molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: عبادة الرب وعمارة الأرض - صالح بن عبد الله بن حميد الأربعاء 16 نوفمبر - 4:23:05 | |
|
عبادة الرب وعمارة الأرض
صالح بن عبد الله بن حميد
الخطبة الأولى
أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيّها الناس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رَحمكم الله، فللتقوى علامات، ومن علاماتها القوّة مع الدين، والحزم مع اللين، والعطاء مع الحقّ، والقصد في الغنى، والطاعة مع النصيحة، والصبر في الشدّة، والكامل في الناس من عُدّت سقطاتُه، ومن أسرع إلى الناس بما يكرهون قالوا فيه ما لا يعلمون، ومالُ المرء ما أنفقه فاحتسب به أجرًا، واكتسب به شكرًا، وأبقى فيه ذكرى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيم [الحديد: 28].
أيّها المسلمون، الصلاحُ الإنسانيّ ينبُع من أعماق النفوس ومن القلوب التي في الصدور، ت+و القلوب بالإيمان وأنوار القرآن، وتتطهّر النفوس بالطيّب من القول والصالح من العمل والحسَن من الخلُق، مصدرُ النعيم الأكبر في الدنيا قلبٌ خالطته بشاشةُ الإيمان، نعيم يغني عن كلّ نعيم، حتى قال بعض السلف: "إنّه لتمرّ بي أوقاتٌ أقول فيها: إن كان أهل الجنّة في مثل هذا إنّهم لفي عيش طيّب.
معاشر المسلمين، عالَم اليوم يعيش أزماتٍ فكريّةً كما يعيش مشكلاتٍ اقتصاديّة ومختنقات مالية، وعلاقة الإنسان في ديننا بهذه الدنيا عمل وتسخير وبناء وتعمير، وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ [الجاثية: 13]، هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [البقرة: 29]، كما أنها في ذات الوقت علاقة ابتلاء واختبار، الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الملك: 2]، وغاية ذلك كلِّه تحقيق العبادة لله عزّ وجلّ، وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون [الذاريات: 56]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون [البقرة: 21].
والمسلمون في عباداتهم يجمعون بين تحقيق العبودية لله وتوحيده والإخلاص له وبين شهود المنافع وابتغاء فضل الله، ففي الصلاة: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون [الجمعة: 10]، وفي الحجّ: وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَاب لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ [البقرة: 197، 198]، يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيق لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ [الحج: 27، 28]، وفي عموم الطاعات: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [المزمل: 20]. والممدوحون في كتاب الله من عُمّار بيوت الله يبيعون ويتاجرون، ولكن لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار [النور: 37].
من هذه المنطلقات والبواعث ـ أيها المسلمون ـ ومن هذه الحِكم والأحكام والربط بين الدين والدنيا وعمل القلب وعمارة الأرض يستبين طريق الترقّي في مدارج الكمال المنشود وروافد الطهر المبتغى الذي يحفظ الحياة ويصونها، ويربي النفسَ ويعلي قدرها، وينشر الطمأنينة، ويحقّق الرضا.
معاشر الأحبّة، وهذا مزيد إيضاح وبسطٍ لارتباط الدين بالدنيا والعبادة بالعمارة والزهد بالجدّ والقناعة بالكدّ، يقول عليّ في وصف الدنيا وبيان حالها: (دار صدقٍ لمن صدقها، ودار عاقبة لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، مسجِد أحبّاء الله، ومهبط وحيه، ومصلّى ملائكته، ومتّجر أوليائه، اكتسبوا فيه الرحمة، ورجوا فيها الجنّة، فمن ذا يذمّ الدنيا وقد آذنت بفراقها ونادت بعيبها ونعت نفسها وأهلَها، فمثّلت ببلائها البلاء، وشوّقت بسرورها السرور، فذمّها قومٌ عند ندامة، وحمدها آخرون فصَدَقوا، وذكّرتهم فذَكَروا)، ويقول أبو سليمان الدّارَاني: "الدنيا حِجابٌ عن الله لأعدائه، ومطيَّةٌ مُوصِلةٌ لأوليائِه، فسبحانَ من جعل شيئًا واحدًا سَببًا للاتصال والانقطاع!"، وجاء في الحديث مرفوعًا وموقوفًا عند أحمد والترمذي وابن ماجه: (الزَّهادةُ في الدنيا ليسَت بتحريمِ الحلال ولا بإضاعة المال، ولكن الزَّهادَةَ في الدنيا أن لاّ تكونَ بما في يدَيكَ أوثَقَ مما في يدِ الله، وأن تكونَ في ثوابِ المصيبَةِ إذا أنت أُصِبتَ بها أرغَبَ فيها لو أنها بقِيَت لك، وأشدَّ رجاءً لأجرِها وذُخرها من إيّاها لو بقِيَت لك، وأن يكونَ مادحُك وذامُّك في الحقِّ سواء). وهذه كلها ـ رحمكم الله ـ من أعمال القلوب، لا مِن أعمال الجوارح، فافقهوا وتأمَّلوا. وعن ابن عباس رضيَ الله عنهما مرفوعًا: ((مَن سَرَّه أن يكونَ أغنى الناسِ فليكن بما في يَدِ الله أوثقَ منه بما في يدِه)) أخرجه الحاكم والبيهقيّ.
عباد الله، الدنيا والزهد فيها يكونُ في ستّة أشياء: النّفس، والناس، والصّورة، والمال، والرّياسة، وكل ما دون الله عز وجل، يقول ابن القيّم رحمه الله مُعلِّقًا على ذلك: "وليس المرادُ رفضَها، فقد كان داود وسليمان عليهما السلام من أزهد أهلِ زمانهما ولهما من الملك والمال والنساء ما لهما، وكان نبيُّنا محمد من أزهدِ البَشَر على الإطلاق وقدوةَ الزاهدين وكان يأكل اللحم والحلوى والعسل ويحبّ النساء والطيب والثيابَ الحسَنَة، وكان عليّ بن أبي طالب وعبد الرحمن بنُ عوف وال+ير وعثمانُ بن عفان رضي الله عنهم أجمعين من الزُّهَّاد على ما كان لهم من الأموال الكثيرة"، كل هذا كلام ابن القيم رحمه الله.
وقد قيل للإمام أحمد: أيكون الرجل زاهدًا ومعه ألف دينار؟ قال: نعم، على أن لا يفرَحَ إذا زادت، ولا يحزَنَ إذا نَقَصَت، قال رحمه الله: ولقد كان الصحابةُ أزهَدَ الأمّة مع ما عِندهم من الأموال. وفي عبارةٍ لسفيان الثوريّ: أيكون الرجل زاهدًا وله مال؟ قال: نعم، إذا كان إذا ابتُلِي صَبَر، وإذا أُعطِي شَكَر. وفي عبارةٍ أخرى له: الزاهد إذا أنعَمَ الله عليه نعمةً فشكرها، وإذا ابتُلِي ببليَّةٍ صَبَر عليها، فذلك الزاهد. ويقول العلامة المناوي رحمه الله: ليس الزهد تجنُّبَ المال، بل تساوي وجودِه وعدَمه، وعدمُ تعلُّق القلب إليه، فإنّ الدنيا لا تُذمُّ لذاتها، فإنها مزرَعَة الآخرة، فمن أخذَها مُراعيًا قوانينَ الشرع أعانَته على آخرته، قال: فلا تتركها؛ فإنّ الآخرة لا تُنال إلا بها؛ ولهذا قال الحسن: ليس من حُبِّك للدّنيا طلبُك ما يُصلِحُك بها، ومِن زهدك فيها تركُ الحاجة يسدُّها عنك تركُها. وقال سعيد بن جُبير: مَتَاعُ الْغُرُور: ما يُلهيك عن طلب الآخرة، وما لم يُلهِك فليس بمتاع الغرور، ولكنه متاعُ بلاغٍ إلى ما هو خيرٌ منه.
عبادَ الله، مَن حقَّق اليقينَ وثقَ بالله في أمورِه كلِّها، ورضِيَ بتدبيره، ولم يَتَعلَّق بمخلوقٍ، لا خوفًا ولا رجاءً، وطلَب الدنيا بأسبابها المشروعةِ، ومن رُزِق اليقين لم يُرضِ الناسَ بسخط الله، ولم يحمَدهم على رزق الله، ولم يذُمَّهم علَى ما لم يُؤتِه الله، وقد علِمَ أنَّ رزق الله لا يجُرُّه حِرصُ حريص، ولا ترُدُّه كراهيّة كارِه، فكفى باليقين غِنى، ومن غَنِيَ قلبُه غنِيَت يداه، ومن افتَقَر قلبُه لم ينفعه غِناه. والقناعة لا تمنع ما كُتِب، والحرصُ والطمَع لا يجلِبُ ما لم يُكتَب، فما أصابَك لم يكن ليُخطِئَك، وما أخطأَك لم يكن ليُصيبَك، وليَخلُ قلبُك ممّا خلَت منه يدَاك.
وبعدُ: أيها المسلمون، من اعتمَدَ على الله كفاه، ومن سأَلَه أعطاه، ومن استغنَى به أغناه، والقنَاعَة كنزٌ لا يفنَى، والرِّضا مالٌ لا ينفد، وقليلٌ يكفِي خيرٌ من كثيرٍ يُلهِي، والبرُّ لا يَبلَى، والإثم لا يُنسَى، والديَّان لا يموت، وكمَال الرجل أن يستوِيَ قلبُه في المنع والعطاء، والقوّة والضَّعف، والعزّ والذل، وأطول الناس غمًّا الحسود، وأهنؤُهم عَيشًا القنوع، والحرُّ الكريم يخرج مِنَ الدنيا قبل أن يُخرَج منها، وطولُ الأمل يُنسِي الآخرةَ، وإذا ما سألتَ عن البركةِ وصالح الثمرة أو سألتَ عن ضياع الحقوق وانتشار الفسوق فانظر الناسَ، وافحَص في القناعة وسلامَةِ الصّدر وتركِ ما يَريب وتجنُّب ما يعيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين [القصص: 77].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآنِ العظيم، وبهدي محمد ، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما ستَرَ مِنَ العيوبِ، والشّكر له علَى مَا كَشَف من الكروب، وأتوب إليه وأستغفره وهو غفّار الذنوب، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له علاّم الغيوب، وأشهد أنّ سيّدنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسوله كشَفَ به ربُّه الغُمَّة ودَفع الخُطوب، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ما أشرقت شمسٌ وآذنَت بالغروب، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فمَن عظُمَت الدنيا في عينَيه أحبَّ المدح وكرِهَ الذّمَّ، وربما حملَه ذلك على تركِ كثيرٍ منَ الحقّ خشيةَ الذم، والإقدام على شيءٍ من الباطل ابتغاءَ المدحِ، فهو كاسبٌ لغيره، سَاعٍ لقاعِد، جامعٌ لواجد، فقرُه بلُؤم طبعِه وفَرَط شرهِه وإشراق نفسه، لا ينتفِع بشيء، ولا يسترِيح من تعَب، كم من غنيٍّ كثيرِ المال تحسبُه فقيرًا مُعدمًا! نفسُه صغيرة، ووجهه عابس، ترهَقُه قتَرَة، حريصٌ على ما في يديه، طامعٌ فيما لا يقدر عليه. يقول بعض العلماء: "لقد جَهِل قومٌ فظنُّوا أنَّ الزهدَ تجنُّبُ الحلال، فاعتَزَلوا النّاس، وضيَّعوا الحقوقَ، وجَفَوا الأنام، واكفهَرَّت وجوههم، ولم يعلموا أن الزهدَ في القلب، وأن أصله انصراف الشهوة القلبيّة، فلمّا اعتزلوها بالجوارح ظنُّوا أنهم استكمَلوا الزهدَ، والقلبُ المُعلَّقُ بالشهوات لا يتمُّ له زُهدٌ ولا ورع".
ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وخذوا من صحتكم لمرضِكم، ومن حياتكم لموتِكم، ومن غِناكم لفقركم، ومن قوّتكم لضعفكم، ونِعم المال الصالح للرّجل الصالح، والغِنى غِنى النفس، لا عن كثرة العَرَض.
ثمّ أكثِروا من الصلاة والسلام على سيّد الأنام، أكثِروا من الصلاة والسلام على سيد الأنام في جميع الأوقات والأيّام، واعلموا أن للصلاة عليه في هذا اليوم مَزيَّةً وحكمة، فكل خيرٍ نالَته أمتُه في الدّنيا والآخرة فإنما نالَته على يده، فجمَع الله لأمّته به خيرَي الدنيا والآخرة، فأعظَم كرامةٍ تحصُل لهم فإنما تحصُل يومَ الجمعة، فإنّ فيه بعثَهم إلى منازلهم، وحضورَهم مساكنَهم في الجنّة، وهو يوم المزيد لهم إذا دخَلوا الجنّة، وهو يومُ عيدٍ لهم في الدّنيا، ولا يُرَدُّ فيه سائلُهم، وهذا كلُّه إنما عُرِف وتحصَّل بسبَبه وعلى يده عليه الصلاة والسلام. فمن الشّكر وأداء الحق أن تُكثِروا من الصلاة والسلام عليه، كيف وقد أمرَكم ربّكم بذلك في قوله عزّ شأنه: إِنَّ اللَّهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب: 56].
اللّهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمد، صاحبِ الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والخُلُق الأكمل، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين، وعلى أزواجِه أمّهات المؤمنين، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنّا معهم بعفوك وجودك وإحسانك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَ الشّرك والمشركين، واحمِ حوزة الدين، وانصر عبادك المؤمنين...
| |
|