molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: قسوة القلب - سعيد بن يوسف شعلان الأحد 13 نوفمبر - 4:38:37 | |
|
قسوة القلب
سعيد بن يوسف شعلان
الخطبة الأولى
وبعد:
فلما كنا قد تكلمنا في الجمعة الماضية عن الإعراض عن ذكر الله وعن الجزاء المترتب عليه كان لزاماً أن نتكلم عن أهم أسباب الإعراض، وهو قسوة القلب التي تحدث القرآن الكريم عنها في سبعة مواضع، في موضعين من سورة البقرة في الآية الرابعة والسبعين، وموضع في سورة المائدة في الآية الثالثة عشرة، وموضع رابع في سورة الأنعام في الآية الثالثة والأربعين، والخامس في سورة الحج في الآية الثالثة والخمسين، والسادس في سورة الزمر في الآية الثانية والعشرين، والسابع في سورة الحديد في الآية الخامسة عشرة.
وفي الموضع السادس من هذه المواضع توعد الله القاسية قلوبهم فقال: فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلالة مبين.
ولا تقسو القلوب حتى تجتمع عليها مفسدات خمس، مفسدات القلب إذا اجتمعت على القلب قسى، وهي: كثرة الخلطة، التمني، التعلق بغير الله، والشبع، وكثرة المنام.
الإفراط في مخالطة الناس خاصة الذين تكون مجالسهم على غير طاعة الله وذكره، التمني وهو طول الأمل والرغبة في البقاء في هذه الدنيا واتخاذها وطناً، التعلق بغير الله تبارك وتعالى، كثرة الشبع والإفراط في الأكل، كثرة النوم.
هذه مفسدات القلب فنذكر آثارها التي اشتركت فيها وما تميز به كل واحد منها.
ونبدأ بالحديث عن أولها، عن كثرة الخلطة.
واعلم أن القلب يسير إلى الله عز وجل والدار الآخرة ويكشف عن طريق الحق ونهجه، وآفات النفس والعمل السيء قطاع الطريق القلب، يقطعون يسير إلى الله وإلى الدار الآخرة ويكشف عن طريق الحق وعن آفات النفس وعن قطاع الطريق الموصلة إلى الحق وإلى رضى الله عز وجل، بماذا يكشف القلب وبماذا يسير؟
بنوره وحياته وقوته وصحته وعزمه وسلامة سمعه وبصره وغيبة الشواغل والقواطع عنه، وهذه المفسدات الخمس تطفئ نور القلب وتغمض عين بصيرته وتثقل سمعه إن لم تصمه وتبكمه وتضعف قواه كلها وتوهن صحته وتفتر عزيمته وتوقف همته وتن+ه إلى ورائه، أرأيتم إلى هذه المذكورات الناشئة عن مفسدات القلب ومن لا شعور له بهذا، فميت القلب من لم يشعر بهذا الأثر من مفسدات القلب على قلبه، فميت القلب وما لجرح بميت إيلام، فهي عائقة له عن نيل كماله، هذه المفسدات تعوق المسلم عن نيل كماله، قاطعة له عن الوصول إلى ما خلق له، خلق لعبادة الله وجعل نعيمه وسعادته وابتهاجه ولذته في الوصول إليه، فإنه لا نعيم له ولا لذة ولا ابتهاج ولا كمال إلا بمعرفة الله ومحبته والطمأنينة بذكره والفرح والابتهاج بقربه والشوق إلى لقائه، فهذه هي جنته العاجلة، هذه هي جنة القلب العاجلة، أن يعرف الله ويحبه ويطمئن بذكره ويفرح ويبتهج بقربه ويشتاق إلى لقائه، هذه هي جنته العاجلة كما أنه لا نعيم له في الآخرة ولا فوز إلا بجواره في دار النعيم في الجنة الآجلة، فله جنتان لا يدخل الثانية منهما إذا لم يدخل الأولى، لا يدخل الجنة الثانية في جوار الله إن لم يدخل الجنة الأولى التي يدخلها كما قلت بمعرفة الله ومحبته إلى غير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة. وقال بعض السلف: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول: إن كان أهل الجنة في مثلها ألا إنهم لفي عيش طيب.
انظروا إلى هذا الصالح حين استشعر أثر معرفة الله ومحبته على قلبه وأحس بذلك واطمئن قلبه بذكر الله يقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب، إن كانوا يشعرون في قلوبهم ما أشعر من حب الله والاطمئنان بذكره إنهم لفي عيش طيب.
وقال بعضهم أيضاً: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها، قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبة الله والأنس به والشوق إلى لقائه والإقبال عليه والإعراض عما سواه، وكل من له قلب حي يشهد هذا ويعرفه ذوقاً.
وهذه المفسدات الخمس قاطعة عن هذا، حائلة بين القلب وبينه، عائقة له عن سيره، ومحدثة له أمراضاً وعللاً، إن لم يتداركها المريض خيف عليه منها، وهذا ما حدث.
تركنا قلوبنا للمفسدات تعمل فيها حتى وقع ما وقع، ويحار الإنسان إذا وقف خطيباً بين الناس ماذا يقول وماذا يدع؟ ماذا يقول ليستيقظ الناس ويفيقوا من غفلتهم؟ ماذا يقول لتتخلص قلوبهم من قسوتها؟ ماذا يقول لتفيض بالدمع أعينهم؟ ماذا يقول؟
إن القرآن الكريم يمدح المؤمنين بصفات تمكنوا منها فصارت لهم سجية، قال في الآية الثالثة والثمانين من سورة المائدة: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ويقول في الآية الثانية والثمانين من سورة التوبة: فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيرا جزاء بما كانوا ي+بون وروى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي قال: ((لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً)) أي لو تعلمون ما أعلم مما عند الله من النعيم، ولو تعلمون ما أعلم مما عند الله من العذاب والنكال والجحيم لبكيتم كثيراً، فغطى القوم وجوههم ولهم خنين، أي ولهم بكاء.
يا لقسوة قلوبنا، يا لجمود أعيننا، يا لسهونا ولغونا ولهونا وإعراضنا عن ذكر ربنا. ما هذا تركنا قلوبنا للمفسدات تعمل فيها، وقد كانت من صفات المؤمنين الخشوع والدقة ومعرفة الله ومحبته والإقبال عليه. قال الله في مثل أحوالنا في الآية التاسعة والخمسين والستين من سورة النجم: أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون.
فأما ما تؤثره كثرة الخلطة فامتلاء القلب بدخان أنفاس بني آدم حتى يسْوَد القلب مما يدور في مجالس الناس من الغيبة واللهو واللغو والإعراض عن ذكر الله تبارك وتعالى، ولذلك قال نعيم بن حماد: كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش بكثرة جلوسك في بيتك؟ فقال: وكيف أستوحش وأنا مع النبي والصحابة؟ نعم، كان رجلاً من أعظم رجالات الحديث، إذا جلس في بيته وأكثر الجلوس فإنه مع النبي في قوله ، مع الصحابة في رواياتهم عنه، فلماذا يستوحش؟ وهل يستوحش إلا من لم يكن له حظ من القرب إلى الله والإقبال عليه؟ هل يستوحش إلا من كان كل همه الدنيا والإقبال عليها والنيل منها؟ وقال شقيق البلخى: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أنا أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ولا يفهم من هذه الآثار التي أسوقها الآن الدعوة إلى الاعتزال وإلى عدم المخالطة، لا بل يخالط الناس ويصبر على أذاهم، ولكن بقيود سأبينها، ولكن لا نرضى أن يفرط ذلك الإفراط فلا يكون لنا نصيب من تخل وجلوس مع أنفسنا محاسبين وذاكرين لله عز وجل، ومنقين ومصفين ومتداركين للقلوب.
هذا ما تؤثره الخلطة: امتلاء القلب من دخان أنفاس بني آدم حتى يسود ويوجب لو تشتتاً وتفرقاً وهماً وغماً وضعفاً وحملاً لما يعجز عنه، حمله من مؤونة قرناء السوء وإضاعة مصالحه والاشتغال عنها بهم وبأموره وتشتت فكره في أودية مطالبهم وإرادتهم، فماذا يبقى منه لله والدار الآخرة إذا أفرط في مخالطة القلب واشتغل بهم؟ ماذا يبقى منه لله والدار الآخرة؟ هذا وكم جلبت خلطة الناس من نقمة ودفعت من نعمة؟ وكم أنزلت من محنة وعطلت من منحة وأحلت من رزية وأحلت في بلية، وهل آفة الناس إلا الناس؟ وهل كان على أبي طالب عند الوفاة أضر من قرناء السوء؟ أبو طالب عم النبي قام إلى جنبه ابن أخيه أشرف خلق الله قاطبة يقول له: يا عم أسلم، قل كلمة واحدة، قل: لا إله إلا الله.
لم يزل به أبو جهل وأمثاله حتى حالوا بينه وبين كلمة واحدة توجب له سعادة الأبد، حالوا بينه وبين كلمة السعادة الأبدية.
وهذه الخلطة التي تكون على نوع مودة في الدنيا وقضاء وطر، بعضهم من بعض، تنقلب إذا حقت الحقائق عداوة، تنقلب هذه المودة التي تكون لأجل الدنيا، تنقلب عندما تحق الحقائق عداوة، ويعض المخالط أصبعه عليها ندماً كما قال الله في سورة الفرقان من الآية السابعة والعشرين إلى نهاية الآية التاسعة والعشرين: ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتي ليتني لم أتخذ فلاناً خليلاً ً لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولاً وقال أيضاً تبارك وتعالى في الآية السابعة والستين من سورة الزخرف الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين.
وسواهم بعضهم لبعض عدو، وقال خليله إبراهيم لقومه في الآية الخامسة والعشرين من سورة العنكبوت: وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثاناً مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضاً ومأواكم الناس وما لكم من ناصرين.
نعم وهذا شأن كل مشتركين في غرض، يتساعدون ويتوادون ما داموا متساعدين على حصوله، فإذا انقطع ذلك الغرض أعقب ندامة وحزناً وألماً وانقلبت تلك المودة بغضاً ولعنة وذماً من بعضهم لبعض كما انقلب ذلك الغرض حزناً وعذاباً كما يشاهد في هذه الدار من أحوال المشتركين في خزيه إذا أخزوا وعوقبوا، ألا تشاهدون أحوال المشتركين في الخزي إذا قبض عليهم وأخزوا وعوقبوا، ألا تعلمون ماذا يفعلون عندما يعاقبون، فكل متساعدين على باطل متوادين عليه لابد أن تنقلب مودتهم بغضاً وعداوة، لابد أن تنقلب مودتهم بغضاً وعداوة.
ثم ما هو أيها الأخوة الضابط النافع في أمر الخلطة؟
الذي ينبغي أن نعلمه هو ما يلي:
على المسلم أن يخالط الناس في الخير، في الجمعة والجماعة والأعياد والحج وتعلم العلم والجهاد والنصيحة وأن يعتزلهم في الشر وفضول المباحات، فإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في الشر ولم يمكنه اعتدالهم، تعذر عليه ذلك وأجبر عليه إجباراً ماذا يفعل؟
فالحذر الحذر أن يوافقهم، وليصبر على أذاهم، فإنه لابد أن يؤذوه إن لم يكن له قوة ولا ناصر، ولكنه أذى يعقبه عز ومحبة له وتعظيم وثناء عليه منهم، أول من يثني عليه الذين خالطهم في الشر وأجبروه على مخالطتهم وأن يكون معهم، وله أيضاً من المؤمنين ومن رب العالمين.
وموافقتهم يعقبها ذل وبغض له ومقت وذم منهم ومن المؤمنين ورمن ب العالمين، فليصبر على آذاهم فهذا خير وأحسن عاقبة وأحمد مآلاً، وإن دعت الحاجة إلى خلطتهم في فضول المباحات فيما لا حرمة في الاجتماع عليه من دعوة إلى وليمة أو طعام أو عقيقة أو مجلس للتعارف وما إلى ذلك فليجتهد أن يقلب هذا المجلس طاعة لله إن أمكنه، ليجتهد أن لا يسمح للجالسين أن يدوروا هنا وهنا وهنا، غيبة ولغواً وإعراضاً ونسياناً لرقابة الله لهم واطلاعه عليهم وقربه منهم، ويشجع نفسه ويقوي قلبه، ولا يلتفت للوارد الشيطاني القاطع له عن ذلك بأن هذا رياء ومحبة لإظهار علمك وحالك ونحو ذلك، فليحارب الشيطان وليستعن بالله ويؤثر فيهم من الخير ما أمكنه، هذا أيها الأخوة هو ما ينبغي أن نلم به مما نحتاج إليه في أحوال الخلطة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه وبعد
بعد هذا البيان أقول: فإن أعجزته المقادير عن ذلك، إن أعجزته المقادير عن كل ما وصفنا في حال خلطة الناس في الشر وفي فضول المباحات، فليسل قلبه من بينهم +لِّ الشعرة من العجين، وليكن فيهم حاضراً غائباً قريباً بعيداً نائماً يقظاناً، ينظر إليهم ولا يبصرهم، يسمع كلامهم ولا يعيه، لأنه قد أخذ قلبه من بينهم ورقى به إلى الملأ الأعلى، يسبح حول العرش مع الأرواح العلوية ال+ية، ليفعل ذلك وما أصعب هذا وأشقه على النفوس وإنه ليسير على من يسره الله عليه، فبين العبد وبينه أن يصدق الله تبارك وتعالى.
ماذا يمكن العبد من هذا إذا اضطر إلى ذلك؟ أن يصدق الله ويديم اللجوء إليه وأن يلقي نفسه على بابه طريحاً ذليلاً ولا يعينه على هذا إلا المحبة صادقة والذكر والدائم بالقلب واللسان وتجنب المفسدات الأربع الباقية الآتي ذكرها إن شاء الله وقدر في الجمعة القادمة، وما ينال هذا إلا بعدة صالحة ومادة قوة من الله عز وجل وعزيمة صادقة وفراغ من التعلق إلا بالله تبارك وتعالى.
| |
|