molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: أثر الإيمان (1) - زياد بن محمد الصغير الأحد 6 نوفمبر - 4:00:54 | |
|
أثر الإيمان (1)
زياد بن محمد الصغير
الخطبة الأولى
أما بعد: فلا زلنا نتحدث عن السر العجيب الذي حول هذه الأمة من قبائل بداوة إلى أمة حضارة، وقلنا: إن مرد هذا هو الإيمان الذي صَبَّهُ محمد في نفوس أصحابه، فنقلهم من حال إلى حال، ومن وثنية إلى توحيد، ومن جاهلية إلى إسلام.
وحسبنا مثلاً على هذا التحول الهائل امرأةٌ عُرف أمرها في الجاهلية وعرف أمرها في الإسلام. إنها امرأة فقدت في جاهليتها أخاها لأبيها صخرًا، فملأت الآفاق عليه بكاء وعويلاً وشعرًا حزينًا، ترك الزمن لنا منه ديوانًا كان الأولَ من نوعه في شعر المراثي والدموع:
يذكرني طلوع الشمس صخرًا وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة البـاكين حولـي على إخوانهم لقتلت نفسي
هذه المرأة هي الخنساء، ولكنها بعد إسلامها نراها امرأة أخرى، نراها أمًا تُقدّم فلذات كبدها إلى الميدان، أي: إلى الموت، راضية مطمئنة، بل محرِّضة دافعة.
روى المؤرخون أنها شهدت حرب القادسية بين المسلمين والفرس تحت راية القائد سعد بن أبي وقاص، وكان معها بنوها الأربعة، فجلست إليهم في ليلة من الليالي الحاسمة تعظهم وتحثهم على القتال والثبات، وكان من قولها لهم: (أي بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والذي لا إله إلا هو إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية, والله تعالى يقول: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، فإذا أصبحتم غدًا إن شاء الله سالمين فاغدوا إلى قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائكم مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فتيمّموا وطيسها, وجالدوا رئيسها؛ تظفروا بالغُنم في دار الخلد).
فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية وأنوف حمية، إذا فتر أحدهم ذكّره إخوته وصية الأم العجوز، فزأر كالليث، وانطلق كالسهم، وانقضّ كالصاعقة، ونزل لقضاء الله على أعداء الله، وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحدًا بعد واحد.
وبلغ الأمَّ نعيُ الأربعة الأبطال في يوم واحد، فلم تلطم خدًا، ولم تشقّ جيبًا، ولكنها استقبلت النبأ بإيمان الصابرين وصبر المؤمنين وقالت: (الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته).
فما الذي غير خنساءَ النواحِ والبكاءِ إلى خنساءِ التضحيةِ والفداءِ؟! إنه صانع المعجزات، إنه الإيمان بالله عز وجل.
والإيمان بالله يغير الإنسان بالكلية، فيحمل المؤمن على أن يكظم الغيظ، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من جهل عليه، ويحسن إلى من أساء إليه، قال سيدنا عمر رضي الله عنه: (من اتقى الله لم يشف غيظه، ومن خاف الله لم يفعل ما يريد، ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون).
وكلّم رجل يومًا عمر بن عبد العزيز، فأساء إليه حتى أغضبه، وهو أمير المؤمنين، فهمّ به عمر، ثم أمسك نفسه وقال للرجل: "أردت أن يستفزني الشيطان بعزة السلطان فأنال منك ما تناله مني غدًا؟! ـ أي: في الآخرة ـ، قم عافاك الله، لا حاجة لنا في مقاولتك".
هكذا يغير الإيمان العباد، وهكذا ينبغي أن نكون.
الخطبة الثانية
أما بعد: فقد رأينا نماذج لرجال شوامخ، غيّرهم إيمانهم إلى أحسن ما يكون عليه الرجال، ونحن ينبغي أن نتغير وأن نسارع بالرجوع إلى الله وبالتوبة إليه سبحانه، عندها سنجد الطريق مفتوحًا رحبًا تنادينا إليه الآية الكريمة: إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلتَّوبِينَ وَيُحِبُّ ٱلْمُتَطَهّرِينَ [البقرة:222].
ويلازم التوبَةَ استغفار دائم لله الغفور الرحيم، قال : ((طوبى لمن وجد في صحيفته استغفارا كثيرا))[1]، ((من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجًا، ومن كل ضيق مخرجًا، ورزقه من حيث لا يحتسب))[2]، ويقول : ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))[3].
ويوصي الرسول النفس بإنقاذها من الوقوع تحت وطأة الذنب، وفي نفس الوقت بإنقاذها من الإصرار عليه، يقول : ((كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)).
فالمهم في موقفنا من الخطايا أن لا ندعها تتراكم لتحاصرنا حصارًا قاسيًا ومميتًا، بل نعالجها أولاً فأولاً، يقول : ((وإذا أسأت فأحسن، وأحدث لكل ذنب توبة))، وإلا فيقول الرسول : ((إن المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتة سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل منها، وإن زاد زادت حتى يغلف فيها قلبه، فذلك هو الران الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال: كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14]))[4]، فالله تعالى يختم على قلب العاصي المتمادي حتى يستمر في معصيته ما دام العبد يريد ذلك.
إذًا، فلا بد من توبة ونزوع واستغفار، ويأتي النزوع قبل الاستغفار؛ لأن التغيير الحقيقي هو جوهر التوبة والاستغفار، أما حركة اللسان بكلمات الاستغفار مهما تكن كثرتها دون عمل جاد لمحق الخطيئة والإقلاع عنها فعمل خبيث، رُوي عنه أنه قال: ((المستغفر من الذنب وهو يقيم عليه كالمستهزئ بربه))، ويبشرنا الرسول نحن العصاة فيقول: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))[5].
فلعفو الله وسعة رحمته بنا نحن العصاة يعود المذنب بعد توبته من الذنوب كما ولدته أمه طاهرًا ناضرًا معافى، نسأل الله أن يقبل توبتنا ويغسل حوبتنا ويعصمنا من الزلل.
[1] أخرجه ابن ماجه في كتاب الأدب، باب: الاستغفار (3818)، والنسائي في عمل اليوم والليلة (455)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3078) وصحيح الترغيب (1618).
[2] أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب: في الاستغفار (1518)، وابن ماجه في كتاب الأدب، باب: الاستغفار (3819)، وصححه الحاكم (4/262)، وتعقبه الذهبي بقوله: "الحكم فيه جهالة"، وهو في السلسلة الضعيفة (705).
[3] أخرجه أحمد (5/153)، والترمذي: كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشرة الناس (1987)، والدارمي: كتاب الرقاق، باب: في حسن الخلق (2791)، وصححه الترمذي، وقواه ابن رجب بشواهده في جامع العلوم والحكم (1/156) الحديث الثامن عشر، وهو في صحيح سنن الترمذي (1618).
[4] أخرجه أحمد (2/297)، والترمذي: كتاب التفسير، باب: سورة المطففين (3334)، وابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر الذنوب (4244)، وصححه الترمذي، والحاكم (1/5)، وهو في صحيح سنن الترمذي (2654).
[5] أخرجه ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة (4250)، وحسن الحافظ إسناده في الفتح (13/471)، وهو في صحيح سنن ابن ماجه (3427).
| |
|