molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: صور من البيوع المنهي عنها - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:18:56 | |
|
صور من البيوع المنهي عنها
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
وَبعَدُ: فَاتَّقُوا اللهَ ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ حَقَّ تُقَاتِهِ، اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغوا إليه الوَسِيلَةَ، واعْتَصِمَوا بِحَبلِه وَاسْعَوا إِلى مَرْضَاتِهِ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا [الأحزاب: 70].
أَيُّها النَّاسُ، شَرَائعُ الإسْلاَمِ بَعدَ تَوحِيدِ اللهِ وَإِخْلاَصِ العِبَادَةِ لَهُ نَوعَانِ: عِبَادَاتٌ وَمُعَامَلاَتٌ، فَالعِبادَاتُ هِيَ كُلُّ مَا يَكُونُ بَينَ العَبدِ وَرَبِّه مِنْ صَلاَةٍ وَصَومٍ وَزَكَاةٍ وَنَذْرٍ وَطَاعَةٍ للأوَامِرِ وَاجْتِنَابٍ للنّوَاهِي، وَالمعَامَلاتُ هِيَ مَا يَكُونَ بَينَ العَبْدِ وَبَينَ غَيرِهِ مِمَّا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مُعَامَلاتٍ، وَأَهَمُّهَا مَا يَتَعَامَلُ بِهِ النَّاسُ فِي مَجَالِ الأَموَالِ بِالبَيعِ وَالشِّرَاءِ وَالإِجَارَةِ وَنَحوِهَا، وَالمُسْلِمُ مُطَالَبٌ بِأَنْ تَكُونَ عِبَادَاتُهُ وَمَعَامَلاَتهُ صَحِيحَةً عَلَى المَنْهَجِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ وَبَيَّنَهُ رَسُولُهُ الكَرِيمُ ، وَلَمَّا كَانَ كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَهْتَمّ بِأَمرِ العِبَادَاتِ وَيَسأَلُ عَنْهَا وَيَحرِصُ عَلَى مَعْرِفَةِ أَرْكَانِهَا وَشُرُوطِهَا وَسُنَنِهَا وَمُسْتَحَبَّاتِهَا، وَهَذَا هُوَ المطْلُوبُ منَ المُسْلِمِ أَنْ يَعبدَ اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَأنْ يَتَقرَّبَ إليه بِمَا شَرَعَهُ وَعَلَى وَفْقِ مَا أُمِرَ بِهِ، لَكِنَّ الكَثِيرَ مِنَ النَّاسِ لاَ يَهتمُّ بِجَانِبِ المُعَامَلاَتِ مَع النَّاسِ بيعًا وَشرِاءً وَإجَارةً، مَع أَنَّ البَلِيَّةَ بِهَا عَظِيمَةٌ وَالسَّلاَمَةَ مِنَ الخَطَأِ فِيهَا أَصعبُ، وَهَذَا سَببُهُ جَهلُ النَّاسِ بِأَحْكَامِهَا وَظَنُّهم أَنَّ المُحَاسَبَةَ عَلَيهَا يَسِيرَةٌ.
أَيُّها الإخْوةُ، إِنَّ التَّعَامُلَ مَعَ النَّاسِ بَيعًا وَشِرَاءً وَنحَو ذلك أمرٌ خَطِيرٌ وَعَظيمٌ، وَلَقدْ جَاءَ الوَعِيدُ الشَّدِيدُ عَلَى مَنْ غَشَّ فِيها أَو خَدَعَ أَو أخذَ مَالَ أخِيه المُسْلِمِ بغَيرِ حَقٍّ، عَن أَبِي أُمَامةَ رَضِي اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ : ((مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينهِ فَقَدْ أَوجَبَ اللهُ لَهُ النَّارَ وَحَرَّمَ عَليهِ الجَنَّةَ))، فَقَالَ لَهُ رَجلٌ: وَإنْ كَانَ شَيئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((وَإنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ)) رَوَاهُ مُسلِمٌ.
وَاللهُ تَعَالَى حِينَ يَجْمَعُ العِبادَ يومَ القِيامةِ يَقْتَصُّ بحُكمِهِ وَعَدْلِهِ لِبَعْضِهم مِنْ بَعضٍ، فَلاَ يَدَعُ لِصَاحِبِ حَقٍّ حَقًّا، وَلاَ لمَظْلومٍ مَظْلَمَةً، حَتَّى يَقْضِي سُبحَانَهُ بَينَ الخَلاَئِقِ، وَيُؤتَى كُلُّ إنْسَانٍ كِتابًا لاَ يُغَادِرُ صَغِيرةً وَلاَ كَبيرةً إلاَّ أحْصَاهَا.
وَمِنْ عِظَمِ البَليَّةِ وَخَطَرِ المُصِيبَةِ أَنَّ فِئَامًا مِنَ النَّاسِ لاَ يُلقُونَ لِجَانِبِ المُعَامَلةِ مَعَ الآخَرِينَ بَالاً، فَرُبَّمَا تَرى الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاَةِ وَالصَّوِمِ وَالزُّهْدِ وَالعبَادَةِ، وَلَكِنَّهُ إِذَا بَاعَ أَو اشْتَرَى غشَّ وَخَدَعَ وَأَكَلَ أَمَوالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، بَلْ لرُبَّمَا احْتَالَ بِأنْوَاعِ الحِيَلِ عَلَى ذَلِكَ.
لَمَّا كَاَنَ الأَمرُ كَذِلِكَ ـ أَيُّهَا الإخْوَةُ ـ رَأينَا أَنْ نُنَبِّهَ عَلَى بَعضِ المُعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ الَّتِي تَكْثرُ بَينَ النَّاسِ، حَتَّى يَنْجُوَ المُسْلِمُ الحَرِيصُ مِنَ الُوقُوعِ في مَظَالمِ العِبَادِ، وَلِيَعْلَمَ النَّاسُ جَمِيعًا شَرعَ اللهِ، فَتَقُومَ عَليهمُ الحُجَّةُ، فَيعْلَمهُ مَنْ جَهِلَهُ، وَلَقْد كَانَ عُمرُ بنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه يَنْزِلُ إِلى السُّوقِ وَيَسألُ البَاعَةَ عن أَحكَامِ البَيعِ، فَإِذا رَآهُ جَاهِلاً بِهَا عَلاَهُ بِالدِّرَةِ فَضَربَهُ بِهَا، بَل رَوَىَ التِّرمِذيُّ بِسَندٍ حَسَنٍ عَنُه أَنَّه قَالَ: (لاَ يَبعْ فِي سُوقِنَا إلاَّ مَنْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ).
وَمَع ذَلِكَ فَقدِ انْتَشَرَتِ المُعَامَلاَتُ المُحَرَّمَةُ بَينَ التُّجَّارِ، وَفَشَتْ فِي الأسْوَاقِ، وَوَقَعَ النَّاسُ فِيهَا مَا بَينَ عَالمٍ بِحُرْمَتِهَا مُتَهَاوِنٍ بِهَا، وَبينَ جَاهِلٍ حُرْمَتَهَا، وَهِيَ أكثرُ مِنْ أَن تُحْصَى وَأَعظَمُ مِنْ أن تُحيطَ بِهَا خُطبةُ جُمعَةٍ، وَلَكِنَّ المُسلمَ الحَرِيصَ عَلَى صِيَانَةِ مَالِهِ مِنَ الحَرَامِ يَتَّعِظُ بِالقَلِيلِ وَيَسْأَلُ عَنِ المُشْتَبِهِ.
أَيُّهَا النَّاسُ، سُئلَ الشَّيخُ عَبدُ اللهِ بنُ عَبدِ الرَّحمنِ أَبَا بُطَينٍ مُفْتِي نَجدٍ فِي القَرْنِ الثَّالث عَشَرَ ـ كَمَا في الدُّرَرِ السَّنِيَّةِ ـ عَن صورِ البَيعِ المَنهيِّ عَنهُ، فذكرَ صورًا كَثيرَةً وَقَالَ: "هَذهِ خَمسُونَ صُورَةً جاءَ النَّهْيُ عَنْها فِي الصَّحِيحَينِ أو أَحَدِهِمَا". وَلَو جَلَسْنا نَتَتبَّعُ هَذِهِ الصُّورَ لَطَالَ بِنَا المَقَامُ، وَالخُطْبةُ إِذَا طَالتْ مَلَّهَا النَّاسُ وَأنسَى آخِرُها أوَّلَهَا.
أَوَّلُ هَذِه المُحَرَّمَاتِ الَّتي عَمَّتِ الأَسوَاقَ وَالْمعَامَلاَتِ: تَطْفِيفُ المَوَازِينِ وَالتَّلاَعُبِ بِالمَكَايِيلِ، وَهو أَمرٌ مُحرَّمٌ يَجِب البعْدُ عَنهُ وَالحَذرُ مِنهُ؛ لأنَّهُ مِنْ صِفَاتِ اليَّهودِ والنَّصَارَى، بَلْ إِنَّ جَزَاءَ المطَفِّفِينَ فِي المِكيَال وَالمِيزَانِ عَظِيمٌ عِندَ اللهِ؛ فَقد أَهْلَكَ أُمَّةً مِنَ الأمَمِ دَمَّرَهَا وَعَذَّبَهَا لأنَّهم كَانُوا يَبْخَسُونَ النَّاسَ فِي المِيزَانِ، وَمَا يَنْتَظرُهمَ فِي الآخِرَةِ أَعظَم، أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود: 85].
بَائعُ الذَّهبَ وَالمجَوهَرَاتِ يَبِيعُ بِأَكثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِزِيَادةٍ فَاحِشَةٍ، وَيَبِيعُ المَخْلُوطَ بِسِعرِ الخَامِ، فَإِذَا اشتَرَاهُ اشْتَرَاهُ خَالِصًا. وَالجَزَّارُ يَبِيعُ اللَّحمَ مَخْلُوطًا مَعَ العَظْمِ وَالشَّحْمِ وَيزِيد فِيهِمَا، وَغيرُهمْ كَثِيرٌ كَأَرْبَابِ الفَوَاكِهِ وَالخُضَارِ، وَمَنْ يَكُونُ المِيزانُ قِياسًا لِلبيَعِ عِنْدَهمْ.
وَمِنَ المعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ فِي البَيعِ وَالشِّرَاءِ: الغِشُّ وَالخَدِيعَةُ فِيهِ وَالمَكْر وَالكَذِبُ. عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ الله عَنهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ مَرَّ عَلَى صبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أََصَابِعُهُ بَللاً فَقَالَ: ((مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟)) قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسولَ اللهِ، قَالَ: ((أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوقَ الطَّعَامِ كَي يَرَاهُ النَّاسُ؟! مَنْ غَشَّنَا فَلَيسَ مِنَّا)) رَواهُ مُسْلمٌ.
قَالَ شَيخُ الإسْلاَمِ ابنُ تَيميَّةَ رَحمهُ اللهُ: "الغِشُّ يَدْخَلُ فِي البُيُوعِ بِكتْمَانِ العُيوبِ وَتَدْلِيسِ السِّلَعِ، مِثلَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرُ المَبيعِ خَيرًا مِنْ بَاطِنهِ كَالَّذِي مَرَّ عَلَيهِ النَّبِيُّ وأَنكَرَ عَلَيهِ، وَيَدخُلُ فِي الصِّنَاعَاتِ مِثلَ الَّذِينَ يَصنَعونَ المطعُومَاتِ مِنَ الخُبزِ والطَّبخِ وَالشِّوَاءِ وَغير ذَلِكَ، أَوْ يَصْنَعُونَ المَلبُوسَاتِ كَالنَّسَّاجينَ وَالخَيَّاطِينَ وَنحْوِهم، أَو يَصنَعونَ غَيرَ ذَلِكَ مِنَ الصِّنَاعَاتِ، فَيَجبُ نَهيهم عَنِ الغِشِّ وَالخِيَانَةِ وَالكِتْمَانِ".
وَيَكثُر مِثلُ هَذَا النَّوعِ فِي هَذَا الزَّمَانِ كَثَرةً وَاضِحَةً، فَمَا أَكثرَ مَنْ يَدَلِّسُ فِي البيَعِ فَيُظْهرُ الطَّيِّبَ وَيُخْفِي الفاسدَ عَنِ النَّاسِ. وَانْظُرُوا أسْوَاقَ الخُضَارِ وَأسَواقَ التُّمُورِ وَأسوَاقَ السَّيَّاراتِ، وَعندَ مَكَاتِبِ العَقَارِ مِنْ ذَلِكَ الشَّيء الكثير مِمَّا اللهُ حَسِيبُهم عَليه يَومَ القِيَامةِ.
عِبادَ اللهِ، وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ البَلْوَى فِي هَذِهِ الأيَّامِ كثرةُ الحَلِفِ في البيعِ والشِّراءِ، مِمَّا يجرُ البَائِعَ إلى الحَلِفِ كَاذبًا, وَالحديثُ عَنِ الحَلِفِ وَمَا يجرُّهُ عَلى صَاحِبِه منَ الوزرِ في الدُّنيا والآخرَةِ طَويلٌ، ويَكفِي في ذلك حَدِيثَانِ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَومَ القِيَامَةِ وَلاَ يَنظُرُ إليهم وَلاَ يُزَكِّيهم وَلَهمْ عذابٌ ألِيمٌ))، وَذَكرَ منهم: ((المنْفِقُ سِلْعَتَه بِالحَلِفِ الكَاذِبِ)) رَوَاهُ مُسلمٌ، وَرَوى مُسلمٌ وَالبُخَاريُّ: ((الحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعةِ مَمْحَقةٌ لِلبَرَكَةِ)).
وَمِنَ البيُوعِ المُحَرَّمةِ بَيعُ الإنسانِ مَا لَيسَ عِنْدهُ؛ بأنْ يَأتيَ مشترٍ إلى آخر وَيطلبَ منه سلعةً مُعَيَّنَةً وَهَذِهِ السِّلعَةُ غَيرُ مَوجُودَةٍ لَدَيهِ، فَيَتَّفِقَانِ عَلى العَقْدِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ، ثُمَّ يَذْهَبُ البَائعُ وَيشتَرِي هذهِ السِّلْعَةَ وَيُسَلِّمُهَا إلى المُشْتري. جَاءَ حَكِيمُ بنُ حِزَامِ رَضي الله عنه إلى رَسُولِ اللهِ فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ، إنَّ الرَّجُلَ لَيَأتِيني فَيُريدُ منِّي البَيعَ وَلَيسَ عندي مَا يطْلُبُ، أَفَأبِيعُ مِنُه ثُمَّ أَبتَاعُهُ مِنَ السُّوقِ؟ قالَ: ((لاَ تَبعْ مَا لَيسَ عِنْدَكَ)) رَوَاهُ الخَمْسَةُ بِسَندٍ صَحيحٍ.
يَقُولُ شَيخُ الإسْلاَمِ: "إِنَّمَا يَفعَلُهُ لِقَصدِ التِّجَارَةِ وَالرِّبحِ، فَيَبيعُهُ بِسعرٍ وَيَشْتَرِيه بِأَرخَصَ، وَقَد يَقدرُ عَليهِ وَقَدْ لاَ يَقْدرُ عَليهِ، وَقَدْ لاَ تَحصُلُ لَهُ تِلكَ السِّلْعةُ إلاَّ بِثمنٍ أعَلى مِمَّا بَاعَهُ فَينْدَمُ البَائعُ، وَقدْ تَحصُلُ بِثمَنٍ أقَلَّ مِن المتفَقِ عَليهِ فَيندمُ المُشْتَرِي". وَهَذهِ المُعَامَلَةُ تَبدُو وَاضِحَةً فِي تعَامُلاَتِ البنُوكِ الَّتِي يُسَوِّقُونَ لَهَا.
وَمِمَّا نَهَى عَنهُ مِنَ المُعَامَلاَتِ أَنْ يَبيعَ الإنسَانُ البِضَاعَةَ قَبلَ أَنْ يَنْقلَهَا، يَقُولُ ابنُ عُمرَ: ابْتَعتُ زَيتًا فِي السُّوقِ، فلَمَّا استَوجَبْتُهُ تَبِعَنِي رَجلٌ فَأعْطَانِي بِهِ رِبحًا حَسنًا، فَأَردْتُ أنْ أضَرِبَ عَلَى يَدِهِ، فَأخَذَ رَجُلٌ مِنْ خَلْفِي بِذرَاعِي، فَالتَفتُّ فَإذَا بِه زَيدُ بنُ ثَابت، فَقَالَ: لاَ تَبعْهُ حَيثُ ابْتَعتَهُ حَتَّى تُحرزَهُ إلى رَحْلكَ، فإِنَّ رَسُول الله نَهَى أنْ تُبَاع السِّلَعُ حَتَّى يَحوزَهَا التُّجَّارُ إلى رِحَالهم. رَوَاهُ أبو دَاودَ وَالحَاكِمْ وَابن حِبَّانَ بسندٍ حسنٍ.
وَصُورةُ ذلك: أن يشتري المرءُ البِضَاعَةَ ثُمَّ يَبدَأ في بَيعِهَا مَرَّةً أُخرَى قَبلَ أن يَنْقُلَهَا عَنِ المَكَانِ الَّذي اشترَاها فِيه، وأكثر مَا تَقَع فِيه هَذِه الصورة في سوقِ الخُضارِ وَسُوقِ الماشيةِ وَعَندَ أصحاب السَّيَّارَاتِ.
لاَ يَحلُّ البَيعُ عَلَى البَيعِ وَلا الشِّراءُ عَلَى الشِّراء وَلاَ السَّومُ عَلَى السَّومِ، يَقُول : ((لاَ يَبعْ بَعضُكم علَى بَيعِ بعضِ)) متفق عليه. وَصَورَهُ ثَلاثٌ:
الأولى: أَن يَشْتَرِيَ الرَّجَلُ السِّلعَة وَيَتِمُّ البَيعُ وَيَبقَى تَسليمُ النَّقدِ، فَيأتي بَائعٌ آخَرُ مَعَهُ نَفس السِّلعَةِ فَيَبيعُهَا عَلَيهِ بأقل من شِرائهِ السابقِ، فَيَتْركَ البَائعَ الأَوَّلَ وَيذْهَبَ إِلى الثَّاني، فَهَذَا مُحرَّمٌ لأَنَّهُ بَيعٌ عَلَى بَيعٍ.
والثَّانِيُة: أنْ يَتَسَاوَمَ مُتَبَايِعَان حَتَّى إِذَا تَقَاربَ اتِّفَاقُهُمَا يَأتي مُشْترٍ آخر يَزيدُ في الثَّمنِ، فيُبطِلُ شِرَاءَ المُشْتَري الأوَّل، فَهَذا حَرَامٌ لأنَّهُ شِراءٌ عَلَى شِرَاءٍ.
وَالثَّالثَة: أنْ يَتَزايدَ اثنَانِ عَلَى سِلْعةٍ وَيَتَّفقَانِ عَلَى البَيعِ، فَيأتي ثَالثٌ فَيقُولُ للبائع: أنَا أشْتَري منْكَ بأعَلى، فَهَذَا حَرَامٌ.
وَأكْثَرُ مَا تَقُعُ فِيه هَذِه الصُّورُ في أمَاكن الحَرَاج، وَيَقْرُبُ منه النَّجَشُ وَهو أنْ يَزيدَ في سعرِ السِّلْعِةِ حَال السَّوم عَلَيها وَهَو لاَ يريدُ شِراءَهَا، وَإنَّمَا يُريدُ نَفَع البَائعِ فَقط، وَغالبًا مَا يَكونُ بِمُواطَأَةٍ مَعهُ، وَلَقد نَهَى النَّبيُّ عَنِ النَّجشِ، وَقَالَ ابنُ أبِي أَوفَى: (النَّاجشُ آكلُ رَبًا خَائِنٍ).
عِبادَ اللهِ، لَقدْ اسْتَحْدَثَ النَّاسُ مُعَامَلاتٍ مَالِيَّةٍ يَكثرُ وُقُوع الحَرَامِ فِيهَا، وَمِنْ تِلكَ بطَاقَةُ البُنُوكِ الَّتِي يَحصُلُ بِهَا المَرْءُ عَلَى المَالِ مِنْ حِسَابِه فِي أيِّ مَكَانٍ، غَير أَنَّ ثَمَّةَ مُعَامَلاتِ مُحرَّمَةٍ يَقَعُ فِيهَا صَاحِبُهَا وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ، وَإيَّاكُمْ وَالخَوضَ فِي الدُّنْيَا وَنِسْيَانَ الآخِرَةِ، فَإِنَّ الحِسَابَ يَومَ القِيَامَةِ شَدِيدٌ.
أَقولُ هَذَا القَولَ، وأستَغْفُر اللهَ...
الخطبة الثانية
الحمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَبَاحَ لَنَا مِنَ المَكَاسب أَحَلَّهَا وَأقومَها بِمَصَالح العِبَادِ وَأَولاَهَا، وَحَرَّمَ عَلَينَا كُلَّ كَسبٍ مَبني عَلَى ظُلْمِ النُّفُوسِ وَهَواهَا، وأشهَدُ أن لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحدَه لاَ شَريكَ لَه بَيَّنَ لِلخَلْقِ طَرِيقَ الهِدَاية، وأشهد أنَّ محمدًا عَبدُهُ وَرَسولُهُ أَ+َى الخَليقَةِ مُعَامَلَةً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسليمًا كَثِيرًا.
أمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ أيُّهَا النَّاسُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ هَذِهِ الأَمَوالَ الَّتي بَينَ أيديكُم جَعَلَهَا اللهُ فِتْنةً لكُم، فِتنةً فِي تَحْصِيلِهَا وَفِتْنَةً فِي تَمْوِيلِهَا؛ فَأمَّا الفِتْنَةُ فِي تَحْصِيلِهَا فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِتحصِيلِهَا طُرَقًا مُعَيَّنَةً مَبْنيَّةً عَلَى العَدْلِ بَينَ النَّاسِ وَاسْتِقَامَةِ مُعَامَلَتِهم، بِحَيثُ تَكُونُ مِنْ وَجْه طَيِّبٍ لاَ ظُلْمَ فِيهِ وَلاَ عُدْوَانَ، وَلَكنْ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَم يَتَّقِ اللهَ وَلَم يُجْمِلْ فِي الطَّلَبِ، فَصَارَ يَكْتَسِبُ المَالَ مِنْ أَيِّ طَرِيقٍ أُتِيحَ لَهُ مِنْ حَلاَلٍ أَو حَرَامٍ، مِنْ عَدْلٍ أَو ظُلْمٍ، لاَ يُبَالِي بَمَا اكْتَسبَ، فَالحَلاَلُ عِندَهُ مَا حَلَّ بِيَدهِ، وَالحَرَامُ هُوَ مَا لم يَصِلْ إِليهِ، وَأصْبَحَ المالُ أَكْبَرَ هَمِّه وَشُغْلَ قَلْبِه وَنُصْبَ عَينِهِ، إِنْ قَامَ فَهُوَ يُفَكِّرُ فِيهِ، وَإن قَعدَ فَهُوَ يُفَكِّرُ فِيهِ، وَإنْ نَامَ كَانتْ أَحْلاَمُهُ فِيه، فَالمَالُ مِلء قَلْبهِ وَنُصْب عَينِهِ وَسَمْع أُذِنِهِ وَشُغْل فِكْرِهِ يَقَظَةً وَمَنامًا، حَتَّى عِبَادَاتُهُ لَم تَسْلَم؛ فَهُو فِي صَلاَتِه يَقيسُ الأرَاضِي وَيختارُ مِنَ السَّيَّاراتِ وَيُمايزُ بَينَهَا، كَأنَّمَا خُلِقَ لِلمَالِ وَحدَهُ، فَهُو النَّهِمَ الَّذِي لاَ يَشْبَعُ والمفْتُونُ الَّذي لاَ يقْلِع، وَمَعَ ذَلكَ الهَمِّ وَالفِتْنةِ فَلَنْ يَأتِيَهُ مِنَ الرِّزْقِ إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ، وَلنْ تَموتَ نَفْسٌ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ رِزْقَهَا وَأَجَلَهَا.
عِبادَ اللهِ، لاَ يَحمِلَنَّكُم حُبُّ المَالِ عَلَى المغَامَرَةِ في كَسْبِهِ وَجَمْعِهِ مِنْ غَيرِ طُرقِهِ، وإنَّ مِمَّا يَجْمعُ لِلنَّاسِ جَميِعًا مَعرفَةَ المُعَامَلاَتِ المُحَرَّمَةِ أّنَّ نَقُولَ: إِنَّ أَيَّ مُعَامَلَةٍ مَالِيَّةٍ خَلَتْ مِنْ ثَلاَثَةِ أُمُورٍ فَلا مَانِعَ مِنهَا، وَقَلَّ أَنْ تَجِدَ مُعَامَلةً مَالِيةً مُحرَّمَةً إلاَّ وَقَد اشْتَمَلَتَ عَلَى أحدِ هَذِهِ الثَّلاَثةِ، فَاعْلَمُوا هَذِه الثَّلاَثَةَ وَقيسوهَا عَلَى غَيرِهَا وَقِيسَوا غَيرَهَا عَلَيهَا: الغَرَرُ وَالرِّبَا وَالظُّلْمُ.
فَأمَّا الغَرَرُ فَيقُولُ عَنهُ الإمَامُ النَّوَوِيُّ: "النَّهْي عَنْ بَيْعِ الغَرَرِ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أصُولِ البُيُوعِ، وَيَدْخُلُُ فِيهِ مَسائِلُ كَثِيرَةٌ غَيرُ مُنْحَصِرَةٍ؛ كَبَيعِ الآبِقِ وَبَيعِ المَعْدُومِ وَالمَجْهولِ وَمَا لاَ يُقْدَرُ عَلَى تَسلِيمِهِ وَمَا لاَ يَتِمُّ مُلْكُ البَائِعِ عَلَيهِ، وَكَبَيعِ السَّمَكِ فِي المَاءِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرعِ وَالحَملِ فِي البَطنِ، وَنَظَائرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ، وكُلُّ هَذَا بَيعٌ بَاطِلٌ لاَ يَجوُز؛ لأنَّهُ غَرَرٌ مِنْ غِيرِ حَاجَة". وَالمَقْصُودُ بِالغَرَرِ هُوَ الجَهَالَةُ، فَأَيُّ بَيعٍ اشْتَمَلَ عَلَى جَهَالةٍ لأحد المُتَبَايعينِ فَهِيَ مُحرَّمَةٌ إلاَّ مَا عُفِيَ عَنْهَا.
وَالرِّبَا ـ أَيُّها النَّاسُ ـ بَابٌ وَاسِعٌ مِنْ أبوابِ المُعَامَلاتِ، وَصُورُه كَثِيرةٌ، وَوَقوعُ النِّاسِ فِيه كَثِيرٌ وَكَبِيرٌ.
وَغَالِبُ المُعَامَلاَتِ المحَرَّمَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الظُّلْمِ لأَحدِ المُتَبَايعَينِ، إِمَّا البائِعِ وَإِمَّا المُشتَرِي.
فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإِنَّ فِي الحَلاَلِ مَنْدَوحة عَنِ الحَرَامِ، وَقَدْ قَالَ : ((الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا أمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ)) متفق عليه، وَقَالَ: ((دَعْ مَا يَريبُكَ إِلى مَا لا يَرِيبُكَ)) رَوَاهُ أَحمْدُ والتِّرْمذِيُّ والنَّسَائيُّ. فَتَفَقَّهُوا فِي أمُورِ الدِّينِ، وَكُونُوا عَلَى بَصِيرَةٍ فِيهَا تَفُوزُوا وَتُفْلِحُوا.
اللَّهمَّ صَلِّ على محمد وعلى آل محمد...
| |
|