molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: هل من متذكر؟! - عبد الرحمن بن علوش مدخلي السبت 3 ديسمبر - 4:36:02 | |
|
هل من متذكر؟!
عبد الرحمن بن علوش مدخلي
الخطبة الأولى
أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
أيها المؤمنون، يذكرنا المولى عز وجل بمذكرات كثيرة لنستعد للقائه سبحانه وتعالى، ولنأخذ أهبتنا واستعدادنا للقاء الأكبر، ولكي لا نهلك مع الهالكين ونكون يوم القيامة من الخاسرين، فالله تعالى يقول: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، ويقول سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، ويقول: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55].
إن المؤمن ـ يا عباد الله ـ يصاب بآفة الغفلة بمصائب الدنيا ولهوها وشهواتها، فيغفل عن رسالته في هذه الحياة، ويغفل عن الهدف الذي خلق من أجله، ويغفل عن الجنة وما أعد الله للمؤمنين فيها، ويغفل عن النار وما أعد الله للعصاة والكفار، ولكن المؤمن يتذكر ويعود إلى ربه عز وجل، إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201].
يمثل أحد السلف حالنا وحال الدنيا التي نحن فيها وحالنا مع الشيطان برجل أراد أن يدخل على أحد الملوك، فاعترضه كلب الوالي ومنعه من الدخول على الملك وتحرش به، وكان في يد هذا الرجل لقمة فأعطاها لهذا الكلب فانشغل بها، ثم فتح له الباب فدخل على الملك وقرب منه وأنس به. فالكلب هو الشيطان، واللقمة هي الدنيا، والملك هو الله سبحانه وتعالى. والشيطان يريد أن يمنعنا من الدخول على الله سبحانه وتعالى ومن القرب منه، ومن طاعته سبحانه وامتثال أمره، وتشغلنا هذه الدنيا الحقيرة.
ما هذه الدنيا بشيء يا عباد الله، ((لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرًا منها شربة ماء))، ((إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء)) رواه مسلم. هكذا يرشدنا النبي ويبين لنا حقارة الدنيا وأنها ليست بشيء، فيقول عليه الصلاة والسلام: ((ما لي وللدنيا؟! ما أنا في الدنيا إلا كراكب في ظل شجرة ـ أي: استظل في ظلها ـ ثم سافر وتركها)) رواه الترمذي وصححه الألباني.
وكان يوصي أصحابه بالتقلل من الدنيا، وأن يكون زاد أحدهم فيها كزاد الركب، كزاد المسافر، فيقول لابن عمر : ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) رواه البخاري، وكان ابن عمر يقول: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك).
هذه الدنيا ـ يا عباد الله ـ ليست بشيء، ولذلك الله سبحانه وتعالى يحذرنا منها فيقول: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16، 17]. هي خير لمن فقه حقيقة الدنيا وأنها ليست بشيء. وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ [الرعد:26].
ليست الدنيا بشيء، عن جابر بن عبد الله قال: مر النبي ذات يوم بالسوق والناس كنفتيه ـ أي: حوله ـ فنظر فرأى جديًا أسك ـ أي: صغير الأذنين ـ قال: ((أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟)) وكان هذا الجدي ميتًا أسكًا، ميتًا صغير الأذنين، قال: ((أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟)) قالوا: يا رسول الله، ما لنا فيه من حاجة، قال: ((أيكم يحب أن يكون له؟)) قالوا: لو كان حيًا لما رغبنا فيه، فكيف وهو ميت؟! قال: ((والله، للدنيا أهون على الله من هذا عليكم)) رواه مسلم.
ليست الدنيا بشيء يا عباد الله، عن المستورد بن شداد أن النبي قال: ((ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه في الْيَمِّ فلينظر بما يرجع)) رواه مسلم والترمذي واللفظ له.
ليست الدنيا بشيء، لا تزن الدنيا عند الله شيئًا، ليس لها قيمة.
هي الدنيا تقول بملء فيها: حذار حذار من بطشي وفتكي
فلا يغرركم مني ابتسـام فقولِي مضحك والفعل مبكي
لا يغتر بالدنيا إلا جاهل، لا يتهالك في الدنيا إلا من لا يفكر بالآخرة. هذه الدنيا كما يقول يحيى بن معاذ رحمه الله تعالى وهو من أئمة التابعين: "الدنيا خمر الشيطان، من سكر منها لا يفيق إلا في عسكر الموتى". لا يفيق إلا وقد مات حيث لا ينفعه الندم.
لننتبه يا عباد الله، فاليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، وكلنا راحلون إلى الله سبحانه وتعالى، يقول وهب بن منبه رحمه الله تعالى: "إنما الدنيا والآخرة كرجل له ضرتان، إذا أرضى إحداهما أسخط الأخرى". فمن نرضي يا عباد الله؟!
إن الدنيا ليست بشيء، لو كانت الدنيا ـ يا عباد الله ـ ذهبًا يفنى والآخرة خزفًا يبقى لكان العاقل اللبيب هو من يفضل الخزف الباقي على الذهب الفاني، فكيف والدنيا خزف يفنى والآخرة ذهب يبقى؟! كيف يفضل الخزف الفاني على الذهب الباقي يا عباد الله؟! كيف نتهالك على الدنيا ونحن راحلون عنها؟! متاع الغرور هي الدنيا التي تلهي الإنسان عن الآخرة.
كيف يكون حال المسلم في هذه الدنيا؟ ينبغي أن تعيش الدنيا في يدك لا في قلبك، فلا تحب من أجلها، ولا تبغض من أجلها، ولا توالي من أجلها، ولا تعادي من أجلها، فليست الدنيا بشيء، إنما هي متاع يبلغك إلى الدار الآخرة، يبلغك إلى الله سبحانه وتعالى، فانصرف عنها ولا تتهالك فيها، وتذكر حقارتها وأنها لو كانت عند الله تزن جناح بعوضة لما سقى منها الكفار، ولما نَعِمَ فيها الظالمون والمتجبرون، ولو كان لها قيمة عند الله سبحانه وتعالى لما كان أولئك النفر من الطغاة والمتجبرين في أعلى الدرجات، والأنبياء والصالحون يبيت أحدهم لا يجد قوت يومه وليلته، تقول عائشة رضي الله عنها لابن أختها عروة بن ال+ير : يا ابن أختي، والله لقد كان يمر الهلال تلو الهلال تلو الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، ولا يوقد في بيت رسول الله نار، قال: يا خالة، فماذا كان طعامكم؟! قالت: الأسودان: التمر والماء. رواه البخاري ومسلم. ثلاثة أشهر في بيت خير خلق الله قاطبة، في بيت خير من خلق الله محمد ، وتقول أيضًا: ما شبع آل محمد من خبز الشعير ليلتين متواليتين حتى لقي ربه عز وجل. رواه البخاري.
هكذا كان أفضل الخلق الذي عرضت عليه الدنيا كلها فأباها وطلقها، عرضت عليه أن تكون له جبال الدنيا ذهبًا فأبى، وقال: ((أجوع فأتذكر الفقير والمسكين)).
الدنيا دار للآخرة، وهي دار ممر وليست بدار مقر يا عباد الله، ليتذكر الإنسان الموت وما أعده الله تعالى للمؤمنين بعد ذلك في الدار الآخرة، ليتذكر المسلم من هلك من آبائه وأجداده، ليتذكر القبور وليزر القبور، ويتذكر أنه لا بد أن يكون في يوم من الأيام في هذا المنزل رضي بذلك أم لم يرض.
تذكُّر الموت ـ يا عبد الله ـ وتذكر القبر وأهواله والقيامة وأهوالها من الأمور التي لا ينبغي أن يغفل عنها المسلم الذي يرجو لقاء ربه عز وجل. خرج النبي ذات يوم على أصحابه فقال: ((لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرًا ولضحكتم قليلاً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى)) رواه الطبراني والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني وأصله في مسلم. ((لو تعلمون ما أعلم))، هكذا يرشدنا النبي إلى أن نتعظ، وأن نستعد للقاء الله سبحانه وتعالى.
عن البراء بن عا+ قال: بينما كنا مع النبي ذات يوم إذ مر بجماعة مجتمعين فقال: ((على ما اجتمع هؤلاء؟)) قالوا: اجتمعوا على قبر يحفرونه، قال: فانسلّ النبي من بيننا وذهب وجلس على شفا القبر، على حافة القبر، قال البراء: فنظرت إليه فإذا عيناه تدمعان وقد بَلَّ الثرى، وهو يقول: ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)) رواه ابن ماجه وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه. ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)). هكذا يقول النبي المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، هكذا يقول خير من خلق الله، الذي هو خير الخلق على الإطلاق: ((عباد الله، لمثل هذا فأعدوا)).
وعن هاني مولى عثمان بن عفان يقول: كان عثمان إذا ذكرت الجنة والنار لا يتأثر، فإذا ذكر القبر بكى حتى نرحمه، فقيل له في ذلك! فقال: إن القبر أول منازل الآخرة، ويقول سمعت النبي يقول: ((ما رأيت منظرًا قط إلا والقبر أفظع منه)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
لنتذكر ـ يا عباد الله ـ من مات من أسلافنا لنعرفَ حقيقة الدنيا، أنها ليست بشيء، ولنتذكر أهل القبور.
صـاح هذه قبورنـا تملأ الرحبـا فأيـن القبور من عهد عـاد
سر إن استطعت في السماء رويـدًا لا افتخارًا على رفات العباد
ربَّ قبـر قد صـار قبـرًا مـرارً ضاحكًا من تزاحم الأضداد
ودفيـن علـى بقـايـا دفيـن مـن قديـم الزمان والآماد
هذه الدنيا يا عباد الله، لا بد أن نتذكر الموت دائمًا وأبدًا.
حكم المنية فِي البريـة جاري ما هذه الدنيـا بدار قرار
بينا يُرى الإنسان فيهـا مُخبرًا حتَّى يُرى خبَرًا من الإخبار
جبلت على كدَر وأنت تريدها صفوًا من الأكدار والأقذار
يا ابن العشرين، تذكر الأقران الذين رحلوا. يا ابن الثلاثين، تذكر أن الشباب قد ولى ورحل. يا ابن الأربعين، قد بلغت سن الرشد فتهيأ للقاء ربك عز وجل. يا ابن الخمسين، قد انتصفت المائة وقربت إلى الله. يا ابن الستين، قد أوشكت أن تكون من الموتى. يا ابن السبعين، لا عذر لك فتهيب للقاء ربك سبحانه وتعالى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد: يا عباد الله، يتذكر أحدنا وقد ونفخ في الصور وخرج الناس لرب العالمين، وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ وَأَشْرَقَتْ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الزمر:68، 69]. مثل نفسك ـ يا عبد الله ـ وقد خرجت من قبرك عاريًا حافيًا، وقد سمعت الصيحة التي اهتزت لها السماوات والأرض، تنظر ها هنا وها هنا فلا ترى إلا صائحًا فزعًا خائفًا من الموقف الأعظم، من الموقف الكبير، من الموقف العظيم.
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما لعبوا وناموا
فقبر ثم حشر ثُمّ نشر وميزان وأهوال عظـام
لو تأمل الإنسان هذه الأمور لما استلذ بهذه الحياة الدنيا, ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((يحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راهبين راغبين، ورجل على بعير ورجلان على بعير وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير وعشرة على بعير، وأما الباقون فتحشرهم النار إلى المحشر تقيل معهم حيث قالوا وتبيت معهم حيث باتوا)) رواه البخاري ومسلم.
تأمل أن الناس يحشرون في ذلك اليوم العظيم، تخيل الحشر وعرصاته, تخيل النجوم وقد تناثرت, تخيل السماء وقد فطرت وتشققت, تذكر القبور وقد تناثرت, تذكر العشار وقد عطلت, تذكر النفوس وقد زوجت, تذكر كل شيء يا رعاك الله، وتأمل في ذلك الموقف العظيم، تأمل الصراط والميزان والهول والحشر وما إلى ذلك من الأمور والأهوال العظام التي لا بد أن يمر بها الناس رضوا بذلك أم لم يرضوا. تذكر ساعة الحشر وعرصات القيامة، وأن الناس يحشرون في ذلك اليوم العظيم الأهوالِ، التي تغمرهم فيه الشمس ويغمرهم فيه العرق إلى أنصاف آذانهم، وكل منهم يرجو الله تعالى أن يتم القضاء لما يرى فيه من أهوال. تخيل الميزان وقد جيء بالخلق لتوزن أعمالهم وأنت لا تدري أتكون ـ يا عبد الله ـ من الناجين أم من الهالكين؟ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. تأمل الحساب يوم أن يحاسب الناس، يوم أن يحاسب الخلق، ويحاسب العبد على كل صغيرة وكبيرة، الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يس:65].
تأمل ـ يا رعاك الله ـ وأنت في ذلك الموقف العظيم كما جاء في الأثر، تقول لأحب الناس إليك لولدك: أي بني، أريد حسنه أثقل بها موازيني، فيقول: يا أبتي، إني أخاف مما تخاف، وتقول لزوجتك: يا زوجتي، إني أريد حسنه واحدة أثقل بها موازيني، فتقول: إني أخاف مما تخاف، وعند ذلك يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:34-37].
تذكر الصراط وقد وضع على شفير جهنم، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة, وحوله كلاليب تخطف الناس كشوك السعدان، فسالم ومكردس في نار جهنم، والأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه لا يقولون إلا: اللهم سلم سلم , اللهم سلم سلم.
تذكر النهاية يا عباد الله، إما إلى جنة وإما إلى نار، وثمة حياة سرمدية أبدية، ((يا أهل الجنة، حياة ولا موت. يا أهل النار، حياة ولا موت)). هل تأمل ذلك أحدنا يا عباد الله؟! إلى متى يعيش الإنسان في الآخرة؟! مائة سنه؟! مائتي سنه؟! ألف سنه؟! مليون سنه؟! لا نهاية يا عباد الله، ((يا أهل الجنة، حياة ولا موت. يا أهل النار، حياة ولا موت)). أيفرط أحدنا ويضيع ملايين السنين بل يضيع سنين لا نهاية لها من أجل متاع زائل في دنيا زائلة لا تسوى عند الله شيئا؟! أيضيع ذلك النعيم المقيم الذي لا يوصف أبدًا؟! عن المغيرة بن شعبه مرفوعا: ((قال موسى عليه السلام: يا رب، من أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال: يا موسى، رجل يؤتى به وقد دخل أهل الجنة الجنة، فيقول له: ادخل الجنة، فيقول: يا رب، كيف أدخلها وقد نزل الناس منازلهم؟! فيقول له الله: يا عبدي، أترضى أن يكون لك مثل ملك من أهل الدنيا؟ فيقول: رضيت يا رب، فيقول: لك مثله ومثله ومثله ومثله خمس مرات, فيقول في الخامسة: رضيت يا رب، رضيت يا رب، فيقول: هذا لك وعشر أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك، فيقول: رضيت رب. هذا أدنى أهل الجنة منزلة وآخر أهل الجنة دخولا. قال: يا رب فمن أعلى أهل الجنة؟ قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها، فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر)) رواه البخاري بمعناه مختصرًا ومسلم، ((لموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها)) رواه البخاري. موضع السوط من الجنة خير من الدنيا وما عليها! ((إن من أهل الجنة من يسير في ملكه ألفي سنه لا يقطعه)) رواه أحمد والحاكم. ألفا سنه وهو يسير في ملكه لا يقطعه!.
الجنة أعدها الله للمؤمنين، فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر أبدا، هل نضيع هذا ـ يا عباد الله ـ بسبب دنيا فانية؟! أننسى ذلك كله وننسى النار أيضا وما فيها من العذاب؟! كما جاء في الحديث الصحيح: ((إن أقل أهل النار عذابا رجل له نعلان من نار جهنم يغلي منهما دماغ رأسه)) رواه مسلم. هذا أقل أهل النار عذابا على الإطلاق، من له نعلان من نار جهنم يغلي منهما دماغ رأسه. نار جهنم ((يؤتى بها يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك)) رواه مسلم. هذه النار التي ((أوقد عليها ألف عام حتى احمرت، وأوقد عليها ألف عام حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف عام حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة)) رواه الترمذي والبيهقي في الشعب والأصبهاني في الترغيب والترهيب. أعاذنا الله وإياكم من حرها.
هل نتذكر هذه الأمور يا عباد الله؟! هل ننسى هذه الأمور؟! قال أبو هريرة : كنا ذات يوم عند النبي فسمعنا وجبة ـ أي: صوتا كبيرا ـ فقال : ((أتدرون ما هذا؟)) قلنا: لا يا رسول الله، قال: ((هذا حجر ألقي من شفير جهنم منذ سبعين عاما، فالآن حيث وصل إلى قعرها)) رواه مسلم. منذ سبعين سنه ألقي هذا الحجر في نار جهنم، وظل نازلا سبعين عاما ووصل إلى قعرها يا عباد الله! لا تنسنا الدنيا أهوال يوم القيامة، لا تنسنا الدنيا أهوال القبور، لا تنسنا الدنيا الآخرة وما أعد الله فيها للمؤمنين وما أعد الله فيها للعصاة، ليحاسب كل منا نفسه، فاليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
ولنعلم يقينا أننا راحلون عن هذه الدنيا رضينا بذلك أم لم نرض، فالعاقل من يستعد للقاء ربه عز وجل، فيوم القيامة لا يقول العبد إلا نفسي نفسي. نسأل الله تعالى أن يعيننا على الدنيا وأهوالها ومصائبها وشهواتها، وأن يجعلنا ممن يستعدون للقاء الله بالعمل الصالح، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ألا وصلوا وسلموا على خير الخلق محمد بن عبد الله عليه من ربه أفضل الصلاة وأتم التسليم، إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد...
| |
|