molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: سورة التكوير - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 7:55:52 | |
|
سورة التكوير
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فقد ورد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((مَنْ سَرَّهُ أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رَأْيُ عَيْنٍ فليقرأ إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، وإذا السماء انشقت)) رواه الترمذي والحاكم وقال: "صحيح الإسناد".
ففي سورة التكوير تسير الأحداث الكونية الضخمة جميعها إلى هذا الكون الذي نعهده، وهو الكون المنسق الجميل، المتين الصفة، المضبوط النسبة، المبني بِأَيْدٍ وإِحْكَامٍ، سوف ينفرط عقد نظامه وتتناثر أجزاؤه، وتذهب عنه صفاته التي قام بها في الحياة الدنيا، وعندها تنتهي الخلائق وتقوم القيامة بعد الأحداث التي ورد ذكرها في القرآن الكريم وفي حديث رسول الله وكان الإخبار بوقوعها في آخر الحياة الدنيا، ثم تأتي الأحداث التي تقع في الآخرة، ومنها ما ورد في سورة التكوير: تكويرُ الشمس بِلَفِّهَا وذهاب ضوئها ونورها، وانكدارُ النجوم بانقضائها وسقوطها وانتثارها، وتَسْيِيرُ الجبال بذهابها عن وجه الأرض وتَحَوُّلِهَا إلى هباء كما قال عز وجل في آيات أخرى: وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ [المرسلات: 10]، وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا [طه: 105]، وَبُسَّتْ الْجِبَالُ بَسًّا فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة: 5، 6]، وَسُيِّرَتْ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا [النبأ: 20]، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة: 5].
ومنها أيضًا: تعطيلُ العِشَار، وهي النُّوقُ الحوَامِلُ، فلا تحْلَبُ ولا ترْكَبُ ولا ترعى لما أصاب أهلَها من الهول والفزع، وقد كانت أفضل أموال العرب وأحبها إلى نفوسهم، وورد في الحديث أن من علامات الساعة أن تُتْرَكَ القلاص فلا يسعى عليها ولا تركب، والْقِلاَصُ هي صغار الإبل: ((ولتُتْرَكَنَّ الْقِلاص فلا يُسْعَى عليها)).
وحَشْرُ الوحوش وموتُها وهي دواب الأرض قاطبة، والوحوش النافرة قد هالها الرعب ونسيت مخاوفها وفرائسها، وهالها ذلك اليوم العصيب. وتسجيرُ البحار باشتعالها نارًا حيث تخرج النار من باطن الأرض، وقد أقسم الله عز وجل بالبحر المسجور في سورة الطور فقال عز وجل: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور: 1-12]. وقد عُلِمَ بتقدم العلوم الحديثة أن باطن الأرض عبارة عن كتلة نارية ملتهبة، فها هي البراكين التي نشاهدها عيانًا بيانًا تشهد بذلك، وها هو تدفق البترول يندفع من باطن الأرض إلى أعلاها عبر الأنابيب والفتحات نتيجة الضغط والحرارة العالية مع سَمَاكَةِ كُتْلَتِهِ وثِقَلِ مَوَادِّهِ المتماسكة قبل فصلها مع بقاء الثقل لبعضها بعد الاستخراج، فمن أخبر النبي محمدًا بأنَّ باطنَ الأرضِ نارٌ تَتَأَجَّجُ، وبأنها سوف تُخْرِجُ أثْقَالَهَا؟! ومن أخبره عن هذه الأهوال العِظَام وغيرها من أمور الدنيا الأخرى؟! إنه الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ذو العزة والجبروت؛ ليتبيَّنَ للناسِ جميعِهم مؤمنِهم وكافرِهم وخاصة الكفار أن ذلك هو الحق من الله رب العالمين ويُصَدِّقُون بنبوة ورسالة محمد .
ومما يقع يوم القيامة يوم الجزاء والحساب: تَزْويجُ النفوس بأنْ تُقْرَنَ كل نفس بجسدها بعد خلق الأجساد لها وإعادتها كأول مرة خُلِقَتْ تُحْشَرُ إلى الله تعالى: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنْ الأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [المعارج: 43، 44].
ومنها: سؤالُ الموءودة عن ذنبها الذي قُتِلَتْ به ومن أجله، وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وَأْدِ البنات خوفًا من العار أو من الفقر أو منهما معًا حيث كانت البنت تدفن حية، وتأتي الفضيحة لبعض الخلق والسعادة لآخرين، نسأل الله الجنة ونعوذ بالله من النار.
نَشْرُ الصحف والأعمال وكشفها ومعرفتها، فلا تعود خافية ولا غامضة، وهذه العلنية أشدُّ على النفوس وأنْكى، فكم من عيب وسيئة مستورة يخجل صاحبها من ذكرها ويرجف ويذوب فؤاده من كشفها، فإذا بها في ذلك اليوم الرهيب منشورة للخلائق أجمعين حيث يُكشف المخبوءُ ويَظهر المستورُ ويَفْتَضِحُ المكْنُونُ في الصدور، إلا من شاء الله أن يستر عليه من عباده كما سبق في الآيات، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يَا لَيْتَهَا كَانَتْ الْقَاضِيَةَ مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة: 18-32]، وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا [الإسراء: 13، 14].
وأيضًا: كَشْطُ السَّماء وتَسْعِيرُ النار بتأجيجها وتقويتها وازدياد لهيبها ووهجها وحرارتها، وإِزْلافُ الجنَّة وتَقْرِيبُها لأهلها أهلِ الإيمان والصلاح والتقوى في الحياة الدنيا الذين حبسوا أنفسهم وحجزوها عن محارم الله فلم ينتهكوها، وألزموا أنفسهم طاعة ربهم باتباع أوامره عز وجل، فالجنة مقربة لهم سهلة الولوج والدخول إليها على من يسرها الله له، نسأل الله من فضله.
وبعد هذه الإقسامات من العزيز الجبار باثني عشر قسمًا يأتي جواب الشرط لهذه الأحداث وهو قول الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ [التكوير: 14]، عندئذٍ لا يبقى لدى النفوس شَكٌّ في حقيقة ما عملت من حسنات فتصير بها إلى الجنة أو سيئات فتصير بها إلى النار، كل نفس تعلم في هذا اليوم الهائل ما تزودت به وما حملت معها للعرض الأكبر على الله على رؤوس الخلائق، وما أحضرت للحساب، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج: 1، 2]. تعلم كل نفس هذا الهول الذي يحيط بها ويغمرها، وهي لا تملك أن تغير شيئًا مما أحضرت ولا تزيد عليه ولا تنقص منه، يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمْ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران: 30]. يوم يتمنى أهل النار أن يعودوا للحياة الدنيا ليعملوا صالحًا فيقال لهم: اخسؤوا فيها، قال تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ [المؤمنون: 101-111].
ثم يأتي القسم بالخنّس الجواري الكنّس، وهي الكواكب التي تخنس في النهار حيث لا ترى وتختفي فلا تظهر للرائي مع أنها موجودة، وهي في دورتها الفلكية المحكمة، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ [التكوير: 17] أي: إذا أظلم وأقبل أو أدبر، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ [التكوير: 18] أي: امتدَّ حتى يصير نهارًا بيِّنًا واضحًا، فمن واجب المسلمين أن يستفيدوا من كل كلمة في القرآن في دينهم ودنياهم، ويعلموا أن ورودها في ذلك الموضع لأمر يهمُّ الإنسانَ في صحته ومأكله ومشربه ونومه ويقظته، وليس في أمر العبادة فقط، فالإشارة هنا إلى الجوِّ ونقائه وصفائه بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس الذي استفاد منه أعداء الإسلام مع أن كثيرًا من المسلمين يَغُطُّونَ في نومٍ عميق سواء من قام منهم لصلاة الفجر أو المواصلون للنوم. والحديث عن النوم وما ورد عنه في آيات أخرى يأتي الكلام عنه في حينه إن شاء الله تعالى.
ثم يأتي جواب القسم بتلك الأشياء بأن القرآن نزل به جبريل عليه السلام على الرسول محمد ، وجبريل ذو قوة لا يقدر إِنْسٌ ولا جِنٌّ على انتزاع ما عنده من الوحي ولا على زيادة فيه ولا نقص منه، وهو ذو مكانة ومنزلة عند ذي العرش سبحانه وتعالى، مطاعٍ في السماوات، أمين على الوحي، هذا بالنسبة لجبريل عليه السلام، أما عن نبينا محمد فالواو حرف عطف على ما قبلها من جواب القسم أي: أن محمدًا ما هو بمجنون، فلقد رأى جبريل عليه السلام رأي العين في الأفق على صورته التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح وقَدْ سَدَّ الأفق كله، وما محمد بمظنونٍ فيه التهمة بأن يزيد فيه أو ينقص منه أو يبدل فيه أو يغير، وليس هذا القرآن بقول شيطان رجيم ممن يسترقون السمع ويلقونه إلى أوليائهم من الإنس فيخلطون فيه ويكذبون: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ [التكوير: 27] أي: ما القرآن الكريم إلا ذكر للعالمين من الإنس والجن يذكرون به خالقهم ورازقهم الذي يحييهم ويميتهم، وما له سبحانه وتعالى من حق العبادة وواجب الشكر، فيتَّعِظُون بهذا القرآن ويخافون ربهم فلا يعصونه بترك فرائضه عليهم ولا بارتكاب ما حرمه عليهم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده عز وجل وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، بيده مقاليد كل شيء وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله.
أما بعد: فبعد أن ذكَّرَنَا رَبُّ العزة والجلال بأن القرآن الكريم ما هو إلا تذكير وذكر للعالمين ليتخذَ العبادُ السبيلَ والطريقَ المستقيمَ إلى الله عز وجل إن شاؤوا وأرادوا لأنفسهم الخير بيّن لنا أنّ هذه المشيئة والإرادة التي أعطانا الله إِيَّاها لا تخرج عن مشيئته سبحانه وتعالى، فمشيئته عز وجل سابقة ومحيطة أيضًا لمشيئة العبد المسكين، ولكن ليعلم المكذبون بالقضاء والقدر أو الْفِرَقُ الضَّالَّةُ التي وُجِدَتْ من زمن طويل ولا زالت تَبُثُّ الشكوكَ والأوهام والتضليلات حول العقيدة الصحيحة لِيُضِلُّوا عباد الله عن الطريق المستقيم، لِيَعْلَم أولئك بأنَّ للعبدِ مَشِيئَةً وإِرَادَةً واختيارًا لطريق الخير أو الشر من قيامٍ بالعبادة أو الانحراف عنها، فله مشيئة وإرادة واختيار في القيام بالصلاة أو عدمها أو ال+اة أو أي نوع من أنواع العبادة، وكذلك الأمور المعيشية الأخرى من أكل وشرب ونوم وعمل وكلام وضحك وغير ذلك من الأمور الإرادية التي يستطيع أن يعملها أو لا يعملها، فهو مختارٌ فيها غيرُ مُجبَرٍ، وله مشيئةٌ وإرادةٌ في ذلك أعطاه الله إياها، ولكنَّ تلك المشيئةَ والإرادةَ للإنسان لا تخرج عن مشيئة الله وإرادته وقدرته وعلمه وإحاطته سبحانه بكل شيء.
والآيات في القرآن الكريم كثيرة جدًا لإثبات تلك الحقائق، أما في الأمورِ الْمُقَدَّرَةِ على الإنسان والتي لا مشيئةَ له فيها ولا إرادةَ بل هي بقضاء الله وقدره ومشيئته وإرادته عز وجل فَمِثْلُ: خلق الإنسان واختيار صورته ولونه وطوله وعرضه ومرضه وموته وما يجري له من الحوادث والنكبات والمصائب، وفي أي أرض يموت العبد، وفي أي يوم وفي أي ساعة، ورزقه وأجله وسعادته، وما هو داخل جسم الإنسان من نَفَسٍ وهضم للطعام وإخراج له وإفراز ونبضات قلب ودورة دم وأجهزة لا إرادة للعبد في عملها وليست تحت اختياره في عملها العادي دون بعض الحالات عند العمليات وتحت التخدير فهذه غير تلك، وقد يكون للعبد اختيار في البداية قبل تلك الأعمال وليس له ذلك بعد وصولها إلى تلك الأجزاء مثل الأكل والشرب، له الاختيار والإرادة والمشيئة في الأكل من عدمه وإيصاله إلى فمه ومضغه أو الشرب حتى يصل إلى ما بَعْد الْبَلْعِ والْحُلْقُومِ، ثم لا يكون له أيُّ تَدَخُّلٍ في عملية الهضم وإيصال الطعام إلى جميع أنحاء الجسم، ومِنْ ثَمَّ الإفراز النهائي أو إفراز الغدد اللعابية أو عصارات الهضم للطعام في المعدة والإثنى عشر وغير ذلك، حتى تتم عملية الهضم والامتصاص ثم الإخراج. فهذه الأعضاء الداخلية في الجسم ليس للإنسان أي تدخل في عملها ولا إرادة له فيها ولا مشيئة، وإرادته الأولى كلها هي وهذه وغيرها لا تخرج عن مشيئة الله المطلقة وإرادته وقضائه وقدره عز وجل، فهذه وغيرها من الأمور التي ليست من اختيار العبد، بل هي مقدرة عليه قد ورد ما يدل عليها في عدد من آيات القرآن الكريم وفي سنة رسول الله .
ولا نريد الدخول في التفاصيل إنما هو التلميح والتذكير بين فترة وأخرى لمن دخله الشك أو ابتعد عن القرآن الكريم والسنة المطهرة، ولنستمع إلى آيات عدة لإثبات المشيئة للعبد التي هي تحت مشيئة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [التكوير: 27-29]، وقال عز وجل: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [الإنسان: 29-31]، وقال سبحانه: إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً [المزمل: 19]، وقال عز وجل: كَلاَّ وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 32-37]، فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا [النبأ: 39]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ [الأنعام: 112]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا [يونس: 99].
والآيات كثيرة في إثبات المشيئة للعبد والإرادة والاختيار في أفعاله والتي لا تخرج عن مشيئة الله المطلقة، التي يحتج بها ضعاف الإيمان أو المنحرفون، ولا يتسع المقام لذكرها ولكن على من وسوس له شياطين الإنس والجن حول عقيدته أن يصححها ويسأل عنها ليعرف الطريق الصحيح الموصل إلى رضوان الله تبارك وتعالى.
وسوف تكون الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى عن القضاء والقدر؛ لأهمية الموضوع وما يتعلق به لتوضيح المقصود بأسلوبٍ مُجْمَلٍ مُيَسَّرٍ مفهومٍ، بعيدٍ عن كثير من التفريعات والجزئيات للوصول إلى المطلوب بإذن الله، والله ولي التوفيق.
| |
|