الأذى برسول الله - عبد الرحمن بن الصادق القايدي

الأذى برسول الله

عبد الرحمن بن الصادق القايدي

الخطبة الأولى

أيها المؤمنون، حديثنا اليوم عن صبر ومعاناة نبينا محمد على الطغاة الذين آذوه، وتعاونوا على حرب الإسلام، ووقفوا في وجه دعوته ، وصبره عليهم حتى نصره الله وأيده.

أحد هؤلاء الطغاة الأشقياء كان قد آمن بمحمد وأعلن إسلامه، ولكنه تأثر بجلساء السوء وجاملهم، وكان عاقبته أنه ارتد عن الإسلام وكفر. هذا الشقي هو عقبة بن أبي معيط، كان يكثر من مجالسة الرسول بمكة، ويعجبه حديثه، وكان كلما سافر ثم رجع من سفره دعا أصحابه إلى تناول طعام وليمة يصنعها لهم احتفاءً بعودته سالمًا. ودعا ذات مرة رسول الله إلى طعامه بعد أن رجع من سفره، فأتاه النبي طمعًا في إسلامه، فلما حضر الطعام وقدّم إلى الضيوف أبى رسول الله أن يأكل من الطعام حتى يشهد له بالرسالة وأنه رسول الله؛ لأنه كان يرى منه الأنس واللطف والانفتاح، فشهد له عقبة بالرسالة وقال: أشهد أنك رسول الله وأنك صادق فيما تقول، فأكل رسول الله من طعامه. وكان لعقبة هذا صديق حميم لم يحضر الوليمة لأنه كان مسافرًا، واسمه أبيّ بن خلف أحد صناديق الكفر ودعاة الضلالة، فلما رجع من سفره أخبره بعض من حضر الوليمة أن عقبة صديقه الوفي الحميم قد أسلم ودخل في دين محمد ، فغضب غضبًا شديدًا وعزم على مقاطعته وعلى أن لا يكلمه أبدًا لأنه اتبع محمدًا ودخل في دينه. وجاء إليه ذات يوم وهو مكفهرّ الوجه غضبان وقال له: يا عقبة، بلغني أنك قد صبأت ـ أي: أسلمت ـ ودخلت في دين محمد، فقال له عقبة: هون عليك فإني لم أصبأ ولم أدخل في دين محمد، وإنما دخل علي رجل عظيم أمين صادق وأبى أن يأكل من طعامي حتى أشهد له بالرسالة، وأنا أعلم صدقه، فشهدت له بذلك، شهدت أنه رسول الله وأنت تعلم أن محمدًا لا يكذب، وما جربنا عليه كذبة قط، فقال له صديقه الشقي أبي بن خلف ـ وتأملوا أثر الصديق السيئ على صديقه كيف يحرفه عن الحق، هم متأكدون بأنه نبيّ صادق ولا يعرف الكذب، ومع ذلك يعاندون عياذًا بالله ـ فقال له: وجهي من وجهك حرام ـ أي: لا أراك ولا تراني ولا أكلمك أبد الدهر ـ حتى تأتي محمدًا فتردّ عليه دعوته وتبصق في وجهه وتشتمه وترجع إلى دين آبائك وأجدادك. أراد عقبة أن لا يخسر صديقه الشقي وأن لا يقطع صلته به، وأن يرجع عن إقراره لمحمد بالنبوة، فجاء إلى رسول الله وقال له: أنا كافر بدينك منكر لرسالتك، وأراد أن يبصق في وجه الرسول ولكن البصاق ارتد على وجهه العفن. وبعد أن ارتد عن الإسلام اشتد أذاه على رسول الله ، فكان يضمر له العداوة وينال من رسول الله بلسانه ويده، كل ذلك لكي يظهر لقومه وصديقه أبيّ بن خلف أنه فعلاً تخلّى عن دين محمد ولم يعد له صلة بالإسلام بالكلية؛ ليرضي بذلك قومه المشركين.

روى البخاري عن عروة بن ال+ير أنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله ، فقال: بينما النبي يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه، فخنقه خنقًا شديدًا، فأقبل أبو بكر مسرعًا، وأخذ بمنكب رسول الله ، ودفع الظالم عن النبي وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! فتوجه المشركون إلى أبي بكر وضربوه ضربًا مبرحًا حتى أغمي عليه، وشُغلوا به عن النبي .

ومن جرائم عقبة هذا أيضًا أن المشركين كانوا في المسجد الحرام ذات يوم، وكان فيهم سبعة من رؤساء الطغيان والكفر يتحدثون في الحجر حجر إسماعيل، فيهم أبو جهل وشيبة وعتبة وعقبة هذا الخبيث وصديقه أبي بن خلف ورجلان آخران، ورسول الله كان قد دخل المسجد الحرام ليصلي فيه، فتآمروا بينهم على الرسول الكريم، فقال أبو جهل اللعين: أيكم يذهب إلى سلا جزور بني فلان ـ أي: فرث وكرش وبقايا جمل ـ فيضعه بكل ما فيه من قاذورات ونجاسة على ظهر محمد إذا هو سجد، فانطلق أشقى القوم عقبة بن أبي معيط، فأتاهم به ووجد الرسول ساجدًا، وكان إذا سجد أطال السجود، فألقاه على ظهره وهو ساجد، وجعل الأشقياء السبعة يتضاحكون ويتمايلون على بعضهم بعضًا من شدة الضحك لهذا المنظر: الرسول ساجد وعلى ظهره الكريم القذارة والنجاسة من هذا الكرش، يقول ابن مسعود: وأنا أشاهد المنظر وقلبي يتقطّع من الألم لا أستطيع أن أتكلّم، ولا أستطيع أن أدفع الأذى عنه، فلم يكن لي منعة تمنعني من بطشهم.

انظروا، هذا هو الإرهاب والطغيان والإجرام الذي يتكرّر من معظم كفار اليوم على إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان، وهو ظاهر في فلسطين وفي غزة بالذات، قتل ودمار وتقتيل وتضييق وحصار والعالم الإسلامي في غيبوبة إلا من رحم الله من الشعوب الحرّة المؤمنة التي لا تخاف في الله لومة لائم.

وبلغ الخبر خبر وضع النجاسة على ظهر سيد البشر إلى ابنته السيدة فاطمة الزهراء رضي الله عنها، فجاءت مسرعة ورفعت الأذى عن رسول الله ، وأخذت تلعنهم وتسبهم، فلما قضى رسول الله صلاته رفع يديه ودعا عليهم، فقال: ((اللهم عليك بقريش ـ ثلاث مرات ـ، اللهم عليك بأبي جهل وعتبة وشيبة وعقبة بن أبي معيط)) وفلان وفلان، وخص بالدعاء السبعة الذين كانوا يتضاحكون ويستهزئون به. يقول ابن مسعود: فوالله، لقد رأيت الذين ذكرهم ودعا عليهم رسول الله صرعى يوم بدر، وقد ألقيت جثثهم في قليب نتن ألقوا فيه كما تلقى الجيف، ووقف رسول الله وصار يناديهم بأسمائهم: يا فلان بن فلان واحدًا واحدًا، ((هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقًا، فقد وجدت ما وعدني ربي حقًا))، فجاء عمر رضي الله عنها وقال: يا رسول الله، أتكلم أقوامًا قد جيفوا أي: أصبحوا جيفًا منتنة، فقال له : ((ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون جوابي)).

وفي هذا الشقي وأمثاله نزل القرآن الكريم يواسي رسول الله ويخبره بهلاكهم في القريب العاجل وأن عاقبة الصبر الفلاح، قال تعالى: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: ٩٤-٩٩].

إخوة الإسلام، نستخلص من هذه المواقف من نبيّنا عبرًا كثيرة، لا سيما صبره على الأذى؛ لأنه بشر مثلنا، وقال له الله: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ [الحجر: 97]، فكيف تعالج هذا الضيق؟ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ [الحجر: 98]، ربّنا قادر أن ينتقم منهم فورًا، وقد انتصر لنبيه في مناسبات كثيرة، منها حينما خرج مهاجرًا ووضع الترابَ على الواقفين على بابه، وحينما أعلمه جبريل بأن اليهود يريدون أن يلقوا عليه الصخرة وهو جالس تحت الجدار، ومحاولة تسميمه من اليهودية... إلخ، ولكن الهدف أن يتعلم النبيّ الصبر، ويعلمنا نحن كيف نقتدي بنبينا ونصبر، وأن الله سبحانه هو الذي يقدر ويفعل ما يشاء ويختار، ونحن ليس لنا من الأمر شيء، فعلينا العمل بما أمر الله به ونبيّه ، ونصبر والله لا يخلف الميعاد حيث قال: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [الروم: 60]، وقال: وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126]، وقال عن الصابرين وجزائهم: إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: ١١١].

نفعني الله وإياكم بالقرآن والسنة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله ينير بصائر المهتدين بهداه، أحمده سبحانه ونسأله أن نكون جميعًا ممن تولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، وضع أسس العدل بين الأمة وحارب الطغيان، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فيا أيها المسلمون، أبي بن خلف هذا أحد طواغيت الكفر والطغيان، وهو الذي تسبب في شقاء صديقه عقبة بن أبي معيط، فحرفه عن الإيمان إلى الكفر. ذهب ذات يوم إلى رسول الله بعظم بالٍ نخر، ووقف أمام النبي هازئًا ساخرًا، ثم قال له: يا محمد، أتزعم أن الله يحيينا بعد أن نموت ونصبح عظاما بالية نخرة مثل هذا العظم؟! وفتّ العظم بين يديه، فإذا به يتناثر ذرات، والمشركون ينظرون ويتضاحكون، فقال له النبي : ((نعم، سيميتك الله، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم)).

وفي هذا الشقي الجاحد الكافر نزلت هذه الآيات الكريمة: أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس: 77-79].

ودارت الأيام، وكان هذا الشقي كلما أبصر النبي يقول له مهددًا ومتوعدًا: يا محمد، إن عندي فرسًا أعلفه كل يوم صاعين من ذرة، أقتلك عليه، فيرد عليه المصطفى: ((بل أنا أقتلك إن شاء الله)). ففي غزوة أحد لما ارتبك المسلمون ولم يبق مع النبي إلا عدد يسير أدركه الخبيث أبي بن خلف وهو يصيح: أين محمد؟ لا نجوت إن نجا، فأراد الصحابة أن يقتلوه، فقال لهم النبي : ((دعوه يقترب مني))، وتناول رسول الله الحربة من الحارث بن الصمة، فلما صارت في يده انتفض انتفاضة تطاير عنها من حوله من الناس تطايُرَ الشعر عن ظهر البعير، ثم استقبله فطعنه في ترقوته من بين الدرع والخوذة التي تلبس على الرأس طعنة أليمة، تدحرج بها عن فرسه وهو يخور خوار الثور ويقول: قتلني محمّد وربّ الكعبة، فقالوا له: والله، ما بك من بأس، إنما هي خدشة يسيرة تزول، فقال لهم وهو يصرخ ويبكي: إنه قال لي في مكّة: ((أنا قاتلك إن شاء الله))، فوالله لو بصق عليّ لقتلني.

الله أكبر! تذكر الخبيث ما قال له صديقه أبي بن خلف أن يبصق في وجه محمّد، فأشعره الله بالذلّ والهوان وأنّ بصقة من محمّد سوف تقتله، فمات عدو الله في الطريق وهم راجعون إلى مكة، وهذه نهاية كل طاغية مستبد ومستهزئ برسول الله أو بدينه، سواء كان النبي حيًا أو ميتًا.

فاللهم صل وسلم على إمام المتقين وسيد الأولين والآخرين الذي صبر على الأذى حتى أتاه اليقين وانتصر به الدين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وانصر من نصر الدين، اللهم عليك باليهود والنصارى والطغاة والمنافقين...