molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: أبو بكر الصديق رضي الله عنه - صالح بن راشد الهويمل الإثنين 14 نوفمبر - 6:35:39 | |
|
أبو بكر الصديق رضي الله عنه
صالح بن راشد الهويمل
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله، نتحدث اليوم عن رجل عظيم، جليل القدر، رفيع المنزلة، كان اسمه عبد الله، وحقًا فقد كان عبدًا لله، عبده حق عبادته، وجاهد فيه حق جهاده، أنفق في سبيله ماله كله، ونافح عن دينه، ونصر رسوله وصدقه وآمن به، وجهل فضله كثير من الناس، وبخسوه حقه، بل حتى الخطباء، والوعاظ، والكتاب، كثيرًا ما يتجاهلونه؛ ربما لأنه كان عظيمًا بجوار عظيم، كبيرًا بجوار كبير، رؤوفًا بجوار رؤوف، فطغت عظمة الأول وقدره ومنزلته على عظمته ومنزلته. إنه عبد الله بن عثمان بن عامر، أتعرفونه؟! أم فوجئتم بهذا الاسم؟ فالصفات التي ذكرناها ليست إلا لواحد من كبار الصحابة، وعبد الله بن عثمان بن عامر من يكون؟! فنقول: لا تعجل أخي إنه أعظم الصحابة، وأفضلهم، إنه الصديق، إنه ثاني اثنين إذ هما في الغار، إنه الرجل الذي وزن إيمانه بإيمان الأمة، إنه أول الخلفاء الراشدين، وأول العشرة المبشرين، وأول من آمن من الرجال، قال عنه الحبيب : ((لو كنت متخذًا خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكنه أخي وصاحبي))[1]. وعن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله : ((أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: ليس من النساء، قال: أبوها))[2].
فعن هذا الحبيب للحبيب نتكلم اليوم، ونحن نعرف أننا لن نفيه حقه، ولا بعضًا من حقه.
ولد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، وصحب الرسول سنة قبل البعثة، وسبق إلى الإسلام واستمر معه طوال إقامته في مكة وفي الهجرة والغار، وشهد معه المشاهد كلها إلى أن مات، وكانت الراية معه يوم تبوك، وحج بالناس في السنة التاسعة في حياة الرسول ، واستمر خليفة الأرض بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ولقب بخليفة رسول الله.
أما صفته الخَلْقِية: فقد كان أبيضًا، نحيفًا، خفيف العارضين لا يستمسك إزاره على حقويه؛ لشدة نحافته، معروق الوجه – أي: قليل لحم الوجه – غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأصابع.
أما صفاته الخُلقية: فقد جمع الفضائل كلها، وكان أشبه ما يكون بالحبيب محمد فقد كان صِدِّيقًا أوَّاه شديد الحياء، كثير الورع، حازمًا،رحيمًا، تاجرًا، كريمًا، شريفًا، غنيا بماله وجاهه وأخلاقه، لم يشرب الخمر قط؛ لأنه سليم الفطرة، سليم العقل، ولم يعبد صنمًا قط، بل يكثر التبرم منها،ولم يؤثر عنه كذبًا قط، بل كان صديقًا، وقيل في الأمثال: إن الطيور على أشكالها تقع، وهذه حقيقة تمثلت بالحبيب وصاحبه فما أشبه أحدهما بالآخر.
لما جاء الإسلام سبق إليه، وأسلم كثير من السابقين على يديه، فقد أسلم على يديه خمسة من العشرة المبشرين بالجنة: هم عثمان، وطلحة، وال+ير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين وورد عنه أنه قال: ((ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة وتردد ونظر، إلا أبا بكر ما عتم حين ذكرته له))[3]. ما تردد فيه وما عتم ـ أي: ما تأخر ـ .
أما عن ألقابه، فقد كان يلقب بالصديق، ومعلوم منزلة الصديقين عند ربهم، وكفاه فخرًا أن ينعت بالصديق، كيف لا؟! وهو النعت الذي ناله بسبب سرعته وتصديقه لرسول الله كما كان يلقب بالعتيق، ولقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: لما سمي أبو بكر عتيقًا؟ قالت: نظر إليه الرسول وقال: ((هذا عتيق الله من النار))[4]. وقيل: سمي بذلك حين ولد، وقيل: سمي بذلك لجمال وجهه.
ولقب بالأواه؛ لرحمته ورأفته فهو الصديق والعتيق والأواه، رضي الله عنه وأرضاه، ولعن كل من أبغضه وعاداه.
وكان أفضل الناس إسلامًا منذ أسلم، وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض مواقفه المشرقة منها قوله تعالى: إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَـئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30].
ذكر عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في أبي بكر، ذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا. ولم يستقيموا[5]. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد عبده ورسوله. فاستقام. وكذلك أنزل الله فيه قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ % وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ [الليل:5-7]، قاله ابن مسعود وقاله عامة المفسرين: وذلك أنه كان يعتق على الإسلام عجائز ونساء، فقال له أبوه: أي بني! لو أعتقت رجالاً جلدًا يمنعونك ويقومون معك، فقال: بل أبتِ! إنما أريد ما أريد[6].
ونزل فيه قوله تعالى: وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى [الليل:17]، أي: سيجنب النار، وسيكون بعيدًا عنها الأتقى، وهو المتقي الخائف، ويزحزح عن النار: وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ [الليل:21]، أي: بالجزاء، فلسوف يعطيه ربه في الجنة أضعاف ما أنفق، وذلك أن رسول الله مر ببلال وهو يعذب ويقول: أحد أحد، فقال: ((أحد ينجيك))، يعني الله تعالى، ثم قال لأبي بكر: ((يا أبا بكر إن بلالاً يعذب في الله ))، فعرف أبو بكر الذي يريد رسول الله فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب، ومضى به إلى أمية بن خلف، فقال: أتبيعني بلالاً؟ فقال: نعم، فاشتراه فأعتقه، فقال عنه المشركون: إنه ما أعتق بلالاً إلا ليد كانت له عنده، فنزلت: وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نّعْمَةٍ تُجْزَىٰ % إِلاَّ ٱبْتِغَاء وَجْهِ رَبّهِ ٱلأَعْلَىٰ % وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ [الليل:19-21][7].
ومن مناقبه أنهثَانِيَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا[التوبة:40]، وما ظنكم باثنين الله ثالثهما.
وقال عمر حين قال الصحابة: منا أمير ومنكم أمير، وذلك بعد وفاة الرسول فقال: سيفان في غمد واحد إذًا لا يصلحان، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال: من له هذه الثلاث: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ من صاحبه؟ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ من هما؟ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا مع من؟ ثم بايع، فبايع الناس أحسن بيعة وأجملها.
ومن مواقف المحبة للنبي حين جاءه الصريخ وقال: أدرك صاحبك فخرج ودخل المسجد، وهو يقول: ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله، فلهوا عن رسول الله وأقبلوا على أبي بكر[8].
ولما كانت ليلة الغار قال: يا رسول الله! دعني أدخل قبلك. قال: ادخل. فدخل، فجعل يلتمس بيده كلما رأى جحرًا قال بثوبه فشقه ثم ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه كله. قال: فبقي جحر فوضع عقبه عليه ثم أدخل رسول الله فلما أصبح قال له النبي : ((فأين ثوبك يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع))[9].
وفي رواية: وبقي منهما اثنان فألقمهما رجليه، ثم قال لرسول الله : ادخل. فدخل فوضع رأسه في حجر أبي بكر ونام، فلُدغ أبو بكر في رجله من الجحر، ولم يتحرك مخافة أن ينتبه الرسول فسقطت دموعه على وجه النبي فقال: ((ما لك يا أبا بكر؟)) فقال: لدغت فداك أبي وأمي، فنفث رسول الله فذهب ما في جسده[10].
ومن مناقبه أنه لم يتخلف عن رسول الله في غزوة من الغزوات، وليس ذلك فحسب، بل لم يكن يبتعد عنه أثناء المعركة ابتداءً من غزوة بدر وانتهاءً بغزوة تبوك، ففي بدر كان معه في العريش يحميه. ويعلق مصيره بمصيره، قال علي : أشجع الناس أبو بكر لما كان يوم بدر جعلنا لرسول الله عريشًا، وقلنا: يكون مع النبي لأن لا يصل إليه أحد من المشركين، فوالله ما دنا منا أحد إلا أبو بكر، فقد دنا شاهرًا سيفه دون رسول الله .
ومن مناقبه أيضًا أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر: أنا. قال : من أطعم اليوم مسكينا؟ قال أبو بكر: أنا. قال : من شهد منكم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا. قال : فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا))[11].
ومن المواقف التي تدل على عظم مكانته، أن ربيعة الأسلمي جرى بينه وبين أبي بكر خصام، فجاء قوم من أسلم إلى ربيعة يشجعونه على رفع الشكوى إلى رسول الله فقال ربيعة: أتدرون من هذا؟ هذا أبو بكر هو ثاني اثنين، هذا ذو شيبة في الإسلام، لا أبًا لكم لا يلتفت ـ وكان قد غادر القوم ولم يتجاوزهم ـ فيراكم تنصروني عليه فيغضب، فيأتي رسول الله فيغضب لغضبه، فيغضب الله لغضبهما فيهلك ربيعة[12].
ومن مواقف الثبات على أمر رسول الله أنه عندما توفي رسول كان – عليه السلام – قد عقد اللواء لأسامة بن زيد ولم يكن يجاوز ثمانية عشر بعد من عمره، وأمره أن يتوجه إلى الشام؛ للأخذ بثأر مؤتة، وكان من جنوده كبار الصحابة، ومنهم الفاروق عمر ولكن رسول الله توفي قبل إنفاذ جيش أسامة، وبعد أن اختير الصديق خليفة لرسول الله واستقر الأمر بيده ارتد كثير من العرب، وأمر بإنفاذ جيش أسامة، وقال: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تتخطفني لأنفذت بعث أسامة، كما أمر رسول الله ، والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين[13]. أي عزم؟! وأي تصميم؟! وأي طاعة ؟! وأي تسليم؟!
فلما رأى الصحابة تصميمه وعزمه أرسلوا إليه عمر ، فأتاه وقال له: إن الأنصار أمروني أن أبلغك أنهم يطلبون إليك أن تولي أمرهم رجلاً أقدم سنًا من أسامة، وكان أبو بكر جالسًا فوثب وثبة الأسد الهصور، فأخذ بلحية الفاروق وقال له: ثكلتك أمك وعدمتك يا عمر، استعمله رسول الله وتأمرني أن أنزعه؟! ثم أرسل إليه أسامة بنفسه يستعفي، فقال: لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاءً قضى به رسول الله [14].
بمثل هذه المواقف كان الصديق صديقًا، وبمثلها ثبت أركان الدولة.
وفي حرب المرتدين جاء المحاور الفاروق، وقال: يا خليفة رسول الله! تأنى بالناس وارفق بهم، كيف تقاتلهم وقد قال رسول الله : ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها عصم مني نفسه وماله إلا بحقه))؟! فغضب الصديق، وقال: أجبَّار في الجاهلية، خوَّار في الإسلام؟! رجوت نصرتك، وجئتني بخذلانك، إنه قد انقطع الوحي، وتم الدين، أفينقص وأنا حي؟! والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة. فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسوله لقاتلتهم عليه[15]. ولهذا بعد انتهاء حروب الردة يقول رجاء العطاردي: دخلت المدينة فرأيت الناس مجتمعين، ورأيت رجلاً يقبل رأس رجل، ويقول: أنا فداءٌ لك، لولا الله ثم أنت هلكنا. فقلت: من المقبِّل؟ ومن المقبَّل؟ قالوا: ذلك عمر يقبل رأس أبي بكر في قتاله أهل الردة، إذ منعوا ال+اة حتى أتوا بها صاغرين.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الصلاة – باب الخوخة والممر في المسجد، حديث (466) وكتاب المناقب – باب قول النبي : ((لو كنت متخذاً...)) حديث (3656)، ومسلم: كتاب المساجد – باب النهي عن بناء المساجد على القبور – حديث (532)، وكتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حديث (2383).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي ، ((لو كنت متخذاً خليلاً ..)) حديث (3662)، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة – باب من فضائل أبي بكر الصديق ، حديث (2384).
[3] إسناده ضعيف، أخرجه إسحاق في السيرة (سيرة ابن هشام 1/252) بلاغاً عن النبي .
[4] صحيح، أخرجه الترمذي: كتاب المناقب – باب مناقب أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كليهما، حديث (3679)، وقال: حديث غريب. وأخرجه أيضاً ابن حبان: كتاب إخباره عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم – ذكر السبب الذي من أجله سُمّي أبو بكر عتيقاً، حديث (6864)، والحاكم (2/415) وصححه، وذكره الضياء في الأحاديث المختارة (265)، وقال الهيثمي: رواه البزار والطبراني بنحوه ورجالهما ثقات. مجمع الزوائد (9/40)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1574).
[5] ذكره القرطبي في تفسيره (15/357) عند تفسير قوله تعالى: إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا... [فصلت:30]، ولم يذكر مصدره، ولم أجده في غيره.
[6] أخرجه ابن إسحاق (سيرة ابن هشام 1/319)، ومن طريقة أحمد في فضائل الصحابة (291)، والحاكم في المستدرك (2/525) وصححه.
[7] ذكره القرطبي في تفسيره (20/88)، ولم يذكر مصدره، أما سبب نزول الآية، وأنها نزلت في أبي بكر فقد أخرجه الطبري في تفسيره (30/227)، ومن طريقة البزار (2209)، قال الهيثمي: وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وشيخ البزار لم يسمّه. المجمع (7/138) قلت: أخرجه الطبري موافقاً لشيخ البزار، وله شاهد عند الحاكم (2/525) وصححه، فسبب نزول الآية حسن إن شاء الله.
[8] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي : ((لو كنت متخذاً خليلاً...))حديث (3678)، دون قوله: ((فلوا عن رسول الله ...))، وأخرجه تاماً أبو يعلى في مسنده (52).
[9] إسناده ضعيف، أخرجه أبو نعيم في الحلية (1/33)، وفي إسناده: هلال بن عبد الرحمن الحنفي، ضعفه العقيلي، وقال الذهبي: الضعف لائح على أحاديثه، فليُترك. ميزان الاعتدال (4/315). وأخرجه الحاكم بنحوه (3/6) وقال: صحيح على شرط الشيخين لو لا إرسال فيه.
[10] ذكره الطبري في (الرياض النضرة) بدون إسناد (1/450).
[11] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب ال+اة – باب من جمع الصدقة وأعمال البر، حديث (1028).
[12] ضعيف جداً، أخرجه أحمد (4/58) والطيالسي (1173، 1174)، والحاكم (2/172-174)، وفي إسناده المبارك بن فضالة يدلس ويسوّي، وقد عنعن، وانظر التقريب (6506)، ومسند احمد يتحقق الأرناؤوط (27/115).
[13] ذكره البيهقي في (الاعتقاد) (ص 345).
[14] ذكره الطبري في تاريخه (2/246).
[15] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الزكاة – باب وجوب ال+اة، حديث (1400)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، حديث (20)، دون قوله: ((أجبار في الجاهلية.. وأنا حي))، وذكر هذه الزيادة الطبري في الرياض النضرة (1/451).
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على الرسول المصطفى.
أما بعد:
معشر الأحبة في الله: للصديق موقف أعظم مواقف العظام، ولنأتِ إلى الموقف من البداية، ولكن مع الاختصار الشديد، فعندما شاع خبر وفاة الرسول بين الصحابة الكرام كأنجح ما يكون الخبر، وأظلمت سماء المدينة على أهلها، يقول أنس : ما رأيت يومًا قط كان أحسن ولا أضوء من يوم دخل علينا رسول الله ، وما رأيت يومًا أقبح ولا أظلم من يوم مات فيه رسول الله . وتقول فاطمة يوم موته عليه الصلاة والسلام: ((واأبتاه أجاب ربا دعاه، يا أبتاه جنة الفردوس مأواه، واأبتاه إلى جبريل ننعاه))[1]. أما الفاروق القوي الجبار فقد أخرجه الخبر عن وعيه فجعل يقول: إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله توفي، وإن رسول الله ما مات، ولكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة، ثم رجع إليهم بعد أن قيل: إنه مات، ووالله ليرجعن رسول الله فليقطعن أيدي رجالاً وأرجلهم يزعمون أنه مات[2].
وكان الصديق خارج المدينة حين ذاك فأقبل، فلما بلغه الخبر أقبل إقبال المؤمن المسلم، فدخل المسجد، ولم يكلم أحدًا، حتى دخل على عائشة فتيمم رسول الله وهو مغشىً بثوب، فكشف عن وجهه ثم أكب عليه، وبكى، ثم قال: بأبي أنت وأمي لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد ذقتها، طبت حيًا وميتًا، ثم خرج إلى الناس، وكان عمر شاهرًا سيفه يكلم الناس فقال أبو بكر: اجلس يا عمر، فأبى عمر أن يجلس، فأقبل الناس على الصديق، وتركوا عمر، فقال أبو بكر: أما بعد، من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت، قال الله: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَـٰبِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّـٰكِرِينَ [آل عمران:144].
قال ابن عباس – رضي الله عنهما -: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس منه كلهم، فما أسمع بشرًا من الناس إلا يتلوها. قال ابن المسيب: قال عمر: والله ماهو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي، حتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، علمت أن النبي قد مات.
ذلكم موقف الحبيب مع حبيبه، لولا الإيمان الذي رجح بإيمان الأمة؛ لما كان له أن يقفه.
معذورون صحابة رسول الله ؛ فإن الخطب جسيم، والمصيبة عظيمة، فقد كان المصطفى كل شيء لهم فكان حياتهم، وملاذهم، وحاكمهم، وحبيبهم، وصديقهم، وأباهم، وأخاهم، وقائدهم، ونبيهم، ومنقذهم،وصاحبهم، فقدوا ذلك في ساعة من نهار، فليهنأ الصديق، إذ اختص بذلك كله، ومعه لم يكن ليلين، وهو البكّاء، ولم يكن ليزيغ، وهو الرقيق الحنون. إنه الإيمان الذي وقر في قلب هذا الأبيض الشديد النحافة فصدقه حيًا وميتًا، فقال: إن كان قال فقد صدق. وقال بلسان الحال: إن كان مات فقد صدق، وصدق الله ورسوله، وما زاده إلا إيمانًا وتسليمًا.
ولما مرض مرضه الذي مات فيه، قالوا له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: قد رآني. قالوا: فماذا قال؟ قال: يقول: إني فعال لما أريد.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: كان سبب موت أبي بكر وفاة رسول الله كمدًا، فما زال جسمه حتى مات.
توفي يوم الإثنين ليلة الثلاثاء بين المغرب والعشاء، لثمان ليال بقين من جماد الآخرة، سنة ثلاث عشرة للهجرة النبوية، وكان عمره ثلاثًا وستين عامًا مثل عمر صاحبه .
وهذا وصلُّوا رحمكم الله على البشير النذير، كما أمركم الله بقوله: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56]. اللهم صل على محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، وارض اللهم عن جميع الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنًا، وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحب وترضى من الأقوال والأعمال، اللهم هيئ له البطانة الصالحة التي تعينه على الخير، وتدله عليه، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نحب نبيك محمدًا ، وأبا بكر وجميع الصحابة الكرام، فاللهم اجمعنا معهم في دار كرامتك، يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات. واللهم نور على أهل القبور من المسلمين قبورهم، واغفر للأحياء ويسر لهم أمورهم.
اللهم تب على التائبين، واغفر ذنوب المذنبين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية، ولنبيك بالرسالة، وماتوا على ذلك، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وعافهم واعف عنهم، واغسلهم بالماء والثلج والبرد، ونقهم من الذنوب والخطايا، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وجازهم بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًًا وغفرانا، اللهم ما كان لك فتجاوزه عنهم، وما كان لعبادك فتحمله عنهم، وارحمنا برحمتك إذا صرنا إلى ما صاروا إليه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المسيح الدجال، وفتنة المحيا والممات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المغازي – باب مرض النبي ووفاته، حديث (4462).
[2] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب المناقب – باب قول النبي لو كنت متخذاً خليلاً... حديث (3670).
| |
|