molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: كلمات في الحكمة - سعود بن إبراهيم الشريم الجمعة 11 نوفمبر - 5:38:32 | |
|
كلمات في الحكمة
سعود بن إبراهيم الشريم
الخطبة الأولى
أمَّا بعدُ: فاتَّقوا الله عبادَ الله، واعلَموا أنَّ أصدقَ الحديثِ كلامُ الله، وخَيرَ الهديِ هَديُ محمَّدٍ ، وشرَّ الأمورِ مُحدَثاتُها، وكلَّ مُحدَثَةٍ بِدعَة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ.
عبادَ الله، الأمَمُ والمجتمعاتُ المعاصِرة تعيشُ أوجَ حَضارتها حتى أكلَت منها وشبِعَت، فأصابَها القَيْءُ بعدَ التُّخْمَة، والجوعُ بعد القَيْء. ومِن المعلومِ بداهةً أنَّ التُّخْمةَ لا تقِلُّ شرًّا عن الجوعِ، ونحن في هَذا الزّمن لدينا مخزونٌ هائلٌ في مجالِ العِلم والفِقهِ والإعلام والسّياسةِ والاقتصاد والفِكرِ، وحياةُ الناسِ بعامَّة مليئةٌ بالمُدلهِمَّات والخُطوبِ، ونوازلُ المجتَمَعات والأمَمِ بين مدٍّ وجَزرٍ، لا يَسلمُ منهما مجتمعٌ ولا يكاد إلا من رحِمَ الله.
وإنَّ مِن أعظم النوازل أثرًا وأخطرِها تهديدًا لاستقرارِ المجتمعات هي تلكُمُ النوازل الفكرية والمُدلهِمَّات الثقافية والحِراك السياسيّ، والتي اعتَرَت المجتمعاتِ المسلِمة على حينٍ فترةٍ من الوِفاقِ وقوّةِ المرجعيّة ومتانة الانتماء للدين والمجتمع المُتديِّن؛ ما سبَّب تعارُكَ الثقافاتِ والسياسات، وبُروزَ المُطارحات تلوَ المُطارَحات دون زِمامٍ ولا خِطام، في فوضى خصومةٍ ثائرة ليس فيها من أطرافِ الخلافِ إلا المُدَّعِي والمُدَّعَى عليه وحُضورُ الخصومة. كلٌّ يُدلِي بدعواه، ويرى أنها الحقّ، في ظلِّ تشويشٍ وتهميش، وما الظنُّ -يا رعاكم الله- بخصومةٍ تفتقِدُ قاضيَها؟!
نعم، عبادَ الله، إذ في الليلةِ الظلماءِ يُفتقَد البَدر، وما هو هذا البدرُ الذي سيمحُو ظلمةَ التحارُش والتهارُش واللَّمزِ والغَمْزِ؟
إنَّ هذا البدر -عبادَ الله- هو الحكمة. نعَم، الحكمةُ الغائِبة في ظلِّ الخلافاتِ المُتفتِّقة، الحكمة التي تقودُ الرَّكبَ إلى برِّ الأمان والنجاةِ من الهلَكَة، الحكمة التي يَفتقِرُ إليها كلُّ مجتَمَعٍ ينشُدُ الفلاحَ لتُرتِّب لهم قائمَةَ الأولويّات ودرجاتِ المصالح ودرَكَات المفاسِد، الحكمة التي لا تُوجَدُ إلا في مُستَودَع المرءِ الصفيّ النقيّ الصادق العامِل، والعالِم الواعي، والسياسيّ المُحنَّك العارف بواقعه وحالِ مجتمعه، المُخلِصِ لربِّه، المُتَّبِع لنبيِّه ، الحريصِ على استقرارِ مجتَمَعه ووطنه.
الحكمةُ -عباد الله- مأخوذةٌ منَ الحُكم وهو المنع، فكأنَّ الحكمةَ تمنَع المرءَ من الشَّيْن، وتقودُه إلى الزَّيْن. يُقال: حكَمَتِ الدابَّة: إذا امتنَعَت عن السّير.
والحكمةُ كلُّها خيرٌ، ولا تأتي إلا بخيرٍ، ولم يأتِ ذِكرُها على وَجه الذمِّ قطّ، لا في كتابِ الله ولا سنَّةِ رسوله ولا في كلام السابقين.
والناس ثلاثة: حكيمٌ ونزِقٌ وجاهلٌ؛ فالحكيم الدينُ شريعتُه، والرأيُ الحَسَن سجيَّتُه. وأمّا النَّزِق فإن تكلَّم عجِل، وإن حدَّثَ أَخطأ. وأما الجاهل فإن حدَّثتَه شانَك، وإن وثِقتَ به لم يرْعَك.
وللحِكمة في الكتابِ والسنّة معانٍ كثيرةٌ، وقد ورد لفظُها في القرآنِ عشرينَ مرَّة، وقد سمَّى الله نفسَه الحكيم، ومن صفاته جل وعلا الحكمة.
ومما قيل عن الحِكمة أنها وضعُ الشيء في موضِعه اللائق به، وقيل: هي فعلُ ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي. وهذا هو أظرفُ معاني الحكمَة، وهي مُكمِّلةُ العِلم والفقه؛ حيث أثنى الله على نبيِّه سليمانَ عليه السلام حين آتاه هذه المنَّةَ، فقال سبحانه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء: 79]. ولقد وهبَ لقمانَ الحكمةَ منَّةً منه سبحانه وفَضلاً، فقالَ جل وعلا: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان: 12].
فالحكمةُ منَّةٌ من اللهِ سبحانه لعباده؛ إذ ما أُعطِيَ العبدُ شيئًا بعدَ الإيمان بالله والخُلُق الحسنِ أغلى من الحِكمة، كيفَ لا وهي مِنحةٌ يختصُّ الله بها من يشاء من عبادِه، فقد قال سبحانه: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 269].
والحكمةُ خيرٌ كثيرٌ، تجمَعُ للمرء مكارِمَ الأخلاق والتصرُّفات، فهي مِقبَضُ رَحاها وأُسُّها الحاكم، ولقد صدق الله: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ [البقرة: 269]. فكم هو مُفرِّطٌ من لم يسعَ للحكمة! وكم هو أحمق من لم يُرِد الحكمة! وكم هو عبدٌ لهواه من استنكَفَ عنها!
الحكمة -عباد الله- لا تُشترَى بالمال ولا بالذهب ولا بالمرجان والإبريز، واستخراجُها يفوقُ استخراجَ اللآلِئ من أعماقِ البحار، فيا لله ماذا يصنع فاقِد الحكمة؟! ويا لله ماذا يخشى من أُوتِيَها؟!
الحكيمُ -عبادَ الله- يعرِفُ متى يتكلَّم ومتى يسكت؛ لأنَّ من الناس مَن لا يُكرَم إلا بلسانه ولا يُهانُ إلا به، والحكيمُ يَعرِفُ مواضعَ الإكرام ومواضعَ الإهانة؛ لأنّه يُدرِك أنّه إذا قال ربما نَدِم، وإن لم يقُل لم يَندَم، وهو على ردِّ ما لم يقُل أَقدرُ منه عَلى ردِّ ما قال، والكَلمةُ إذا تكلَّم بها ملَكَته، وإن لم يتَكلَّم بها ملَكَها. وربما صار حكيمًا بالصمتِ تارة، وربما صارَ حكيمًا بالنّطقِ تارات، وعِند المُدلهِمَّات يُعرفُ الحكماءُ الذين لا تحكمُهم المصالحُ الشخصيّة والأهواءُ فيها، ولا تقودُهم الشُّبْهةُ والشّهوة إليها.
ورضِيَ الله عن معاويةَ مثلاً يُحتَذَى في الحكمة من خلال مبدَأ الشَّعرةِ التي عُرِف بها عند السابق واللاحِق.
ولقد ضَرَب لنا شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ رحمه الله مَثلاً رائعًا يتَجلَّى من خِلال مفهومِ الحِكمة في واقِعه وتعامُله معَ المخالفين للصّواب؛ حيث قال: "كنتُ أقول للجهمية منَ الحلولية والنُّفاة الذين نَفوا أنَّ الله فوق العرش لما وقعَت محنتُهم: أنا لو وافقتُكم كنتُ كافرًا؛ لأني أعلمُ أن قولَكم كفرٌ، وأنتم عندي لا تكفُرون؛ لأنكم جُهَّال". فالله أكبر! ما أعظم هذا العلم المُعطَّرَ بالحكمة المتينة!
ولذا عندما يكون الحَدَثُ مُشوَّشًا مُتنازَعَ الهويَّة غامِضَ المآلات فإنَّ البُسطاء هم أوَّل من يتَّبِعه، ويسيرُ في رِكابه، ويلهَثُ وراءَه، فيصِيرون كأسرابِ طيرٍ يتبَع بعضُهم بعضًا، يفتقِرون إلى الحكمةِ التي هيَ مَزيجٌ يتفاعلُ فيه العِلمُ مع الواقعِ المُتفتِّح على حَركة المُجتمعات في الحياة، لتُصبِح عُنصرًا مُتجدِّدًا يُلاحِقُ الحياة في آفاقها وخُطواتها، ليتبلوَرَ من خلالها الرأيُ السديد والأسلوبُ العمليّ الذي يتلاءَمُ مع الذّهنيّة العامّة للمجتمع بكافّة مسؤولياته. ومن هنا تبرزُ الشخصيَّةُ الحكيمة التي تُفكِّرُ بحسابٍ، وتعمل بحسابٍ، وتلجُم الانفعالَ والحماسَ والخمولَ والاستكانة بلجامٍ من عقلٍ وفكرٍ واتِّزان.
الحكمةُ -عباد الله- معدِنٌ نفيس، لا يُنال بـ"ليت" ولا "لعل"، ولقد صدق رسولُ الله حيث قال: ((الناس كإبل مِائة، لا تكادُ تجِدُ فيها راحِلة)) هذا لفظُ البخاريّ، وقد رواه مسلمٌ أيضًا.
فالحكمةُ إذًا هي ضالَّةُ المؤمِن أنَّى وجَدَها أخَذَ بها، ولن يجِدَها مَن لم يَكن كتابُ الله وسنَّةُ نبيِّه هما من يقُودانِ فؤادَه؛ لأنها ذُكِرت في القرآنِ تاليةً لكتابِ الله، كما قالَ تعالى: فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء: 54]، كأنَّ في ذلكم إشارةً إلى أنَّ الحكمةَ لا تكون بمفاهيمها وأطُرِها في معزلٍ عن كتاب الله وسنة نبيِّه كي لا تَفتقِد قيمَتَها؛ لأنَّ العقلَ البشريَّ وحدَه غيرُ كافٍ في تحصِيلِ لُبابِ الحكمَةِ والظَّفَر بها.
ورسولُنا بإجماعِ العُقلاءِ أنَّه كانَ أعقلَ الناس وأكمل الناس ذهنًا وعقلاً، غيرَ أنّ ذلك لم يكن كافيًا وحده دون نورٍ منَ الله وهُدًى؛ ولذلك قال الله تعالى عنه: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى: 52].
ولقد أحسَنَ مَن قال:
ولا خَيرَ في عقــلٍ إذا العلـمُ غـــائبٌ ولا خيرَ في علمٍ يكونُ بلا عقلِ
فـــلا بُــدَّ مـــن عقـــلٍ وعـــلـــمٍ كـلاهمــا يقُوداننـــا نحـــو الرَّزانــــة والفضــــلِ
بارك الله لي ولكم في الكتابِ والسنّة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذّكر والحكمة، قد قلتُ ما قلت، إن صوابًا فمن الله، وإن خطأً فمِن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنّه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه.
أمّا بعد: فاتَّقوا الله عبادَ الله.
واعلَموا أنَّ كثيرًا منَ المهتمّين تناوشُوا الحكمةَ على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم، حتى الْتقى في هذه المناوشَة الفقيهُ والسياسيُّ والاقتصاديُّ والصُّحُفيُّ والإعلاميُّ والمُرجِفُ والمُخذِّل ونحوُهم، فظَلَمها كثيرٌ منهم حتى أصبَحَتِ الحكمة بين الغالي فيها والجافي عنها، وقلَّ من توسَّطَ في ذلك.
ولقد بلَغَتِ الحكمةُ من التّشويهِ مَبلغًا جَعَلت الرامِقَ ببصيرته مِن بعيدٍ لا يُخرِجُها من خلالِ ما يُطرَح عن دائرةِ الغلوِّ تارةً، والتفلُّت تاراتٍ أخرى، والمصادَرةِ لها ونقضِ العُرى بها تارةً أخرى، ليدَعُوا الحليمَ حيران حتى حجبَ كثرةُ صراخهم أصواتَ الحكماء، فأضحَت غير مَسموعةٍ وَسطَ أهازيج الفُرقاء، ثم باتَت تلكَ الأصواتُ حبيسةَ حناجِرِ الحكماء فحسبُ. وإلا فما ظنُّكم بمجتَمعٍ ترتَفِعُ فيه أصواتُ الحكماء، أترونَه سيُعاني من تهارُش بني مجتمَعِه؟! أترَونه يضِلُّ طريقَه؟! أترَونَه يكثُر فيه الطّلاقُ والغِشُّ والظّلم والأَثَرة والنِّزاع؟! كلا وألف لا.
وفي الطّرفِ المُقابلِ لذَلكم كلِّه فإنّه ينبَغي التوقِّي والحَذَرُ من الوقوعِ في الحكمَة الزّائفة المُزَوَّقة التي لا تستنِدُ إلى علمٍ ولا هُدًى ولا مَنطق، وإنما تنطَلقُ من مواقِف ضعفٍ مُثبِّطة، أو من دوافع عنفٍ مُرجِفة، بقَطع النظَر عن العواقِب والمآلات، وأن لا تُغرِيَنا العُقولُ والأفهامُ لتجعلَنا حُكَّامًا على كِتابِ ربِّنا وسنّةِ نبيِّنا لا محكومين بهما، وأن لا تكون عقولُنا أيضًا قادةً وحيدةً في فَرزِ ما يصِحُّ وما لا يصِحُّ.
وحَذَارِ حذارِ منَ الحكمة المُقنَّعة التي تُصافِحُ عقولَ البُسَطاء بقُفَّازٍ ليسَ مخيطًا لها، ولنلتَمِس الحكمةَ التي أرادها الله لنا في قوله: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت: 34].
ولنلتمِسِ الحكماء الذين يُجيدون فرزَ المصالحِ والمفاسِد، الحُكماء الذين يعُونَ قيمةَ المصلحةِ العُليا المُؤسّسةِ للتوافُق لا للتنابُز، والتقابُل لا التدابُر، الحكماء الذين يلزَمون أعلى المصلحتين، ويتّقون أعلى المفسَدتين، وعند التعارُض الصِّرْف لا يُساوِرهم شكٌّ البَتَّة في أنَّ درءَ المفاسد مُقدَّمٌ على جلبِ المصالح؛ ولذا قيل: ليس الحكيم الذي يعلَمُ الشرّ من الخير، ولكنَّ الحكيم هو الذي يعلمُ خيرَ الخيرَيْن وشرَّ الشرَّيْن، لا أن يكونَ كالريشَة في مَهبِّ الريح إن شرَّقَت شرَّق، وإن غرَّبَت غرَّبَ، ولسانُ حاله يقول:
يومًا يمانٍ إذا لاقيتُ ذا يمَنٍ وإن لقيتُ معدِّيًّا فعدنانِي
ولقد أحسنَ مَن قال:
وإذا رأيتَ الناسَ في لغَطِ الهوَى ورأيــــتَ جُلَّ النطــــقِ للدَّهمــــــــاء
ورأيــــتَ كلاًّ يـــدَّعِـــــي بمــــقــــــــــــــــــالــــــه والخُلفَ أضحَى حُلَّة الخُصماء
ورأيــــتَ فيــــــــــــــــهــــم نُفـــــرةً وعـــــداوةً فالأمــــــرُ محتــــــاجٌ إلى الحُكمـــــاء
هذا، وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية وأ+ى البشرية...
| |
|