molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: حرية الرأي وأثرها على بر الوالدين - سليمان بن محمد آدم الهوساوي الإثنين 14 نوفمبر - 5:49:00 | |
|
حرية الرأي وأثرها على بر الوالدين
سليمان بن محمد آدم الهوساوي
الخطبة الأولى
اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الدين الإسلامي هو الدين الصالح لكل زمان ومكان، كما أنه دين الحرية التامة للإنسان، الحرية الشاملة الكاملة في إطار ما أباح الله، من غير تعدّ للحدود، ولكن إعلام هذا العصر أفرز علينا حريّات أخرى مزعومة، تفضي بالإنسان إلى الخروج عما شرعه الله وحده، فقالوا بحرية الرأي وحرية الاختيار وحرية اتخاذ القرار، فبزعمهم أن الإنسان له حرية تامة في اختيار ما يريد من الأديان، وله الحرية التامة في التصرف في نفسه وماله، وله الحرية التامة بزعمهم في قول ما يشاء وفعل ما يشاء حينما يشاء، حتى بثّوا ونشروا بين الشباب والشابات حريةَ الذات والحرية الشخصية، وأمسى الآباء والأمّهات يقاسون الويلات من هذه الحريات، والتي بثّت لقتل منهَج البر بالوالدين، ولذا فقد انتشر ـ والعياذ بالله ـ عقوقُ الوالدين، حتى سمعنا عن ابن يسبّ أباه بل يضربه ويقتله، بزعم أنه حال بينه وبين حريته ولم يحترم شخصيتَه.
إخوتي في الله، لقد أدت القنوات والمسلسلات دورها في هذا العصر ففكّكت الأسر، وغرزت العقوق في نفوس الأولاد والبنات، وفي ظلّ غياب التربية الصالحة أنتجت المجتمعات أبناء عاقين وبنات عاقات، ينظرون إلى بر الوالدين نظرة تعدٍّ على الحرية الشخصية وعدم احترام الذات، فهذا شاب يعترض على أبيه، وتلك فتاة تصرخ في وجه أمها المسكينة، متناسيَين قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا [الإسراء:23].
إن العقوق ـ إخوة الدين ـ أمر عظيم، وكبيرة عظيمة من كبائر الذنوب، وذنب جليل لا يغفره الله عز وجل بل يعجّل لصاحبه العقوبةَ في الدنيا، كما جاء في الحديث عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((كلّ الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلاّ عقوق الوالدين؛ فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات))، وروى الترمذي بإسناد صحيح عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله : ((ما من ذنب أجدرُ أن يعجلَ الله لصاحبه العقوبةَ في الدنيا مع ما يَدّخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرحم)) حديث حسن صحيح، وفي الحديث أيضا قال : ((ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟)) وكرّرها ثلاثًا، قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله وعقوق الوالدين))، وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله قال: ((ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، ومدمن خمر، والمنان بعطائه، وثلاثة لا يدخلون الجنّة: العاق لوالديه، والديوث، والرجلة)).
إنّ العقوق ـ معاشر البنات والبنين ـ نكران للجميل وجحد للنعم ونكوص عن الفطرة السليمة، إذ كيف يجحَد الإنسان من أسدل له معروفا وأفداه بدنا وروحا؟! وما من أحد أكرم وأفضل في هذا المجال من الوالدين، فهما من بذل الغالي والنفيس من أجل هذا العاقّ الخسيس، ثم تنكّر لذلك بعدما كان نطفة في بطن تلك المسكينة التي حملته وهنًا وكرها، ومن بعد نطفة علَقة ثم مضعة ثم عظاما ثم كسِي لحما، تغذّيه من دمها، وتهديه من لحمها وشحمِها، ثم ولدته طفلا صغيرا ضعيفا لا يملك إلا أن يصرخ، ولدته بعد معاناة شديدة وكربات عصيبة، وكم رأت الموت مرات عديدة، ثم رعته طفلا رضيعا، ثديها ودمها له غذاء، وصدرها له وقاء، وحضنها له فراش و+اء وغطاء، تسهر إن نام، وتحزن إن مرض، وتبكي إن أصيب، حتى نشأ في كنفها وغدا شابا يافعا، فلما طرّ شاربه وقوي عوده كانت الأم المسكينة أولَ من هضم حقّها، وعومِلت بخلاف عمَلها، وأصبح من أفدته روحها يزعم أنّ له حريةً تفوق على أوامرها، وأن له رأيًا سديدا أفضل من رأيها، فهجِرَت الأم لذلك وعوديت، بزعم الحيلولة بين الأبناء وحرياتهم الشخصية.
وكذا الوالد المسكين، كم تعب من أجل فلذة كبده، وكم شقي من أجل كبره وفتوته، وكم عانى وعانى من أجل قرة عينه، فلما بلغ ما يريد أنكَره الجَحود، وعانده ابنه، ورأى رأيا غير رأيه، وادعى أن زمانه يختلف عن زمان الكهول والعجائز، ولم يعد الحال هو الحال السابق.
ألا فليعلم العاقون أنهم على خطر عظيم وهم لا يشعرون، فالعاق إنما يخرب دنياه وأخراه بتمسكه بالحرية الشخصية المزعومة، والتي مفادها الاعتراض على الوالدين وعدم الائتمار بأوامرهما والانتهاء عن نهيهما، وفي القصص أن الله سبحانه وتعالى امتحن جُريج العبد الصالح لما قدّم صلاته النافلة على أن يجيب على أمه، فكيف بمن يعترض ويسب ويشتم، بل ويضرب ويقتل والعياذ بالله؟!
جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه عن النبي قال: ((كان جُرَيج رجلاً عابدًا، فاتخذ صَوْمَعة فكان فيها، فأتته أمه وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، يا جُرَيج، أنا أمّك كلّمني، فقال: يا ربّ، أمي وصلاتي! فأقبَل على صلاته فانصرفت، فلمّا كان من الغد أتته وهو يصلي فقالت: يا جُرَيج، فقال: يا رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فانصرفت، فلما كان من الغدِ أتته وهو يصلى فقالت: يا جُرَيج، فقال: أي رب، أمي وصلاتي! فأقبل على صلاته فقالت: اللهم إن هذا جُرَيج وهو ابني، وإني كلمته فأبى أن يكلّمني، اللهم لا تمِته حتى ينظر إلى وجوه المُومِسَات))، قال: ((ولو دعت عليه أن يُفتَن لفُتِن))، قال: ((فتذاكر بنو إسرائيل جُرَيجًا وعبادته، وكانت امرأة بغي يُتَمَثَّل بحسنها فقالت: إن شئتم لأفتننّه لكم))، قال: ((فتعرّضت له فلم يلتفت إليها، فأتت راعيًا كان يأوي إلى صَوْمَعته فأَمْكَنَته من نفسها، فوقع عليها فحملت، فلمّا ولدت قالت: هو من جُرَيج، فأتوه فاستنزلوه وهدموا صومعته، وجعلوا يضربونه، فقال: ما شأنكم؟! قالوا: زنيتَ بهذه البغي فولدت منك، فقال: أين الصبيّ؟ فجاؤوا به، فقال: دعوني حتى أصلّي، فصلّى، فلما انصرف أتى الصبيَّ فطعن في بطنه، وقال: يا غلام، من أبوك؟ قال: فلان الراعي، قال: فأقبلوا على جُرَيج يُقبّلونه ويتمسّحون به، وقالوا: نبني لك صَوْمَعتك من ذهب، قال: لا، أعيدوها من طين كما كانت، ففعلوا)).
فتأمّلوا ـ رحمكم الله ـ كيف أن جُرَيجا وهو الرجل العابد التقيّ لما دعته أمه ولم يكن في لهو ولعب وعبث، بل كان في صلاة وعبادة، فلما لم يجبها وغضبت عليه ابتلاه الله وامتحنه، ولولا أنه كان من الصادقين لنكل به أشد تنكيل، ولكن رحمه رب العالمين، فكيف بشباب عصر الحضارة ممن يزعمون الحرية في الرأي والتصرف في الشخصية حتى على الوالدين؟!
إن الأبناء ليس لهم أي حق في رد ما أمِرَا به من ولديهما إلا أن تكون معصية ولو كانا مشركين، قال الله: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان:15]. كما أنه ليس للأبناء أن يتأففوا من الوالدين في أي حال من الأحوال: فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا [الإسراء:23، 24].
يقول العلامة السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [الإسراء:23]، قال: "ثم ذكر بعد حقّه القيام بحقّ الوالدين فقال: وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا أي: أحسنوا إليهما بجميع وجوه الإحسان، القول والفعل، لأنهما سبب وجود العبد. إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا أي: إذا وصلا إلى هذا السنّ الذي تضعف فيه قواهما ويحتاجان من اللطف والإحسان ما هو معروف فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، قال: وهذا أدنى مراتب الأذى نبّه على ما سواه، والمعنى: لا تؤذِهما أدنى أذية، وَلا تَنْهَرْهُمَا أي: لا تزجرهما وتتكلم معهما كلاما خَشِنا أو فاحشا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أي: بلفظ يحبّانه، وتأدّب وتلطّف معهما بكلام ليّن حسن يلذّ على قلوبهما وتطمئنّ به نفوسهما. ثم قال تعالى: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ أي: تواضع لهما ذلاّ لهما، ورحمة واحتسابا للأجر فيهما، وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا".
ألا فانظر وتأمل في تفسير هذه الآية الكريم لتدرك أن الحقّ عليك في والديك عظيم عظيم، وبرهما واجب كبير، والنكران لهما جحود وكفر لنِعَم الجليل.
وإنه لحق على الله أن يجازي العاق بعقوقه إن لم يتب ويسترضي والديه، حق على الله أن يقيض للعاق من يعقوه من أبنائه في قابل عمره، وحق على الله أن يلعن من لعن والديه أو اعتدى عليهما في حقهما، إلا من تاب وآب فإن الله يتوب عليه وهو التواب الرحيم.
وإن ما ذكر من القصص في ذلك لبيّن لا يخفى، وحسبي وحسبكم قصة شاب كان كثيرًا ما يلهو ويلعب ويشتغل بالمنكرات والمعاصي، وكان له أب طالما وعظه ونصحه وذكّره بالله، فلما ألح عليه ذات يوم ما كان من ذلك العاق إلا أن رفع يده ولطم أباه؛ لأنه حال بينه وبين حريته الشخصية، فأقسم بالله ليخرجن إلى البيت الحرام ويدعوَ عليه، فأتى البيت الحرام فطاف به ثم أنشأ يقول:
يـا من إليه أتى الْحجاج قد قطعوا عرض المهامه من قرب ومن بعد
إنِّي أتيتك يـا من لا يَخيـب من يدعـوه مبتهلاً بالواحد الصمد
هذا مُنـازل لا يرتـد من عققـي فخذ بِحقي يـا رحمن من ولدي
وشلّ منـه بِحول منـك جانبـه يـا من تقدّس لَم يولد ولَم يلد
قيل: ما أتمّ كلامه حتى يبس شقّ ولده الأيمن جزاء ما فعل بأبيه.
ألا فاحذروا من العقوق كثيرَه وقليله وجدّه وهزله، وابتغوا بالوالدين الجنة، وادعوا المولى القدير أن يوفّقكم لما يحبّ، إنه قريب مجيب.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، وهدانا سبحانه ووفقنا لبلوغ الجنة، أقول قولي، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على نبيه الذي اصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثرهم واتبع الهدى.
وبعد: معاشر الآباء، فإنه كما يوصَى الأبناء بالبر وعدم العقوق كذلك يوصى الآباء بالجدّيّة في التربية.
إن على الأب الكريم أن يربّيَ ابنه تربية صالحة، وينشئه تنشئة جادة سوية، يرعاه بأوامره ونواهيه حال طفولته، ويشاوره ويحاوره في حال فتوّته وكبره، إذ إن التسلّط والتجبر على الأبناء حال كِبَرهم سبب في عصيانهم وعقوقهم، حتى ولو كان الابن مأمورا بالطاعة في جميع الأحوال، ولكن ليكن الأب بتصرفاته وأخلاقه مساعدًا لابنه على برّه والإحسان إليه وتقبّل رأيه وعدمِ الاعتراض عليه.
وإلى جانب ذلك كله ما على الإنسان إلا أن يبذل ما في وسعه لتربية أبنائه متوكلا على الله سبحانه، رافعا يديه إليه آناء الليل وأطراف النهار وفي كل صلاة وعبادة أن يرزقه برّ أبنائه وحسن رعايته حالَ كبره، فالله سبحانه سميع قريب مجيب.
اللهم إنا نعوذ بك أن نَعُقّ أو نُعَقّ أو نظلم أو نظلم أو نجهل أو يجهل علينا، اللهم ارزقنا بر والدينا واغفر لهما وارحمهما كما ربيانا صغارا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك اللهم على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد...
| |
|