molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: نوح عليه الصلاة والسلام - سعد بن عبد الله العجمة الغامدي الثلاثاء 8 نوفمبر - 4:07:20 | |
|
نوح عليه الصلاة والسلام
سعد بن عبد الله العجمة الغامدي
الخطبة الأولى
أما بعد: فإن على الداعية المسلم أن يقرأ دعوة الرسل لأقوامهم وما لاقاه كل رسول من جراء هذه الدعوة؛ ليقف على الشيء الكثير من أخلاق البشر في بداوتهم وتحضرهم وطباعهم وعاداتهم، لكي يسير في إصلاحه على هدى؛ لأن نفوس المفسدين في كل زمان متقاربة، ووسائلهم في محاربة الحق متشابهة، ومن أجل أن يجد المصلح ما يشدّ عزمه ويُنير قلبه، ويعلم أنَّ الرسل صلوات الله وسلامه عليهم على اتفاقهم في الأصول يُعنون عناية خاصة بالأمراض التي تحيق بأقوامهم.
ونحن اليوم مع أول رسول من رسل الله، مع نوح عليه الصلاة والسلام، فحياته حياة شاقة مريرة، ومحنته مع قومه محنة شديدة أليمة، فقد أقام بينهم قرونًا طويلة، فلم يَرَ إلا آذانًا صمًّا وقلوبًا غلفًا وعقولاً متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيْبَس من الصخر، وأفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكير، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير، كلما ازداد لهم نصحًا ازدادوا له عنادًا، وكلما ذكّرهم بالله زادوا ضلالاً وفسادًا، وظلوا في طريق الضلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره، وقد مكث تسعمائة وخمسين عامًا داعيًا مذكّرًا ناصحًا مع أن عمره أطول من ذلك، أما تلك المدة فهي مدة دعوته، وسلك جميع الطرق الحكيمة معهم لإنقاذهم من الضلال وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، وكانت دعوته لهم ليلاً ونهارًا وسرًا وجهارًا، ومع ذلك لم تَلِنْ قلوبهم.
فلما يئس نوح عليه السلام من إيمان قومه بعد هذه الفترة الطويلة من الزمان أوحى الله سبحانه وتعالى إلى نوح بأنه لن يؤمن من قومه أحد بعد القليل من المؤمنين الذين آمنوا به كما قال تعالى: وَأُوحِىَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ ءامَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ [هود: 36]، عند ذلك التجأ نوح عليه السلام إلى الله بالدعاء على قومه بالهلاك والدمار، فاستجاب الله دعاءه وأعلمه بأنه سيهلكهم بالطوفان فلا يبقى منهم أحد، وأوحى إليه بأن يصنع السفينة ليركب فيها هو وجماعته المؤمنون، ولم يكن لنوح عليه السلام ولا لغيره معرفة بصنع الفلك، ولذلك أوحى الله إليه صنعها وعلمه كيف ينبغي أن تكون عليه السفينة كما قال تعالى: وَٱصْنَعِ ٱلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَـٰطِبْنِى فِى ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ [هود: 37]، وإنما أمره تعالى بعدم مراجعته في شأنهم لأن عذابه عز وجل إذا جاء لا يُردّ عن القوم المجرمين، ولعله قد تدركه رقّة عند معاينة العذاب النازل بهم.
وأخذ نوح عليه الصلاة والسلام يصنع السفينة بأمر الله ووحيه، وجعل قومه يمرون عليه فيهزؤون ويسخرون ويقولون له: صِرتَ نجارًا ـ يا نوح ـ بعد أن كنت نبيًا! ويقولون: ماذا تقصد ـ يا نوح ـ بهذه السفينة؟! وأين الماء الذي سيحملها وهي في البر بعيدة عن البحر؟! وجابههم عليه السلام بكلمة قوية كشفت عما ينتظرهم من ذلة وهوان بما +بت أيديهم في الدنيا، وما ينتظرون في الآخرة من عذاب مقيم كما ورد في القرآن الكريم: قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ [هود: 38، 39]، والمعنى: إنا واثقون من مصيركم المحزن ونهايتكم الأليمة، ولسوف ترون بأعينكم وتلمسون بأيديكم من منا الذي سيلحقه الخزي والعار والعذاب والدمار في الدنيا، ثم يحلّ عليه بعد ذلك عذاب الآخرة وهو العذاب الدائم الأليم.
ثم جاء أمر الله بإحقاق الحق وإبطال الباطل، ففار التنور، ولعل كلمة التنور وإطلاقها على الأرض من باب التشبيه لها بالفرن على أساس ما يوجد في باطنها من الكتل النارية الملتهبة، والتي نشاهدها عند تصاعد النيران من البراكين والله أعلم، وكان للناس عجبًا أن يتفجر ماء الطوفان من موقد النيران، ولكن كانت هي العلامة التي أوحى الله بها إلى نوح ليعلم أن ساعة القصاص قد حانت، وأن أمر الله قد نفذ في أعداء دينه، فلما ظهرت العلامة ركبوا في السفينة وأرسل الله من السماء مطرًا لم تعهده الأرض قبله ولا بعده كأنّهُ أفواه القِرَب، وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها كما قال تعالى: فَدَعَا رَبَّهُ أَنّى مَغْلُوبٌ فَٱنتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوٰبَ ٱلسَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا ٱلأرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى ٱلمَاء عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوٰحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لّمَن كَانَ كُفِرَ [القمر: 10-14]، وركب نوح في السفينة ومن آمن معه، وكانوا عددًا قليلاً في حدود الأربعين كما ورد في بعض الروايات، وأمره الله بأن يحمل معه في السفينة من كل حيوان وطير ووحش وغيره زوجين اثنين كما قال تعالى: قُلْنَا ٱحْمِلْ فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ ٱثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ ٱلْقَوْلُ وَمَنْ ءامَنَ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ [هود: 40].
وفي هذا الجوّ الرهيب والوقت العصيب يتطلع نوح إلى ابنه كنعان الذي لم يركب مع إخوته الثلاثة سام وحام ويافث، فيراه قد فرّ إلى جهة لم يكن قد وصلها الماء، فيناديه بعاطفة الأبوة وقلبه الرحيم: يـٰبُنَىَّ ٱرْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ ٱلْكَـٰفِرِينَ [هود: 42]، ولكن الابن الجاحد المعاند لا يلبي دعوة الرحمة والحنان ولا يجيب داعي الإيمان، بل يركب رأسه ويمضي في ركاب الشيطان قائلاً: سَآوِى إِلَىٰ جَبَلٍ يَعْصِمُنِى مِنَ ٱلْمَاء [هود: 43]، ناسيًا أن هذا ليس سيلاً عاديًا تصدّه التلال وتعصم منه الجبال والمرتفعات، إنما هو أمر الله وقدره النافذ الذي لا عاصم منه إلا رحمته لمن يشاء من عباده، قَالَ لاَ عَاصِمَ ٱلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ ٱللَّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا ٱلْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ ٱلْمُغْرَقِينَ [هود: 43]. وهكذا يمضي الولد العاقّ سادرًا في غيّه وضلاله مع الكفار الجاحدين حيث حلت عليهم النقمة وأدركهم الموت، وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ [هود: 44].
وكان نوح عليه السلام مطمئنًا إلى وعد الله له بالنجاة له ولأهله وللمؤمنين معه، وواثقًا أيضًا بمصير الظالمين ونهايتهم الأليمة، وأيقن حق اليقين أن الله قد استجاب دعاءه، وَقَالَ نُوحٌ رَّبّ لاَ تَذَرْ عَلَى ٱلأرْضِ مِنَ ٱلْكَـٰفِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُواْ إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 26، 27]، وحينئذ تذكّر نوح ابنه وتذكّر قول الله له: إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ [العنكبوت: 33]، فظن أن ابنه ممن كتبت لهم النجاة لأنه من أهله، ونسي الشرط الأساسي للنجاة وهو الإيمان بالله، فلجأ إلى الله قائلاً: رَبّ إِنَّ ٱبنِى مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ ٱلْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ ٱلْحَـٰكِمِينَ [هود: 45]، فعاتبه الله عز وجل حيث قال سبحانه: يـٰنُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَـٰلِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ [هود: 46]، وعند ذلك تذكر وأناب وطلب من الله المغفرة والرحمة، قَالَ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أَكُن مّنَ ٱلْخَـٰسِرِينَ [هود: 47].
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد: فلقد انتهى الطوفان بعد أن غرق أهل الأرض في زمن نوح عليه السلام، ولم يبقَ إلا من آمن وركب السفينة، وكان انتهاء الطوفان بعد أن أمر الله السماء أن تكف المطر والأرض أن تبتلع الماء الذي غمرها، وأن تعود الحياة كما كانت على ظهر الأرض، وحيث كانت قد وصلت إلى جبل يسمى الجودي، والله أعلم أنه إلى جانب دجلة عند الموصل في العراق، قال تعالى: وَقِيلَ يٰأَرْضُ ٱبْلَعِى مَاءكِ وَيٰسَمَاء أَقْلِعِى وَغِيضَ ٱلْمَاء وَقُضِىَ ٱلأمْرُ وَٱسْتَوَتْ عَلَى ٱلْجُودِىّ وَقِيلَ بُعْدًا لّلْقَوْمِ ٱلظَّـٰلِمِينَ [هود: 44].
وحين استقرت السفينة على الجودي وغاض الماء أمر الله نوحًا ومن معه أن ينزلوا منها بسلام وأمان وبركات من العزيز الرحيم بعد أن مكثوا وبقوا فيها على الماء تطوف بهم مائة وخمسين يومًا كما ورد في بعض الروايات.
وهكذا كانت حياة نوح عليه السلام مع قومه بعد أن مكث وعاش زمنًا وقرونًا طويلة وهو يدعوهم إلى الله، وهي أطول حياة عاشها إنسان والله أعلم، ويُروى عنه أنه سُئل حين حضرته الوفاة: كيف رأيت الدنيا؟ قال: (رأيتها كبيتٍٍ له بابان، دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر). وهكذا ينبغي أن تكون نظرة المؤمنين المخلصين إلى الدنيا الفانية ومتاعها الزائل، وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِىَ ٱلْحَيَوَانُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ [العنكبوت: 64].
وما أجمله وأروعه من تعقيب إلهي في نهاية قصة نوح عليه السلام مع قومه لتذكير رسول الله وأتباعه إلى يوم الدين بحقائق ثابتة وسنن لا تتغير ولا تتبدل، وما عليهم إلا أن يصبروا على ما يلاقونه من إعراض وعناد وكفر يتكرر في كل زمان ومكان، وعليهم أن يحتسبوا الأجر ويطلبوه من الله لأن العاقبة للمتقين، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْبَاء ٱلْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـٰذَا فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَـٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [هود: 49]. تلك حقيقة حتمية وسنة ثابتة لمن تذَرّعَ وتجمّل بالصبر وكان من عباد الله المتقين، فإن العاقبة والنتائج الطيبة في الدنيا والآخرة هي للمتقين، فَٱصْبِرْ إِنَّ ٱلْعَـٰقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
| |
|