molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: اليابان والزلزال - وحدتنا غاية شرعية - عبد الحكيم بن راشد الشبرمي الخميس 24 نوفمبر - 8:23:39 | |
|
اليابان والزلزال - وحدتنا غاية شرعية
عبد الحكيم بن راشد الشبرمي
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى ٱلأرْضِ مُفْسِدِينَ. أقبلوا على ربكم بصدق القلوب، واحذروا الخطايا والذنوب، لعل الله أن يثبِّت لكم في الصادقين قَدَما، ويكتب لكم في التائبين ندما.
عبادَ الله، قدرةُ الله لا يعرف البشر كيف تعمل، فهم يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها ولا طريقتها في العمل! يقع ما يريده اللهُ في كونه بيسرٍ لا مشقّةَ فيه ولا عسر، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ، يكفر بعجائب هذا الكون، العجائبِ التي يُفقدنا الإلْفُ جِدَّتَها وغرابتَها وإيحاءاتِها للقلب والحسّ، وهي دعوةٌ للإنسان أن يرتادَ هذا الكونَ كالذي يراه أولَ مرّةٍ؛ مفتوحَ العين متوفِّزَ الحسّ حيَّ القلب.
وكم في هذه المشاهد المكْرورة من عجيب! وكم فيها من غريب! وكم اختلجت العيون والقلوب وهي تطلع عليها أول مرة ثم ألفتها ففقدت هزة المفاجأة ودهشة المباغتة وروعة النظرة الأولى إلى هذا الخَلْقِ العجيب! تلك السماوات والأرض، هذه الأبعاد الهائلة والأجرام الضخمة والآفاق المسحورة والعوالم المجهولة، إنّ قلبَ المؤمن يتلقّى هذا الخلقَ وتتجدّد في حسِّه هذه المشاهدُ ويظلّ أبدا يذكر قدرةَ اللّهِ فيها فيتلقّاها في كلِّ مرّة بروعةِ الخلقِ الجديد.
عبادَ الله، هذه الحياة من أين جاءت؟ كانت كامنة في الحبة والنواة! ولكن من أين جاءت إلى الحبة والنواة؟ أصلها؟ مصدرها الأول؟ إنه لا يجدي الهرب من مواجهة هذا السؤال الذي يلح على الفطرة!
لقد حاول الملحدون تجاهل هذا السؤال الذي لا جواب عليه إلا وجود خالق قادر على إعطاء الحياة للموات، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ.
وحاولوا طويلا أن يوهموا الناس أنهم في طريقهم إلى إنشاء الحياة بلا حاجة إلى إله! ثم أخيرا إذا هم في أرض الإلحاد الجاحد الكافر ينتهون إلى نفض أيديهم والإقرار بما يكرهون: استحالة خلق الحياة! وأعلم علماء روسيا الكافرة في موضوع الحياة هو الذي يقول هذا الآن! ومن قبل راغ غيرُه من مواجهة هذا السؤال!
إنه لا يكفي -أيها المسلمون- أن تقول نظريةٌ ما تقوله عن أسباب هبوب الريح، وعن طريقة تكون السحاب، إن السر الأعمق هو سر هذه الأسباب، سر خلقة الكون بهذه الطبيعة وبهذه النسب وبهذه الأوضاع، التي تسمح بنشأة الحياة ونموها وتوفير الأسباب الملائمة لها من رياح وسحاب ومطر وتربة، سر هذه الموافقات التي يعد المعروف منها بالآلاف، والتي لو اختلت واحدة منها ما نشأت الحياة أو ما سارت هذه السيرة، سر التدبير الدقيق الذي يشي بالقصد والاختيار، كما يشي بوَحدة التصميم ورحمة التدبير، إنّ في ذلك لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
نعم، لو ألقى الإنسان عن عقله بلادة الإلْفِ والغفلة، فاستقبل مشاهدَ الكون بحسٍّ متجدِّد، ونظرةٍ مستطلعة وقلبٍ نوّره الإيمان، ولو سار في هذا الكون كالرائد الذي يهبط إليه أول مرة تلفتُ عينَه كلُّ ومضة، وتلفِت سمعَه كلُّ نأمة، وتُلفِت حسَّه كلُّ حركة، وتهزّ كيانَه تلك الأعاجيبُ التي تتوالى على الأبصار والقلوب والمشاعر، وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ.
إنَّ هذا هو ما يصنعه الإيمان، هذا التفتح، وهذه الحساسية، وهذا التقدير للجمال والكمال، إنّ الإيمانَ رؤيةٌ جديدة للكون، وإدراك جديد للجمال وحياة على الأرض في خَلْقٍ من صنع اللّه، آناءَ الليلِ وأطراف النهار، ومع هذا فإنّ هناك من لا ينظر ولا يتعقّل، فيحيد عن التوحيد الذي يوحي به تصميمُ الوجود، والنظرُ في وحدة الناموس الكونيِّ العجيب! وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ.
انظر -عبدَ اللهِ- إلى أصحابِ التجرِبةِ اليابانيّة، كيف يَحارُون ويتحوّرون! ويَقْلَقون وحُقَّ لهم ما يفعلون. كيف أنّهم في هِزَّةٍ عنيفةٍ مداها ثوانٍ معدودةٌ لا تكاد تُعَدُّ صاروا في عِدادِ المنكوبين والمضطرِّين! زلزالٌ بحريٌّ عنيف يعقبه تلاطمُ الموجِ وتَسارُعُ الريحِ المرسلةِ بقَدَرِ الله، فيكون ما ليس في حُسْبانِ البشر، فسبحانك يا رب! يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
وقد قال حاكمُ (طوكيو): "إنّ ما أصابنا غضبةٌ إلهيّةٌ؛ لأنّ اليابانيين فيهم أنانيّةٌ بشعةٌ". سبحان اللهِ! وشهد شاهدٌ من أهلها. ألا فأين مَنْ ينكرون ارتباطَ سُنَنِ الكون بما يفعله العبادُ من ظُلمٍ وعِصيانٍ فوق الأرض؟! إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ.
وهذا الحدثُ يُنْبينا أنّ القوى العظمى كما يسمّونها هَباءٌ منبثٌّ أمامَ قدرةِ اللهِ وسطوتِه، والعبدُ المؤمنُ الممدودُ بحبلٍ من الله لا يمكن أنْ يخشى قوى الشرِّ والفسادِ مهما عَتَتْ وتجبَّرت، فماذا لها أنْ تفعل؟! إنّ البشرَ حينًا يبالغون في تهييب قوّةٍ معيّنة، وتخويفِ الناسِ بها وهي ذاتُها ضعيفةٌ عاجزةٌ تتكشَّف عند أقربِ سبب! وقد يخافها بعضُ الناس؛ لأنّ غيرَه يَعُدّها آلهةً تُخَافُ وتُرْهَب! وكيف يخاف آلهةً عاجزة كائنةً ما كانتْ هذه الآلهة، وقدْ تتبدّى أحيانا في صورة جبّارين في الأرض بطّاشين، وهم أمام قدرةِ اللّه مهْزولون مضْعوفون! كيف يخاف مؤمنٌ هذه الآلهةَ الزائفةَ العاجزة، ولا يخافون هم أنّهم أشركوا باللّه ما لم يجعل له سلطانا ولا قوةً من الأشياء والأحياء؟! وأيُّ الفريقين أحقُّ بالأمن: الذي يؤمن بالله ويكفر بالشركاء، أم الذي يشرك باللّه ما لا سلطانَ له ولا قوّة؟! فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
بارك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والذكر الحكيم، وأستغفر اللهَ لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو أرحمُ الراحمين.
الخطبة الثانية
أمّا بعد: فيقول اللهُ جلّ في علاه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ، أي: لا تختلفوا فتجْبُنوا ويذهبَ نصرُكُم! وتذهبَ ريحُكم أي: قوّتُكم ودولتُكم كما قاله المفسِّرون.
وهي في سياقِ المَنِّ على رسولِه وهو في قوّةٍ بعد ضعفٍ مع أصحابِه رضي الله عنهم، وهو نداءٌ للمسلمين مِن بعدهم، فلمّا عرّفهم اللهُ بنعمِه ودلائلِ عنايتهِ في الآياتِ قبلها، وكشف لهم عن سرٍّ من أسرار نصرِه إيّاهم، وكيف خذل أعداءَهم وصرفهم عن أذاهم، فاستتبَّ لهم النصرُ مع قلّتهم وكثرةِ أعدائهم، أقبل في هذه الآية على أنْ يأمرهم بما يهيئ لهم النصر في المواقع كلّها، ويستدعي عناية الله بهم وتأييدَه إيّاهم، فجمع لهم في هذه الآية ما به قِوامُ النصرِ في الحروب.
أمرهم بأعمال راجعة إلى انتظام جيشهم وجماعتهم، وهي علائق بعضهم مع بعض، وهي الطاعة وترك التنازع، فأمّا طاعة الله ورسوله فتشمل اتّباع سائر أحكام القتال المشروعة بالتعيين مثل الغنائم، وكذلك ما يأمرهم به الرسول من آراء الحرب، كقوله للرُّماة يوم أحد: ((لا تبرحوا من مكانكم ولو تَخَطَّفَنَا الطيرُ)). وتشمل طاعةُ الرسول طاعةَ أمرائه في حياته، لقوله: ((ومن أطاع أميري فقد أطاعني)).
وأمّا النهي عن التنازع فهو يقتضي الأمر بتحصيل أسباب ذلك: بالتفاهم والتشاور ومراجعة بعضهم بعضًا، حتّى يصدروا عن رأي واحد، فإن تنازعوا في شيء رجعوا إلى أمرائهم وعلمائهم لقوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ، وقوله: فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءْ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ، والنهي عن التنازع أعمُّ من الأمر بالطاعة لوُلاَة الأمور؛ لأنّهم إذا نُهوا عن التنازع بينهم فالتنازع مع ولي الأمر أَوْلَى بالنهي. ولمّا كان التنازعُ من شأنه أن ينشأ عن اختلاف الآراء، وهو أمر مرتكز في الفطرة بسَطَ القرآنُ القولَ فيه ببيان سيّئ آثارِه. والتنازع يفضي إلى التفرّق، وهو يوهن أمرَ الأمّة.
ثم أمرهم بالصبر، والصبرُ عُدَّةٌ عظيمة؛ لأنّ الصبرَ هو تحمّلُ المكروهِ وما هو شديدٌ على النفس، وتلك المأمورات كلّها تحتاج إلى تحمّل المكاره، فالصبر يجمع تحمُّلَ الشدائدِ والمصاعب. ولا ينكر أحدٌ منفعة الصبرِ الإلهية، وهي إعانةُ اللهِ لمن صَبَرَ امتثالًا لأمرِه، وهذا مشاهَدٌ في تصرفات الحياةِ كلِّها، وقد قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ.
فأمر اللهُ بالتعاون في إقامةِ الدنيا والدين، فيصير كلُّ فردٍ من الأمة مُعِينًا للآخر، أما إذا حصل التفرّقُ والاختلاف فذلك مُفْضٍ إلى ضياع أمور الدّين في خلال ذلك الاختلاف، ثم هو لا يلبث أن يُلقِيَ بالأمّة إلى العداوة بينها، وقد يجرّهم إلى أن يتربَّصَ بعضُهم ببعضٍ الدوائرَ!
ومَن استَقْرَأَ الشَّرِيعَةَ الْربَّانِيّةَ في بابِ وَحْدَةِ الكَلِمَةِ واجْتِماعِ الْقُلُوْبِ، وَالتَّحذِيرِ منِ اخْتِلَافِهَا وَتَفَرُّقِهَا؛ تَبَيَّنَ له عظيمُ احتفائها بذلك، في سيرةِ المصطفى ، وفي تشريعِه لأمّتِه، فالمؤاخاةُ مثلا جعلتْ غُرَباءَ الدار إخْوةً للأنصار، وكان يطفئُ فتيلَ أيِّ خلافٍ بينهم قبلَ الاشتعال ولا يتهاونُ في ذلك أبدا. فشدّد على أحدِهم فقال في نزاعٍ بينه وبين أخيه كما في الصحيحين: ((أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيْكَ جَاهِلِيَّةٌ)).
وهذا يُقال في العبادات والمعاملات والآداب، بل حتى في باب العقوبات لمن تأمّله، فنجد الشريعةَ تَحْرَصُ على التعاون والاجتماع، ففي الصلاة فُضِّلتِ الجماعةُ وسُوِّيتِ الصفوفُ، وفي الصيامِ يجوع الغنيُّ ليشعرَ بالفقير، وفي ال+اةِ تجتمع القلوبُ ويفرح الفقيرُ بعطاءِ أخيه، وفي الحجِّ تستوي المظاهرُ وتجتمع القلوب والأجسادُ في صعيدٍ واحد، وفي غيرها لا يبيع الرجلُ على بيعِ أخيه، ولا يخطِبُ على خِطْبتِه، وفي الحدود حفظٌ للكلمةِ وصيانةٌ للأعراضِ والدماء. فسبحانَ اللطيفِ الخبير! إِنَّ الَّذِيْنَ فَرَّقُوا دِيْنَهُمْ وَكَانُوْا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ.
أيها المباركون، وَإِذَا عُلِمَ شَأْنُ وَحْدَةِ الْكَلِمَةِ فِي الْشَّرِيعَةِ، وَالْنَّهْيُّ عَنِ الْفُرْقَةِ فَإِنَّ مِنْ كَيَاسَةِ الْعَقْلِ وَكَمَالِ الْفَهْمِ أَن لَا يَنْسَاقَ المَرْءُ إِلَى مَنْ يُرِيْدُ تَصْدِيْعَ هَذِهِ الْوَحْدَةِ؛ لِمَا يَرَاهُ ظُلْمًا قَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ، أَوْ حَقًّا لَمْ يُؤَدَّ إِلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَقَدَ بَعْضَ حَقِّهِ حَالَ الْوَحْدَةِ فْسَيَفَقِدُهُ كُلَّهُ إِذَا وَقَعَتِ الْفُرْقَةُ، وَلَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عِرْضِهِ وَلَا مَالِهِ. وَإِذَا كَانَ أَهْلُ السِّيَاسَةِ قَدْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنَّ الْحُقُوْقَ تُنْتَزَعُ وَلَا تُوْهَبُ؛ فَإِنَّ الْإِرْشَادَ الْرَّبَّانِيَّ الَقُرْآنيَّ أَثْبَتُ وَأَنْفَعُ لِلْنَّاسِ وَهُوَ قَوْلُ الله تَعَالَىْ: وَأَطِيْعُوْا اللهَ وَرَسُوْلَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيْحُكُمْ وَاصْبِرُوَا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِيْنَ [الْأَنْفَالِ: 46]، فَوَحْدَةُ الْكَلِمَةِ سَبَبُ كُلِّ خَيْرٍ، كَمَا أَنَّ افْتِرَاقَهَا سَبَبُ كُلِّ شَرٍّ، وَلَا سِيَّمَا مَعَ كَثْرَةِ المُتَرَبِّصِينَ، وَتَسَارُعِ الْأَحْدَاثِ، وَتَوَتُّرِ الْأَوْضَاعِ الْإِقْلِيمِيَّةِ وَالْدُّوَلِيَّةِ، وَاتِّسَاعِ الْهَرْجِ فِي الْبَشَرِ.
اللهم أصلح فسادَ المسلمين...
| |
|