molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: أنت أيها الآخر - سامي بن عبد العزيز الماجد الثلاثاء 8 نوفمبر - 3:16:11 | |
|
أنت أيها الآخر
سامي بن عبد العزيز الماجد
الخطبة الأولى
أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
أيها الأحبة في الله، التواصي بتقوى الله تعني بالضرورة التواصي بلزوم شرعه في القول والعمل، وفي الاعتقاد والسلوك، وفي أعمال القلوب والجوارح؛ فتقوى الله مطهّرٌ يغسل النفوس من درن العصبية ونوازع الهوى، فإذا طَلَبَتِ الحقَّ طَلَبَتهُ بحقِّه الذي هو التجرّد والإنصاف والشعور برقابة علام الغيوب، وستظل النفس كما هي في طبيعتها نزاعةً للهوى ما لم يكن لها دثارٌ من التقوى، ولن ينصف الإنسان نفسَه من غيره حتى ينصف نفسه من نفسه.
ولذا فما أحوجنا إلى التواصي بالتقوى كلما تباحثنا قضية من قضايا الإصلاح أو عرضنا لمشكلة من مشكلاتنا، وكلما تنازعنا مسألة من مسائلنا الخلافية، فإذا كان الحقّ هو طِلبةَ الجميع فلتكن التقوى زاد الجميع.
ولَكَمْ ترى من مُبطلٍ يعاند الحق وهو يراه، ويغالط الحقيقة وهي بيّنة، يُبدي في المسألة رأيه بانتقائية عجيبة، فلا تتهمه في عقله أكثر من اتهامك له في تجرده للحق ولزومه لكلمة التقوى، فلم يؤتَ فيها من قبل عقله، وإنما أُتِيَ من قلة تقواه وورعِه.
ولم يكن عجيبًا من ذي النفس المتخمة بأخلاط الهوى وذي العقلِ الملتاث بلوثة التغريب أن يُناقض دعوتَه بسوء فعالِه، وأن يدعو إلى خلقٍ هو أحوج الناس إليه، وأن يجعل من بعضِنا شاهدًا من شواهد تخلّفنا، وهو لا يشعر أنه هو "الآخَر" شاهد آخر من شواهد تخلفنا، تجلّى تخلفه في أسلوبه في نقد مجتمعه وفي طريقتِه في الإصلاح.
ومما نقمه هذا المبطل على مجتمعاتنا أحاديةُ الرأي ورفضُ "الآخَر" وإقصاؤه، وما نتج عن ذلك من الضِيقِ بالخلاف وسوء الأدب مع المخالف. ورفع عقيرته يدعو إلى ضرورة قبول "الآخَر" والتعايشِ السلميِ معه، وإلى فتح باب الحوار لتتسع الصدور للخلاف، ولتُقبل التعددية في المجتمع.
ويتقاضانا التجرد عن الهوى أن نعترف بأن هذا المأخذ صحيحٌ في بعض صورِه؛ ولكن على نحوٍ أقل من درجة التصوير المبالغِ فيها. نعترف بها إنصافًا للحقيقة ونصرةً للحق ولو وافق شيئًا مما يتهمنا به "الآخَر" وينقمه علينا، وكما تكون نصرة الحق بتكذيب الدعاوى الباطلة فإنها تكون كذلك بالاعتراف بالخطأ ولو بالغ في تصويره المغرضون، فلدنيا أحاديةُ رأيٍ في بعض المسائل الاجتهادية، والتي ليس فيها نصٌ صريحٌ ولا إجماعٌ صحيح، ومع ذلك لم تتّسع فيها صدورُنا للمخالف، وصار قولنا في هذه المسألة الاجتهادية صوابًا لا يحتمل الخطأ، وقولُ غيرِنا خطأً لا يحتمل الصواب.
على أنه ليس كل "آخر" يقبل، ولا كل رأي يُعتبر ويحترم؛ فإن "الآخَر" الذي يجب قبوله واحترام رأيه وأن تتسع الصدور لخلافه هو هذا الذي تأتي مخالفته في مسألة اجتهادية لا نصّ فيها صريح ويتفق معنا في الأصول، فهو "الآخَر" الذي لا يجوز إقصاؤه ولا اتهامه في دينه، بل له أخوة الإسلام وحقوقُ المسلمين، ولا يجوز أن نقطع عنه علائق الود والولاء.
أما "الآخَر" الذي يخالف في مسألة أصولية فأنّى لقوله قبول؟! وأنى لرأيه احترام؟! بل الواجب الحتم منعُه من نشر ضلالاته وشبهاته؛ لأن البلد بلد الإسلام الذي لا يجوز بحالٍ أن تُرفع فيها أصول غير أصوله، وحق هذا علينا أن يُدعَى إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة كما يدعى لذلك كل ضال وجاهل.
وأما التعايش السلمي فحقٌ ممنوح لكل مَن يُساكِنُنا في مجتمعنا ولو كان من ديانةٍ أو طائفة أخرى، كافرًا أو مبتدعًا؛ كما عايش النبي اليهودَ في المدينة وسالمهم؛ فخالطوا المسلمين وعاملوهم، فلما نقضوا عهدَه وحاولوا قتله وآذوا المسلمين وظاهروا عليهم الكافرين قتل منهم من قتل، وأجلى منهم من أجلى.
فمن احترمَ ديننا ولم ينازعنا في أصولنا وكف عنا شره وأذاه وأمسك عن الدعوة إلى ضلالته فله حق السِلم ما سالمنا، وله مطلق الحرية أن يفعل في بيته ما يشاء؛ كما قرر العلماء قديمًا هذا الحق لأشباهه من أهل الذمة، على أن لا يستعلن بذلك خارج بيته؛ فيجرح المشاعر، ويُلوّث الفكر والأخلاق، ويُلبِس على الناس دينهم.
"الآخَر" مصطلحٌ لم يكن وليد هذه الظروف، فقد كانت المطالبةُ بقبوله واحترامِه وعدمِ إقصائه تُلقى بصوت خافت وبتوجّسٍ وخيِفَة لا يكاد يسمعها إلا النخبة المثقفة، حتى إذا خرج المارد من قُمقُمه وجاء بلادَ الإسلام بقضه وقضيضه مستعمرًا بثوب جديد وبأس شديد خرجت من جحورها الأحراش، واستبشر بمقدمه الأوباشُ، وتدرعوا ببأسه، واستقووا بقوته، وانضووا تحت رايته طابورًا خامسًا ينهش لُحمة المجتمع من الداخل، يزعم الإصلاح ولكن على الطريقة الأمريكية المعروفة.
وأشهر هذا "الآخَر" الذي يطالب بقبوله واحترامه ويندد بإقصائه هو التيار الليبرالي، الذي يعني في أول ما يعنيه بـ"الآخَر" توجهَه هو؛ حتى لو قال كفرًا أو نازعَ في أصل من الأصول، فكل نصٍ ولو كان صريحًا فهو عنده محتمِل التأويل، ولو بالتفسير الباطني الخرافي الذي لا يتوافق مع عقلانيته.
ولْننظر فيما ينقم منا هذا "الآخَر" وفيما يطالبنا به، ثم لنقارن ذلك بسلوكه في هذه المطالبة وبتعامله مع مخالفيه.
لقد نقم منا هذا "الآخَر" أحادية الرأي وإقصاءَ "الآخَر" وعدم قبوله واحترامِ رأيه وسوءَ الأدب في الحوار وعدم التثبت في نقل الأخبار ومجاوزة نقد الأفعال إلى محاكمة النوايا واتهامها وتغليب إساءة الظن. وكما قلتُ: هذا في بعضه صحيح ولا شك، غير أن من الصحيح أيضًا أن كل ما نقمه علينا هو موجود فيه، فكأنه يتحسس أدواءه ليذكِّرنا بأدوائنا!
فهذا "الآخَر" أحادي الرأي في قضاياه الكبرى التي يطرحها في كل موطن يبسط فيه نفوذه من وسائل إعلام وغيرها، وقد يوسِّع للرأي الآخر لكن في القضايا الأخرى الصغيرة التي لا تصادم أهدافه ولا تعارض مخططاته، فإذا كنا لا نقبل بالرأي الآخر أن يعارض بعلانية أصلاً من أصولنا فقد رأينا هذا "الآخَر" لا يقبل منا كذلك أن نعارض قضية من قضاياه الكبرى في أيّ موطن من مواطن سيطرته، بل هو يعارض ما هو أدنى من ذلك كرهًا ومقتًا، فأينا أحق بالمقت والنقد في هذا؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بالفظاظة وسوء الأدب في الحوار رأيناه في ذلك لا يعدو ما اتهم به غيره، فأنت مستبدٌ متخلف حينما تقرر قوامة الرجل على المرأة كما قررها الله سبحانه، وأنت إرهابي متطرف حينما تطالب بإقامة الحدود في بلاد المسلمين، وأنت إرهابي كذلك حينما تؤيد المقاومة في العراق ولو أنكرت قتل المدنيين منهم، وأنت متخلف رجعي حين توجب على المرأة الحجاب كما أوجبه الله.، وأنت ظلاميٌّ من أرباب الكهوف المظلمة في "تورا" حين تنكر بعض المنكرات في المهرجانات السياحية.
وربما انتقل هذا "الآخَر" من مناقشة قولك إلى السخرية بشخصك، هؤلاء هم الذين يريدون أن يعلّمونا ويعلموا أولادنا حسن الأدب في الحوار وتقبلَ الرأي الآخَر، فهل يعطيك الشيء فاقدُه؟!
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بعدم التثبت في حكاية الأخبار وما أكثر ما رأيناه يذكّر بقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا الآية [الحجرات:6]، ثم نجده أولَ من ينساها أو يتناساها حين يكون التثبت لا يخدم مصلحته؛ فيلقي بالتهم على الأبرياء جزافًا من غير تثبت، ويفري الكذب في الأخبار، فيزيد فيها، أو يُنشئها من عالم الخيال إنشاءً.
هذا "الآخَر" يفتري الكذبَ، ويتخذ من الكذب مادةً للإثارة وترويج البضاعة، ولو على المؤسسات الحكومية الرسمية، وبخاصة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويسارع في نشر بعض الأخبار التي تُشوِّه سمعتها، ثم يأتي التكذيب من إمارة أو وزارة.
هذا "الآخَر" الذي يتهم غيره بمجاوزة الظاهر إلى محاكمة الباطن واتهام النوايا وسوء الظن هو نفسه يفعل الشيء نفسه، وإذا فعل هذا مثقفٌ يحسب نفسَه على النخبة فهو أقبح من أن يفعله شاب حدَثُ السن لم يجاوِز مرحلة المراهقة.
فهذا "الآخر" هو الذي ابتدع تهمة (المنهج الخفي) ليوسع عريضة الاتهام بالتطرف والغلو في بلاد الإسلام لبرآء نبذوا التطرف بطرَفَيْه: الغالي والجافي، ولم ينقم منهم إلا أنه لم ينل سعيهم، ولم يكتب له قبول كما كُتب لهم، ولأنهم حالوا بينه وبين ما يشتهي أن يراه في وطنه، وأصبح دليله في تهمته هو الدعوى نفسَها، ومع أنهم أنكروا الإرهاب والتفجير وكشفوا الشُبه فلم يكن ذلك في نظره سوى اقتسام للأدوار، ما بين جناح سياسي وعسكري.
هذا "الآخر" الذي يتهم غيره بأنه يحمل كلامه ما لا يحتمل ويحرِّفه عن مواضعه كأنما يعني بهذا الاتهام نفسه، فإذا قلت: "هذا الفعل كفرٌ" قال عنك: "إنك تكفِّر الناس"، ويتجاهل أن الحكم على الفعل بالكفر لا يعني بالضرورة كفرَ فاعله. وإذا قلت: "البراءة من الكفار أصل من أصول الإسلام" جعل لقولك لوازمَ باطلةً، فنسب إليك أنك تبيح ظلمَ الكافر والاعتداءَ عليه وتسوِّغ قتله بكل حال.
هذا "الآخَر" هو أكثر "الآخَر" انتهازًا للظروف واستغلالاً للحوادث، ومن المفارقات العجيبة في فتنة هذه الأيام أن يتفق هذا الذي يدعو إلى العقلانية ويتباهى بعقلانيته مع أشد الناس تعطيلاً للعقل وإعمالاً للخرافات من الرافضة وغيرهم فاتحدت هذه الأطراف المتباينة في حربها على أهل السنة من الوهابية وغيرها، ولم يكن بينها جامع يجمعها على هذا الاتفاق العجيب إلا بغضها لنا نحن "الآخَر" المفترى عليه.
هذا هو "الآخر" الذي يريد أن نعامله بغير ما يعاملنا هو به، فنحن بين "آخَر" يتحيّفُنا وعدو تملّك أمرنا، ولا طاقة لنا بهذه الهجمة الضروس ما لم نجعل من أصولنا التي نتفق عليها موئلاً ينزع عنا التفرق والاحتراب، وليس من السائغ أن نجعل من المسائل الاجتهادية منزعًا للتشاحن والتباغض في ساعة الرخاء، فكيف وربِكم نجعلها معقدًا للولاء والبراء في ساعة الشدة التي نحن أحوج ما نكون فيها إلى الاعتصام والوحدة؟!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
أما بعد: فمن نحن حين نتكلم عن "الآخر"؟ نحن كل مؤمن جعل القرآن والسنة ضياءَ طريقه إلى الله، وجعل شريعة الله حاكمةً لحياته، لسنا حزبًا سياسيًا ولا طريقةً ولا حركة؛ فيكونَ دفاعنا دفاعًا شخصيًا عن ذواتٍ خاصة، ولكننا من ح+ الله الذين آمنوا بالله واتبعوا الرسول ، فدفاعنا دفاعٌ عن قيمٍ غيَّبها "الآخَر" في تعامله، فأصبحنا ضحايا تغييبها.
أما لماذا نتعرّض لذلك "الآخَر"؟ فذلك لكشف ألاعيبه، ولكي نكون أكثر فطنة من أن تخدعَنا الشعارات؛ فتلبِّس علينا حقيقتها الشائهة. يجب أن لا يدفعنا فضحُ "الآخَر" إلى الدفاع عن أخطائنا والسكوتِ عن ضرورة إصلاحها.
يجب أن نفطن إلى أننا لا يشملنا مصطلح "الآخَر" الذي يدافعون عنه ويطالبون بحقوقه، فنحن "آخر" من نوع آخر لا يستحق الكرامة ولا الحرية، ولا يستحق حتى تقنيات الحضارة؛ لأننا كما يدعون نفكر بعقول رجعية، لا تريد أن تعيش عصرَها الحاضر بظروفه ومعطياته.
يقولون: إن سبب عدم قبولكم لـ"الآخَر" ورفض التعايش السلمي معه هو الانغلاق والانكفاء على الذات، ونقول: ليس هذا هو السبب، ولكنه سبب من الأسباب، فقد رأينا من بني جلدتنا من هو أشد انفتاحًا وأكثر مخالطة للآخرين، ولكنه لا يزال في دائه، فلْيُداو نفسَه قبل أن يرمي غيره بدائِه.
هذا "الآخَر" يتجاوز في مفهوم قبول "الآخَر" مسألة قبول التعايش معه إلى فرض ثقافته وبسط هيمنته واستبداده بكل سُلطة، فيترقى من مجرد حرية الرأي إلى فرض الرأي، ويبقى لغيره حرية الكلام يلجلج به في فضاء يضيع فيه الكلام.
إن أزمة الحوار في بلادنا ليست أزمة فئة متديِّنة، ولكنها أزمة مجتمع نشأ في بيئة موبوءة بداءِ الاستبداد من البيت إلى المدرسة إلى المؤسسة؛ ولذا نجدها أزمة مشتركة بين أطياف المجتمع كلها، ما بين مقلّ ومستكثر.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا...
| |
|