molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قبلة المسلمين - صالح بن عبد الله بن حميد الأربعاء 16 نوفمبر - 10:15:21 | |
|
قبلة المسلمين
صالح بن عبد الله بن حميد
الخطبة الأولى
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل فعليكم بتقوى الله فالزموها، وبادروا بالأعمال الصالحة والتزموها، الزمان يطوي مديد الأعمار، وكل من عليها راحل عن هذه الدار، التسويف لا يورث إلا حسرة وندماً، وطول العمر لا يُعقِبُ إلا هرماً وسقماً، فواعجبًا لنفوس طال على الدنيا إقبالها وغلُظ عن الآخرة إعراضها وإهمالها أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
أيها المسلمون: لقد ولَّى الحجاج وجوههم شطر ديارهم، تقبل الله منا ومنهم، وجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً وذنبهم مغفوراً وبلّغهم أهلهم وديارهم سالمين غانمين وأعاذهم من سوء المنقلب في المال والأهل. ولكن حين ولّوا وجوههم شطر بلادهم، هل انقطع ارتباطهم بالبيت الحرام؟ إنهم لن يزالوا مع إخوانهم المسلمين أجمعين يولّون وجوههم شطر المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [البقرة:150].
معاشر المسلمين: جعل الله البيت الحرام مثابة للناس وأمناً، وجعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس.
ارتباط المسلم ببيت الله وبالقبلة ليس مقصورًا على أشهرٍ معلومات ولا محصورًا في أيام معدودات، ولكنه ارتباط دائم ووشائج لا تنقطع. المسلم يبدأ يومه ويستفتح عمله كما يختم نشاطه بالتوجه إلى البيت الحرام حين يقف بين يدي ربه قائماً يؤدي الصلوات الخمس موزعةً بانتظام في يومه وليلته، ينتظم مع إخوانه المسلمين حيثما كانت مواقعهم وأينما كانت ديارهم، ناهيكم بالنوافل والأدعية والأذكار التي يُشرع فيها استقبال البيت الحرام، فهذه صور وهيئات لا حصر لها يتفاوت فيها المسلمون ويتنافس فيها الصالحون، بيت الله المحرم هو الوجهة الدائمة التي ترافق العبد المؤمن في كل حياته، ليس مرتبطاً بموسم ولا محصوراً في فريضة، بل حتى حين يوّسد في قبره دفيناً فإنه يوجّه إلى البيت الحرام فهي قبلتكم أحياءً وأمواتاً.
تأملوا حفظكم الله هذه الآيات الثلاث: قول الله عز وجل: قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي ٱلسَّمَاء فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَـٰبَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ ٱلْحَقُّ مِن رَّبّهِمْ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ [البقرة:144]. وتأملوا قوله سبحانه: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة:149]. وقوله سبحانه: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:150].
يا ترى، ما هو السرُّ في التكرار لمعظم هذه الكلمات في هذه الآيات؟ أُمر النبي باستقبال البيت في هذه الآيات ثلاث مرات، وأُمر المسلمون مرتين، وتكرر قوله سبحانه: وإنه للحق من ربك ثلاث مرات، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات. ما ذلك كله إلا لتأكيد عِظم هذا التوجه والتنويه بشأن استقبال الكعبة المعظمة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريرًا للحق في نفوس المسلمين ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ [البقرة:147].
أيها المسلمون: إن أبعادًا كثيرةً لهذا التوجه قد غابت عن حياة كثير من المسلمين اليوم فأصبح الأمر عندهم أقربَ للعادةِ منه للعبادة.
إن تولية الوجوه نحو البيت تقتضي الحضور الدائم لمعاني الولاء والموالاة ومعاني الصلاة والحج وأسرارهما، وكلِ عبادةٍ مرتبطةٍ باستقبالِ هذا البيت المعظم.
يُولّي المسلم وجهه شطر المسجد الحرام ليسير مع التاريخ بماضيه ويستصحبه في حاضره ليتذكر تاريخ البيت وبناء البيت على التوحيد الخالص والملة الإبراهيمية الحنيفية.
يُولّي وجهه شطر البيت ليرى كيف هدَّ الإسلام بنيان الجاهلية وقواعدها.
يُولّي وجهه شطر الكعبة المشرفة ليتذكر ألوان العذاب التي لقيها المسلمون المستضعفون في ظلها وعلى جنباتها، والنبي يقول لهم مطمئناً ومثبتاً ومؤكداً: ((والله ليتمّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)) إنه النصر الذي لا بد أن يتم بإذن الله من خلال صحيح الإيمان وعزمات البشر، والخضوع للسنن الإلهية في النصر والهزيمة ولكنّ قومًا يستعجلون.
الجالس قبال بيت الله يدرك حكمة الدعوة وتربية الناس في مثل قوله : ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه)) [مخرج في الصحيحين من حديث أبي هريرة ]. وفي مثل قوله : ((لولا أن قومكِ حدثاء بالكفر لنقضت البيت ثم بنيته على قواعد إبراهيم)) [أخرجه البخاري وغيره].
كل هذه الاستحضارات والتأملات من أجل أن لا يُكذّب الله ورسوله، ومن أجل أن تُسلك مسالك الحكمة في الدعوة والفقه والتعليم والتربية.
أيها المسلمون: وحكمة أخرى تتجلى حين التأمل في التوجه نحو بيت الله المحرم واستقباله.
ذلكم أن المقصود بالعبادات كلها تمام الخضوع لله فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هَـٰذَا ٱلْبَيْتِ [الماعون:3]. وبمقدار استحضار المعبود وعظمته وجلاله يقرب العبد من مرتبة الإحسان، فالإحسان: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) فكان التوجه إلى المسجد الحرام وإلى القبلة مساعدة على هذا الاستحضار العظيم.
العبادات والشعائر لا تؤدى بالنية المجردة ولا بالتوجه القلبي والروحي وحدهما، ولكنّ هذه العبادات لها صفاتها وهيئاتها من القيام والقعود والركوع والسجود والأقوال والأفعال والاتجاه نحو القبلة، وكذلك الإحرام والطواف والحركة والسعي والدعاء والتلبية والنحر والرمي والحلق والتقصير وهكذا: في كل عبادة حركة وفي كل حركة عبادة، عبادات تجمع بين الماديات والمعنويات ليتأكد الارتباط بين ظاهر النفس وباطنها.
إن ثمة رغبة فطرية بشرية للربط بين الأشكال الظاهرة والقوة الباطنة، فانحرفت فئات من البشر فعبدوا الأحجار والأشجار والحيوان والشمس والقمر والأفلاك، وجاء الإسلام يلبي دواعي الفطرة؛ فشرع من الأقوال والأفعال والحركات، مع تجريد كل ذلك لله وحده، فيتوجه العبد بجسده إلى القبلة والكعبة ويُوّلي وجهه شطر المسجد الحرام، ولكنه في ذات الوقت يتوجه إلى الله بكليته بقلبه وجوارحه وَلِلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ [البقرة:115].
سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَاء مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّـٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِى كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لّلَّهِ ٱلْمَشْرِقُ وَٱلْمَغْرِبُ يَهْدِى مَن يَشَآء إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ [البقرة:142]. إن المسلمين حين يتجهون إلى القبلة فإنما يتوجهون نحو التميز والاختصاص، فالقبلة رمز للوحدة والتوحيد، ورمز لتميز الشخص المسلم، وحّد الله هذه الأمة في ربها ونبيها ودينها وقبلتها، وحّدها على اختلاف أوطانها وأجناسها وألوانها ولغاتها، وحدة قيامها العقيدة والقبلة: عقيدة القلب وقبلة العبادة.
ولقد جاء في الحديث الصحيح: ((من صلَّى صلاتنا واستقبل قبلتنا فذلك المسلم)) [مخرج في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه].
أمة وسط في الدين والاعتقاد لا تغلوا في التجرد الروحي ولا في الارتكاس المادي، ولكنها الفطرة في روحٍ متلبسة بجسد، وجسد تتلبس به روح، وتُطلِقُ كل نشاط في تهذيب بلا إفراط ولا تفريط، قصد وتناسق واعتدال، ومن أجل هذا جاء في هذا السياق كله قول الله سبحانه: ٱلْحَقُّ مِن رَّبّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ [البقرة:147]. ما جاءنا من ربنا هو الحق، والدين الذي نحن عليه هو الحق، فلا نستفتي أحدًا في ديننا ولا نتبع غير أهل ملتنا في شأننا، ولا نقبل من أعدائنا القول في تاريخنا وتراثنا ولا نسمع إليهم في دراساتهم عن قرآننا وحديث نبينا، إنه الجد الصارم والحق الجلي الذي تضمحل أمامه الأقاويل والأباطيل.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا ٱللَّهُ بِغَـٰفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِى وَلاِتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَـٰتِنَا وَيُزَكِيكُمْ وَيُعَلّمُكُمُ ٱلْكِتَـٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ فَٱذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ [البقرة:149-152].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله أعطى فأجزل، ومنَّ فأفضل، أحمده سبحانه وأشكره، أتمَّ علينا النعمة ورضي لنا الدين وأكمل، وأتوب إليه وأستغفره من التقصير فيما أقول وأعمل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هو الظاهر والباطن والآخر والأول، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبد الله ورسوله صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر والخلق الأفضل صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما ليل أدبر وصبح أقبل وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: يُوّلي المسلمون وجوههم شطر المسجد الحرام ليبرز من خلال ذلك وحدة المسلمين وجماعتهم، التفافٌ حول هذا البيت من خلال عمود الإسلام الصلاة المفروضة، والتي تبدأ بأهل الحي وتنتهي بالتجمع الأعظم يوم الحج الأكبر، صلاة الجماعة قاعدة وأساس، وصلاة الفرد فذٌّ واستثناء، جاء في الحديث في حديث أُبي بن كعب في قوله : ((صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده وصلاته مع الرجلين أ+ى من صلاته مع الرجل وكلما كثر فهو أحب إلى الله)) [أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه بإسناد حسن].
المؤذن للصلاة هو داعي الجماعة ((أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: أجبه لا أجد لك رخصة)) وصلاة الجمعة صورة ليس لها نظير في تجمعٍ يجمع على الصلاة والموعظة والنصيحة ومعالجة القضايا؛ ليتأكد استمرار الجماعة على الجادة الراشدة. وشعائر العيدين تجمع مشهود يحضره الرجال والنساء حتى ربات الخدور، جماعة وبهجة في ظلِّ الالتزام بخلق الإسلام، ويأتي التجمع الأخطر والاحتفاء الأكبر حين يُؤذَنُ في الناس بالحج.
وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ [الحج:27]. تجمع عظيم لا يعوقه اختلاف الألسنة والألوان ولا تشعب الأعراق وتباعد الأوطان، فعقيدة الإسلام في سهولتها وفطرتها وحنيفيتها. وقبلة المسلمين في قداستها تؤكد هذا الرباط الوثيق من الأخوة والود لينطقوا جميعاً بلسان عربي مبين (لبيك اللهم لبيك) إنهم جميعا في موقف العبودية لله وحده إِنَّ هَـٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [الأنبياء:92].
ألا فاتقوا الله رحمكم الله واعرفوا نعمة الله عليكم في دينكم وعباداتكم وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ ٱلْكِتَـٰبِ وَٱلْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ [البقرة:231].
ثم صلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة؛ نبيكم محمد رسول الله فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز قائلاً عليماً: إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أزواجه أمهات المؤمنين وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وإحسانك وجودك يا أكرم الأكرمين.
| |
|