molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: السفر قطعة من العذاب - عبد الرحمن بن علي العسكر السبت 3 ديسمبر - 10:10:56 | |
|
السفر قطعة من العذاب
عبد الرحمن بن علي العسكر
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله سبحانه، فإن تقوى الله هي الزاد في الحال والسفر، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197].
عباد الله، إن السياحة في الأرض والتأمل في عجائب الكون مما يزيد العبد معرفة بربه عز وجل ويقينًا بأن لهذا الكون مدبرًا لا ربّ غيره ولا معبود بحقّ سواه. المسافر إذا سافر يتأمل ثم يتدبّر، وبعد ذلك كلّه يخشى الله سبحانه، وذلك حين يرى عجيب صنع الله في الكون وعظم قدرته، صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل:88]، ولقد أنكر الله على من فقد هذا الإحساس: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [يوسف:105].
عباد الله، إن السفر وقطع الفيافي والقفار أمر ذو بالٍ يحتاج إليه كل أمرئٍ مسلم، فما أكثر ما يسافر الناس لشؤون حياتهم، مادية كانت أو معنوية، ولقد سافر رسول الله مرات ومرات، إبان شبابه قبل البعثة وبعد نبوته، في حج وعمرة وجهاد أو تجارة.
السفر ـ عباد الله ـ يعرّي الإنسان من الأقنعة التي كانت عليه، وكانت تحجب طبيعته، بل ما سمّي السفر سفرًا إلا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، المرأة تسمّى سافرة إذا كشفت عن وجهها، وتسمّى المِكنسة مسفِرة لأنها تسفر التراب عن وجه الأرض.
عباد الله، تختلف مطالب الناس من السفر، فذاك طالب علم، وآخر سائح، وثالثهم طالب مال، بل إن من الناس من لا يجد رزقه إلا في السفر والذهاب والإياب، وعلى كلٍّ فإن السفر كغيره من الأمور ذو محاسن ومساوئ، فمن محاسنه أنه يفرّج الهم، فإن الله سبحانه قضى أن الملازم لمكان واحد أو طعام واحد يسأم منه، ولذلك اتُّخذت ألوان الطعام، وأطلِق التزويج بأربع نسوة، ورسم التنزُّه والتحوُّل من مكان إلى آخر.
في السفر ـ عباد الله ـ اكتساب المعيشة، تقول العرب: "البركات مع الحركات"، ويقول أحدهم: "صعود الآكام وهبوط الغيطان خير من القعود بين الحيطان". ما اكتُسبت العلوم والآداب والأخلاق إلا بالسفر، جابر بن عبد الله الصحابي الجليل سافر في طلب حديث واحد، ويقول أحد السلف: "لولا التغرّب ما ارتقى دُرّ البحور إلى النحور".
عباد الله، أعظم ما في السفر معرفة عظمة الله وقدرته مما يزيد على شكره وحمده، يقول الثعالبي: "من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار ومن بدائع الأقطار ومحاسن الآثار ما يزيده علما بقدرة الله عز وجل ويدعوه إلى تذكر نعمه".
ومن فوائد السفر أنه يرفع الإنسان من الذلّ إلى العزة إذا كان بين قوم لئام، فهذا رسول الله ناله من مشركي مكة ما ناله، فخرج منها مهاجرًا، وقال وهو على راحلته بعد أن خرج منها: ((والله، إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرِجت منك ما خرجت))، فهاجر إلى طيبة لما نبا المقام، فكان من أمره ما كان، ثم عاد إليها وفتحها الله عليه.
عباد الله، السفر ذو مساوئ كثيرة من أعظمها أنه هو العذاب حقّا، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((السفر قطعة من العذاب، يمنع أحدكم طعامه وشرابه ونومه، فإذا قضى نهمته فليعجل إلى أهله))، وأيّ عذاب أعظم من فقد الأحباب وتقطيع الأكباد واقتحام المخاوف؟!
أيها الإخوة، أرأيتم الزاني لما زنى وخالف فطرة الله جعل الله عقوبته أن يغرَّب عن بلده حتى يتجرَّع مرارة الغربة، ويفقد أحبابه وذويه، فلا يعود إلى ما كان يفعل، وها هم قطاع الطريق والمفسدون في الأرض لما خوَّفوا الناس في ديارهم عوقبوا بنقيض قصدِهم، فطرِدوا عن بلادهم حتى يعرفوا ضرر ما ارتكبوه، إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الأَرْضِ [المائدة:33].
سئل إمام الحرمين: لِمَ سمّى النبيّ السفرَ قطعة من العذاب؟ فأجاب على الفور: "لأن فيه فرقة الأحباب"، ويقول الحجاج بن يوسف: "لولا حلاوة الإياب لما عذَّبت أعدائي إلا بالسفر".
عباد الله، لا زال الناس منذ تقادُم العصور يذهبون ويغدون ويسيرون في أرض الله، بل لقد جعل بعض الناس السفر عادة عندهم، وكأنه أمر محتم عليه، فمنهم هذه الأيام من أعدّ عدته، ومنهم من ينتظر، وإن خير السفر ما كان في طاعة الله، كأن يكون سفرًا لأداء عبادة أو بر والد أو صلة رحم أو طلب علم، وأعظم منه سفر جهاد لإعلاء كلمة الله، أو سفر حج بيت الله الحرام، أو السفر لتحصيل قوت، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما السفر لمعصية فحرام، يأثم به صاحبه. كما لا يشرع أيضا مفارقة الأوطان وهجر المألوفات وترك الجمعة والجماعات والذهاب في الأرض والانقطاع عن الناس بدعوى التفرغ للعبادة، يقول الإمام أحمد رحمه الله: "ما السياحة من الإسلام في شيء، ولا من فعل النبيين ولا الصالحين؛ لأن السفر يشتت القلب، فلا ينبغي للمريد أن يسافر إلا في طلب علم أو نحو ذلك".
عباد الله، السفر في هذه الأزمان يختلف عن قرون مضت، فقد مهِّدت الطرق وأنشِئت العربات الآلية بشتى أنواعها المبدعة، فهي تسير بهم على الأرض إن شاؤوا، أو تقّلهم الطائرات السابحة في الهواء إن رغِبوا، أو تحملهم الفلك المواخر في البحر إن أرادوا، كما أن الأزمنة قد تقاصرت، فما كان يتمّ في شهور بشقّ الأنفس أضحى يتمّ في أيام، بل في ساعات قلائل، بل وبجهود محدودة، فلربما عطس رجل في المشرق فشمّته آخر بالمغرب، وما هذا إلا مصداق حديث النبي من أن تقارب الزمان من علامات الساعة كما رواه البخاري.
عباد الله، كل هذه الراحة، وكل هذه السرعة، وكل هذا التيسير، إلا أن الأخطار في الأسفار تزداد، بل هي أعظم منها في السابق، فمثلاً يركب الواحد منا طائرة يمتطي بها ثبج الهواء، معلق بين السماء والأرض، لا هو قريب من السماء فيتعلق، ولا هو في الأرض فيتمسك، بل هو بين مساومة الموت ومداعبة الهلاك، فوق قطعة حديد، ربما يكون مصيره معلقًا ـ بأمر الله ـ في خلخلة مسمار أو إعطاب محرك، وكل هذا ـ عباد الله ـ يؤكد وجوب الاحتماء بالله والتوكل عليه وفعل الأسباب الداعية إلى رعاية الله للمسافر، من مثل التأدب بآداب السفر، والبعد عن معصية الله في هوائه بين أرضه وسمائه، وإن تعجب فالعجب كلّه من مشركي زمان النبي من لجوئهم إلى الله في الضراء، فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوْا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت:65]، أما بعض عصاة زماننا فسرّاؤهم وضراؤهم على حدّ سواء، فقبحًا لقوم مشركو زمان النبي أعلم بلا إله إلا الله منهم.
عباد الله، لو أن رجلاً أمامه سفر طويل ينبغي أن يستعدّ له، ولو ركب طيارته أو امتطى سيّارته بدون عتاد أو عدة لحكم الناس بضعف عقله وقلّة خبرته وضياع أمره، فهكذا أنتم ـ أيها الناس ـ منذ أن خرجتم من بطون أمهاتكم إلى أن تقوم قيامتكم بالموت، وأنتم تستعدّون لسفرٍ لا سفرَ بعده، أمسَك الرسول بمنكب عبد الله بن عمر ثم قال له: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) رواه البخاري.
فالمؤمن ـ عباد الله ـ في هذه الدنيا بين حالتين: إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همّه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير مقيم البتة، بل هو ليله ونهاره يسير إلى بلد الإقامة، لا همَّ له إلا التزوّد بما ينفعه، لا ينافس أهل البلد في عزّهم، ولا يجزع من الذلّ عندهم.
فحيّ على جنات عدنٍ فإنهـا منازلنـا الأولى وفيها المخيّـم
ولكننـا سبي العدو فهل ترى نعــود إلى أوطاننـا ونسلم
وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغـرم
وأيّ اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكَّم
فاتقوا الله عباد الله، وتزودوا من ممركم لمقركم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق الفلك والأنعام، أحمده سبحانه، جعل النجوم زينةً في السماء ليهتدي بها الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إليه المنقلب والمآب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الإسلام قد عُني بالسفر عناية فائقة، فجعل له أحكامًا تخصه، بل لقد تفضل الله على عباده وخفّف عنهم من مشقة السفر بأن يسّر لهم العبادات، فالصلاة أمر أن تقصر، وليس من البر الصيام في السفر، بل لقد منّ الله منّة عظيمة، يقول الرسول : ((إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل مقيمًا صحيحًا)).
أمر المسافر أن يلتزم حال سفره بآداب، فإذا ركب راحلته قال ذلك الدعاء المعروف، وإذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
الشيطان أحرص ما يكون على المسافر، ولهذا أمر الرسول بالرفقة في السفر، يقول فيما رواه البخاري في صحيحه: ((لو تعلمون من الوحدة ما أعلم ما سار راكب بليل وحده))، وقال في الحديث الآخر: ((الراكب شيطان، والراكبان شيطانان، والثلاثة ركب)).
جاء رجل إلى رسول الله فقال: يا رسول الله، إني أريد سفرًا فأوصني، قال: ((عليك بتقوى الله، والتكبير على كل شرف)) رواه أهل السنن، وروى أبو داود والنسائي أن رسول الله ودع عبد الله بن عمر عند سفره فقال: ((أستودع اللهَ دينك وأمانتَك وخواتيم عملك)).
عباد الله، متى ما كان السفر ملهيًا عن طاعة الله أو مشغلاً عنها فلا خيرَ فيه، ولهذا نهي المسلم أن يسافر يوم الجمعة حتى لا تفوتَه الصلاة، وفي البخاري أن النبي قال لمالك بن الحويرث وصاحبٍ له: ((إذا كنتما في سفر فليؤذن أحدكما، وليؤمكما أقرؤكما لكتاب الله)). ألا فليعلم المسافرون أن صلاة الجماعة لا تسقط عنهم بحال.
عباد الله، نهى النبي المسافر أن يستصحِب في سفره مزامير، روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس))، وفي رواية: ((الجرس من مزامير الشيطان))، فما حال أناس جعلوا هجيراهم في حلهم وترحالهم سماع أصوات الخنا ومزامير الشيطان؟!
أيها الناس، روى أبو داود وابن ماجه والنسائي بإسناد جيد أن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى رسول الله يبايعه فقال: جئت لأبايعك على الجهاد، وتركت أبويّ يبكيان، فقال له رسول الله : ((ارجع إليهما، فأضحكهما كما أبكيتهما)).
ألا فاعلموا ـ أيها الشباب ـ أن الجهاد من أعظم العبادات، ومع ذلك اشترِط له إذن الأبوين، فكيف يطيب قلب شابٍّ أن يسافر بدون إذن أبويه؟!
ألا فاعلموا ـ عباد الله ـ أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد رسول الله ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا على نبي الرحمة وإمام الهدى محمد ، فقد أمركم الله بذلك فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]...
| |
|