلْخَمْرُ وَٱلْمَيْسِرُ وَٱلأنصَابُ وَٱلأزْلاَمُ رِجْسٌ مّنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَـٰنِ فَٱجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]؟ ما موقف المسلم من المعاملات الربوية والله يقول: وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلْبَيْعَ وَحَرَّمَ ٱلرّبَوٰاْ [البقرة:275]، يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ ٱلرّبَوٰاْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ [البقرة:278]؟
هل قام المسلمون بواجبِ الدعوة إلى الله، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على ما يوافق شرع الله؟ ما بالُنا تمرّ بنا الزواجر والمواعظ فلا اعتبار ولا عظة، أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ ٱللَّهِ [الحديد:16]؟ هلا رجعةٌ صادقة وتوبة إلى الله نصوح؟
أمَّة الإسلام، إنَّ عدوَّكم لن ينالَ منكم بكثرة عدده، ولن ينالَ منكم بقوَّة عدَّته، ولن تنالوا منه بكثرة عددكم، وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً [التوبة:25]، إنَّما ينال منكم بضعف الإيمان وقلَّة اليقين، وإنَّ سبيلَ النصر والتمكين لكم لا يكون إلا برجوعكم إلى ربّكم وتطابقِ القول مع العمل، إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ [فصلت:30].
ممّن تخافون والله وليُّكم؟! ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ [البقرة:257]. تستغيثون بمن والله [يقول]: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَٱسْتَجَابَ لَكُمْ [الأنفال:9]؟!
عليكم باجتماع الكلمة على الحقّ ورصّ الصفّ على كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، ولتسمُ نفوسُكم عن النعرات الجاهليّة والفوارق الإقليميّة والخلافات الح+يّة، إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ [فصلت:30].
وإنَّ نصرَ الله لأوليائه إن صدَقوا الله لقريب، وإنَّ تغيّرَ حالِكم إذا غيَّرتم حالَكم ليس على الله بعزيز، فأحسنوا الظنَّ بالله، وقوموا بما أوجب عليكم.
أمة الإسلام، إن الأمنَ نعمة من نعم الله، يقول فيه : ((من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوتُ يومه وليلته، فكأنَّما حيزَت له الدنيا بحذافيرها))[4].
هذا الأمنُ نعمة يشكُر اللهَ المسلمون عليها، ويحمدون اللهَ عليها، هذا الأمنُ نعمة لا تكون إلا بطاعة الله والاستقامة عليه، نعمة يُحافَظ عليها ويؤخَذ على كلّ من يريد العبث بها.
أمة الإسلام، إنَّ المسلم يوطّد نفسَه أمام الفتن والمِحن على الصبر والاحتساب، وأن لا يكونَ إمعةً؛ إن أحسن الناس أحسن، وإن أساؤوا أساء، بل إن أحسنَ الناس فهو في الإحسان، وإن أساؤوا ابتعَد عن إساءَتهم.
إنَّ هناك فئةً تنبت في الفتن، وترتَع في الفتن، وتجدُها مرتعاً خصباً لها، لتبثَّ شرَّها وبلاءَها تحتَ ستار الوطنيّة تارة، وتحتَ حماية الحقوق تارة، أو تسمّياً بالدين تارة، لتحقيق مآربها الخبيثة ومكائدها بالإسلام وأهله، فاحذروا ذلك يا عباد الله.
أمةَ الإسلام، إنَّ أمةَ الإسلام مستهدفَة اليومَ من قِبَل أعدائها، مستهدفةٌ في دينها، مستهدفةٌ في وحدتِها، مستهدفَة في اقتصادِها، مستهدفَة في أخلاقِها وقيمِها وفضائلها.
نعَم، هي مستهدفة في دينها، فأعداؤها يحاوِلون زحزحَتَها عن دينها، يحاولون إبعادَها عن إسلامها، عرَفوا هذا الدينَ وأنَّ هذا الدين إن تمسَّكت به الأمَّة فلا قوَّة تقهرها وتثنيها، درسوا تاريخَ الأمة، وتذكَّروا أيامَ عزِّ الإسلام، أيّام أولئك القوم الرعيل الأول من هذه الأمّة، على قلَّة عددِهم وضعف عدّتهم، لكن قلوبُهم مليئة إيماناً وخوفاً من الله، كيفَ استطاعوا في حقبة من الزمَن أن يقيموا شرعَ الله على أرجاء المعمورة، ويحققوا قوله: لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدّينِ كُلّهِ [الفتح:28]، [فسعى المبطلون] جهدَهم في إبعادِ الأمة عن دينها، وتشكيكها في مسلمَّاتها وثوابتها، لأنَّهم يعلمون أنَّ الأمة إن تخلّت عن دينها ضلَّت وهانت، بل هانَت على ربّها ثم على عباده، فالأمة المسلمة لا عزّ لها ولا رفعة إلا إن تمسَّكت بهذا الدين علماً وعملاً، قولاً واعتقاداً، تحكيماً وتحاكماً، ورفعت هذا الدينَ وأعلت شأنَه، فإنها أمّة هي خيرُ أمّة أخرِجَت للناس، هي خير الأمم، هي الأمّة المؤهلة لقيادة البشرية بهذا الدين وحده، وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].
لقد استهدَفوا الأمّةَ في دينها، استهدفوها حتى في مناهج تعليمها، فزعموا أنّها مناهجُ تدعوا إلى الإرهاب والضلال، وقالوا عنها ما قالوا.
استهدَفوا اقتصادَها، نعم استهدَفوا اقتصادها، فحاولوا فرضَ التبعية عليها، وربطها باقتصادهم. إنَّ الاقتصاد هو قوام الحياة، المال عصبُ الحياة، وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ ٱلَّتِى جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ قِيَـٰماً [النساء:5].
أرادوا من الأمّة أن تكونَ دائماً تابعة لهم، وأن تكونَ أسواقُها أسواقاً لترويج سلعهم وبضاعاتهم، ليتصارع قوى الشرِّ في الأمّة، كلٌّ يريد أن يغتنمَها، ليس التبادل بالمعيب، ولكنَّ العيبَ على الأمة أن تكونَ أمةً آخذة وأمة مستهلكة، لا أمة منتجة ولا أمة قائمة بنفسها.
إنَّ أمة الإسلام لا يقصرها عدد البشر، ولا ينقصها ثروات، فالعدد كبير، وأرضُها أرض الخيرات والثروات، لكن تحتاج إلى الرجال المخلصين الصادقين الذين يحمُون هذه الأمة من أن تكونَ خاضعةً لغيرها، يخطّطون لأجيالها المقبِلة بما تسعَد به الأمة حتى لا تكون التبعية مفروضةً عليها.
إنَّ الصراع بين العالم اليومَ صراعٌ دينيّ وصراع اقتصادي، وقوى الشرّ حينما تختلف على قضيّة ما من القضايا فليس هدف أحدٍ مصلحتنا، وإنّما هدفهم مصلحتُهم الخاصّة، وأن ينقضّوا على الأمة فيأكلوا خيراتِها ويستغلّوا خيراتِها.
إنّ الأمة يجب أن تعيَ بمخاطر أعدائِها ومخطّطات أعدائها، وأن يكونَ لها نظرةٌ ثاقبة حولَ اللعبات السياسيّة، حتى تعالجَ قضاياها بحكمة وعدل وإنصاف، وتقومَ بواجبها.
إنَّ اقتصاد الأمَّة يجب أن يتحرَّر من غيره ليكونَ الاقتصاد النافع المؤثّر المفيد، فبلادُها بلاد الخيرات، أعداؤها لن يرحموها، ولن يشفقوا عليها، فيجبُ على الأمة أن تعيَ بكلّ الأخطار المحدقة بها.
إنّ أعداءها يتذرعون بكلّ وسيلة لإيقاع الضرر بهذه الأمة، إنهم يستهدفون وحدةَ الأمة، يريدون تفريقَ شملِها وتمزيقَ كيانها، لينقضّوا عليها بلداً بعد آخر، وأمّةً بعد أخرى، فواجب الأمّة التكاتفُ والتعاون وجمع الكلمة في سبيل عزّ الأمة وسلامتها وحفظِ كيانها من تسلّط الأعداء عليها.
شبابَ الإسلام، اللهَ اللهَ في التمسك بدينكم، ولتكن عزتُكم بإسلامكم، وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8].
تعلَّموا دينَ الإسلام من مصادره الأساسيّة؛ كتاب الله وسنة محمد ، وليكُن فهمُكم لذلك على وفق ما فهمه سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، اعرفوا أنَّ أعداءكم يتربّصون بكم وبأمتّكم ودينكم وأخلاقكم الدوائر، فخيِّبوا ظنونهم.
فتاةَ الإسلام، لم تَعد مكائدُ أعداء الإسلام بك أمراً خفياً، بل هو أمرٌ ظاهر، فلا عصمةَ لك إلا بطاعة الله ومعصية الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء.
رجالَ الإعلام الإسلامي، ها أنتم أولاءِ تنظرون إلى أعدائكم، تنظرون إلى إِعلام أعدائِكم المقروء والمسموعِ والمرئيّ، كيف جهّزوا تلك الوسائلَ في محاربة هذا الدين، ومحاربة قيَمه وأخلاقه وفضائله، كيف صوّروا واقعَ الأمة، وكيف حارَبوها بكلّ ممكن، فأين مسؤوليتكم يا رجال الإعلام الإسلامي؟ انهضوا بمسؤوليتكم، وقارعوا الحجةَ بالحجة، وادمغوا الباطل بالحق، بَلْ نَقْذِفُ بِٱلْحَقّ عَلَى ٱلْبَـٰطِلِ [الأنبياء:18]، ها هي القنوات الفضائية الملحدة، تبثُّ إلحادَها وكفرها وضلالها، فحريٌّ بإعلام الأمة أن يقارعَ تلك الضلالات، وأن يبيّن زيفَها وخطرَها وشرَّها، ليحذّر الأمةَ من مكائدِ أعدائها.
أيّها المسلمون، دعاةَ الإسلام، إنَّ الأمةَ الإسلامية تمرّ بحالات حرِجة، بحاجة إلى التكاتف والتعاون ونبذِ الخلاف، بالدعوة إلى الله جل وعلا، ولنتقرَّب إلى الله بالدعوة إليه، ولتكن وسيلتُنا، ٱدْعُ إِلِىٰ سَبِيلِ رَبّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ وَجَـٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ [النحل:125].
علماءَ الإسلام، إنَّ الله يقول: وَإِذْ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَـٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ لَتُبَيّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ الآية [آل عمران:187]، فخالفوهم وانشروا العلمَ الشرعي، الأمة بحاجةٍ إلى علماء الشريعة ورثة الأنبياء، ليبيّنوا الحقّ ويكشفوا الشبَهَ والأباطيل، ويدعوا الأمّةَ إلى التمسّك بهذا الدين من غير إفراط ولا تفريط، عليكم بتبصير أمّتكم وتجنيبهم المزالق، فإنَّ كثيراً من الأمّة لم يفهَموا حقيقةَ الأمور، فعلماء الأمة الصادقون المخلصون الناصحون يدعون إلى الله، ويوضحون شرع الله، ويحذّرون الأمّة من مكائد أعدائها.
صانعي القرارات، والمسؤولون عن التخطيط لهذه الأمة، أبيّن لكم قول النبي : ((من استرعاه الله رعيةً، فمات يومَ يموت وهو غاشّ لرعيّته إلا حرّم الله عليه الجنة))[5]، وإن غشَّ الرعية يكون بأمور: إمَّا بعدم تعريفها بدينها وفقهها في أمور دينها، أو عدمِ إحاطتِها بالنصيحة والتوجيه، أو عدم حماية ثغورها والدفاعِ عنها، أو بعدمِ العدل وسياستها بالعدل، فالزموا العدلَ، وقوموا بالواجب، وتقرَّبوا إلى الله بذلك.
إنَّ لي وقفةً أخرى مع أولئك الذين باعوا دينَهم بدراهمَ معدودة وكانوا فيه من الزاهدين، مع الذين خانوا الله ورسوله وأماناتِهم، مع الذين تربَّوا في أحضان الأمة، فلمّا اشتد عودُهم عادوا على الأمة في أعزّ ما تملك، ألا وهو عقيدتها، شرقاً بهذا الدين، ومظاهرةً للأعداء، وحبًّا لتقويض دولة الإسلام، فاحذروا أولئك، وليعلمْ أولئك أنّ الله لهم بالمرصاد، يقول جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ فِى ٱلأَذَلّينَ كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ ٱللَّهَ قَوِىٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:20، 21].
حجّاجَ بيتِ الله الحرام، اشكُروا اللهَ على نعمِه المتتابعة وآلائه المترادفة، حيث يسَّر لكم الوصولَ إلى هذه البقاعِ الطاهرة، هذا البلدِ الأمين الذي أوجبَ الله على الأمة احترامَه وأمنَه، أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً ءامِناً وَيُتَخَطَّفُ ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العكبوت:67]، ومن همَّ فيه بظلم وفسادٍ عاقبه الله بمجرّد نيته السيئة، وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25].
حجاجَ بيت الله الحرام، إنّ من لطف الله أن هيَّأ لهذه المشاعر رجالاً صادقين ورجالاً مخلصين، أنفقوا الأعمارَ والأموال والإمكانياتِ في سبيل راحة الحجيج وأمنِهم، وإنَّ من الوفاء وعمل البرّ أن نتعاون معهم على البرّ والتقوى، وأن ندعوَ الله لهم بالتوفيق والسداد في كلّ ما بذلوا وعملوا، فجزاهم الله عن ذلك خيراً.
الزَموا السكينة في أداء الشعائر والمشاعر، وارحَموا الصغير الضعيف والكبير العاجز، وليكن هدفكم دائماً إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10].
أمة الإسلام، هذا يومُ عرفة، يومٌ من أفضلِ أيامِ الله، يقول فيه : ((ما من يوم أكثر من أن يعتق عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنّه ليدنو ويباهي بهم ملائكتَه))[6].
أيها المسلم، إنَّ الوقوفَ بهذا المشعرِ ركن أساسيّ من أركان الحج، النبي يقول: ((الحجّ عرفة))، يبتدئ هذا الوقوف من هذا اليوم إلى طلوع الفجر من ليلة جمع، يقول : ((الحجّ عرفة، من أتى جمعاً قبل أن يطلعَ الفجر فقد أدرك))[7].
أيّها المسلم، بعد أدائك لصلاة الظهر والعصر جمعاً وقصراً قِف بهذا المشعرِ العظيم، واجعَل غايةَ همّك ذكرَ الله ودعاءه والالتجاء إليه والتضرع بين يديه، وأكثر من "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير". تضرّع بين يدي الله في هذا اليوم العظيم، في عشية هذا اليوم ينزل الله إلى سمائه الدنيا فيباهي بأهلِ الأرض أهلَ السماء يقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبرا، وأشهِدكم أني قد غفرتُ لهم.
في هذا اليوم العظيم وقفَ نبيكم في هذا المكان، أتى إلى عُرنة فخطب بها أولاً خطبةً عظيمة وجيزة، حرَّم بها الدماءَ والأموال والأعراض، وألغى مآثر الجاهلية ومعاملاتها المخالفة للشرع، ثم صلَّى الظهر والعصر جمعاً وقصراً بأذان وإقامتين، ثم وقف على راحلته مستقبلَ القبلة يدعو الله ويرجوه ويتوسَّل إليه حتى غربت الشمس.
قِف بعرفة إلى غروب الشمس، ولا تنصرِف منها إلا بعد الغروب، اتباعاً لسنة نبيك ، فإنّه وقف بها إلى غروب الشمس، وقالَ: ((خالفَ هديُنا هديَ المشركين))[8]، وقال: ((وقفتُ ها هنا وعرفة كلّها موقف))[9].
ادفَع بعد الغروب إلى مزدلفة، وصلِّ بها المغرب والعشاء جمعاً وقصراً، بِت بها ولك الانصراف بعد نصف الليل، ولا سيما للعجزة، وإن أردتَ الكمالَ فصلِّ بها الفجر، وادعُ الله عند المشعر الحرام، ثم أفِض من مزدلفة قبل أن تطلعَ الشمس.
ارمِ جمرة العقبة، فإذا رميتَها فاحلق أو قصّر، والحلقُ أفضل، ثم قد حلّ لك كلّ شيء حرم عليك بالإحرام إلا النساء.
طُف بالبيت واسعَ بين الصفا والمروة إن كنت متمتعاً، وإن كنت قارناً أو مفرداً لم تسع مع طواف القدوم فاسع مع طواف الحج.
وبعد طواف الإفاضة والسعي مع الرمي والحلق فقد حلَّ لك كلّ شيء حرم عليك بالإحرام، وإن قدّمت شيئاً على شيء فلا حرج، فنبيّك يقول لمن قال له: حلقت قبل أن أرمي: ((ارم ولا حرج))، وما سئل يومئذ عن شيء قدِّم ولا أُخّر إلا قال: ((افعل ولا حرج))[10].
بِت بمنى ليلتَي التشريق الحادي عشر والثاني عشر إن تعجَّلت، أو الثالث عشر إن تأخَّرت.
ارمِ الجمار يومَ الحادي عشر والثاني عشر بعد زوال، ويستمرّ رميك إلى طلوع الفجر من الليلة الآتية، وإن تعجّلت فانصرِف قبلَ غروب الشمس في اليوم الثاني عشر، وإن تأخَّرت فاستمرَّ إلى أن ترميَها بعد الزوال في اليوم الثالث عشر.
ثم ودّع البيت، وأسأل الله لك حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً.
أيّها الحاج المسلم، أحسِن العملَ واجتنِبِ الإساءةَ، واحرِص على أن يكونَ فعلُك على ما يوافق هديَ محمد ، وتجنَّب ما يسبّب نقصانَه، أتبِع الحسنة بالحسنة، وكن بعد الحج خيراً منك قبل الحج، فمن علامة قبولِ الحسنة فعلُ الحسنة بعدها.
أمَّة الإسلام، تذكّروا هاذِم اللذات، تذكّروا ساعةَ الاحتضار ومفارقة هذه الدنيا، يوم تأتي الملائكة لقبض روح العبد، يومَ تتهيّأ النفس للخروج من ذلك الجسد الذي طالما عمرته، فالمؤمن يبشَّر بكلّ خير، تبشّره الملائكة بما يسرّه، فيزداد شوقاً لله، ويحبّ لقاءَ الله فيحبّ الله لقاءه، إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَفِى ٱلآخِرَةِ [فصلت:30، 31]. وغيرُ المؤمن في حسرة وندامة، إذا بشِّر بما يسوؤه كرِه لقاءَ الله، فكرِه الله لقاءَه، فمات على غيرِ الهدى والعياذ بالله.
تذكَّر ـ يا أخي ـ القبرَ ووحشتَه وظلمتَه، تذكَّر يومَ البعث النشور، تذكَّر يومَ الوقوف بين يدَي الحكَم العدل العلام الذي يقضِي بينَ عباده، ويكلّمهم ليس بينهم وبينه ترجمان، تذكّر يومَ تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابَه بيمينه وآخذ كتابَه بشماله، تذكَّر يومَ العبور على الصراط الذي هو أحرُّ من الجمر وأحدّ من السيف، تذكَّر يومَ المرور عليه، فناج مُسَلَّمٍ، ومخدوش ناجٍ، ومكردَس في النار، تذكَّر يومَ يُدعى المتقون إلى نعيم الله، وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]، وأصحاب النار يومَ يسحبون في النار على وجوههم: ذوقوا مسَّ سقر، تذكَّر تلك الأهوالَ كلَّها، فوالله كلُّ فردٍ منّا سيقف على تلك المواقف، فنرجو الله أن يختمَ لنا ولكم بخاتمة الحسنى، إنّه على كل شيء قدير.
أيّها المفتون في الحج، اتّقوا الله في أنفسكم، ولا تفتُوا إلا بما تعلمون أنّه حق، احمِلوا الناسَ على اتباع السنة، احملوهم على تطبيقها والعمل بها، اسلكوا بهم منهجَ محمد ، ((خذوا عني مناسككم))[11]، إيّاكم وشواذّ الفتيا، إيّاكم أن تفتوا الناسَ بما ينقِّص ثوابَ أعمالهم، اعلموا أنَّ اللهَ سائلكم عمَّا تفتون، فاحرصوا ـ رحمكم الله ـ على أن تفتوا بالحق وتقولوا الحق.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، اللهم ألِّف بين قلوبِهم...
[1] أخرجه القزويني في التدوين (1/173) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
[2] أخرجه مسلم في البر (2599) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[3] أخرجه مسلم في الإمارة (1920) من حديث ثوبان رضي الله عنه وليس فيه: ((ولا من خالفهم)).
[4] أخرجه البخاري في الأدب المفرد (300)، والترمذي في الزهد، باب: التوكل على الله (2346)، وابن ماجه في الزهد، باب: القناعة (4141) من حديث عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه، وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب" ، وله شواهد من حديث أبي الدرداء وابن عمر وعلي رضي الله عنهم، وحسنه الألباني في الصحيحة (2318).
[5] أخرجه البخاري في الأحكام (7151)، ومسلم في الإيمان (142) من حديث معقل بن يسار رضي الله عنه بنحوه.
[6] أخرجه مسلم في الحج (1348) من حديث عائشة رضي الله عنها.
[7] أخرجه أحمد (4/309)، والترمذي في الحج، باب: ما جاء فيمن أدرك الإمام بجمع فقد أدرك الحج (889)، وأبو داود في المناسك، باب: من لم يدرك عرفة (1949)، والنسائي في الحج، باب: فرض الوقوف بعرفة (3016)، وابن ماجه في المناسك، باب: من أتى عرفة قبل الفجر ليلة جمع (3015) من حديث عبد الرحمن بن يعمر رضي الله عنه، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح"، وصححه ابن الجارود (468)، وابن خزيمة (2822)، وابن حبان (3892)، والحاكم (1/463)، وهو في صحيح الترمذي (705).
[8] أخرج أبو داود في المراسيل (151) عن محمد بن قيس بن مخرمة مرسلا: ((فخالف هدينا هدي أهل الشرك والأوثان)).
[9] أخرجه مسلم في الحج (1218) من حديث جابر رضي الله عنهما.
[10] أخرجه البخاري في الحج (1736) ، ومسلم في الحج (1306) من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
[11] أخرجه مسلم في الحج (1297) من حديث جابر رضي الله عنهما بلفظ: ((لتأخذوا مناسككم، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه)).
الخطبة الثانية
لم ترد.
| |
|