molay مدير مراقب
البلد : المغرب الجنس : عدد المساهمات : 11945 تاريخ التسجيل : 17/12/2009 الموقع : STARMUST2
بطاقة الشخصية الدرجة: (1365/1365)
| موضوع: بر الوالدين - زياد بن محمد الصغير الأحد 6 نوفمبر - 3:48:23 | |
|
بر الوالدين
زياد بن محمد الصغير
الخطبة الأولى
أما بعد:
فحديثنا اليوم يدور حول موضوع مصيري بالنسبة لنا جميعاً، موضوعاً هاماً كثيراً تنسينا إياه زحمة الحياة وصرف الهموم في التمتع بملذاتها وشهواتها، هذا الموضوع هو بر الوالدين.
قال تعالى: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً [الأسراء:23].
وَٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً [النساء:36]
وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ بِوٰلِدَيْهِ إِحْسَـٰناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَـٰلُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً [الأحقاف:15].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن مسعود: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((الصلاة على وقتها)) قلت ثم أي؟ قال: ((بر الوالدين)) قلت: ثم أي؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))[1].
هذه هي منزلة بر الوالدين في الإسلام، منزلة سامية وطريق سهل إلى جنة الخلد.
أما الذين لا يبرون آباءهم فمصيرهم ذُكر في أحاديث نبوية كثيرة نذكرها:
قال صلى الله عليه وسلم: ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثاً ـ؟)) قلنا: بلى يا رسول الله، قال: ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) وكان متكئاً فجلس قال: ((ألا وقول الزور، ألا وشهادة الزور)) فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. متفق عليه[2].
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما فلم يدخل الجنة))[3].
ويقول صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى أمر خطير نقع فيه جميعاً وهو من الكبائر يقول: ((من الكبائر شتم الرجل والديه)) قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: ((نعم، يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه, فيسب أمه))[4].
فلم يكن الصحابة يتصورون رجلاً ـ بما تعنيه كلمة رجل ـ يسب أباه مباشرة وجهاً لوجه كما يحدث كثيراً الآن.
والملاحظ في القرآن الكريم أن الله تعالى يوصي الأبناء بآبائهم ولا يوصي الآباء بأبنائهم، ذلك لأن الآباء يهتمون بأبنائهم فطرة، وقلما يُوجِه الناس اهتمامهم إلى الوراء, إلى الجيل الذاهب.
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد وإلى التضحية بكل شيء في سبيل ذلك, حتى بالذات, وبذلك يمتص الأولاد رحيق كل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين، فإذا هما شيخوخة فانية ـ إن أمهلهما الأجل ـ وهما مع ذلك سعيدان.
وهنا، يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد بعد الأمر المؤكد بعبادة الله.
وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا [الأسراء:23، 24].
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ ٱلْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا والكبر له جلاله، وضعف الكبر له إيحاؤه، وكلمة عندك تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف، فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا فلا يبدو من الولد ما يدل على الضجر والضيق، يوحي بالأهانة وسوء الأدب.
ولو أن ثمة كلمة أقل من أف لذكرها الله سبحانه.
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا أن يشي كلامه معهما بالإكرام والاحترام.
وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ فهي الرحمة تزيد حتى لكأنها الذل، لا يرفع عيناً، ولا يرفع أمراًُ.
وَقُل رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا فهي الذكرى الحانية ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الوالدان وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان.
وفي الحديث ـ وفيه ضعف ـ عن بريدة عن أبيه أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال: ((لا، ولا بزفرة واحدة في حمل أو وضع؟!))[5].
وآخر كان يحمل أمه في الطواف وينظفها من الوسخ، فسأل ابن عمر هل أدى حقها؟ فقال له: (لا)، ولما سأله عن السبب قال: (لأنها كانت تفعل ذلك لك وأنت صغير وهي تتمنى لك الحياة، أما أنت فتفعل ذلك الآن وأنت تتمنى لها الموت).
وقد خرج علي وعمر من الطواف، فإذا هما بأعرابي قادم للطواف ومعه أمه يحملها على ظهره وهو يرتجز ويقول:
إني أنـا مطيـة لا أنفـر إذا الركاب ذعرت لا أذعر
لبيـك اللهم لبيـك
فقال علي: يا أبا حفص ادخل بنا الطواف لعل الرحمة تنزل فتعمنا، فدخل الرجل يطوف بأمه ويقول الرجز الماضي, وعلي رضي الله عنه يقول:
وإن تبرها فالله أشكر يجزيك بالقليل الأكثر
وبر الوالدين كفارة للذنوب والكبائر، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال: ((هل لك أم؟)) قال: لا، قال: ((هل لك من خالة؟)) قال: نعم، قال: ((فبرها))[6].
ولبر الوالدين بركة، فعن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه))[7].
وعنه صلى الله عليه وسلم: ((دخلت الجنة فسمعت قراءة، فقلت: من هذا؟ فقيل: حارثة بن النعمان، فقال: كذلك البر، وكان أبر الناس بأمه))[8].
ومن عظم شأن بر الوالدين في الإسلام أن البر يمتد إلى أصدقاء الأب والأم وأحبائهم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أبر البر أن يصل الرجل ودّ أبيه))[9].
وروي أن رجلاً من الأعراب لقي عبد الله بن عمر بطريق مكة، فسلم عليه عبد الله وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، فقال له عبد الله بن دينار ومن معه: أصلحك الله إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير، فقال ابن عمر: إن أبا هذا كان وداً لعمر بن الخطاب, وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه))[10].
فانظروا كيف يصنع الإسلام من المجتمع سلسلة من الصلات حتى يكون كالبنيان المرصوص.
[1] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب مواقيت الصلاة – باب فضل الصلاة لوقتها، حديث (527)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال، حديث (85).
[2] صحيح، صحيح البخاري: كتاب الشهادات – باب ما قيل في شهادة الزور، حديث (2654)، صحيح مسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (87).
[3] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب رغم أنف من أدرك أبويه ... حديث (2551).
[4] صحيح، أخرجه البخاري: كتاب الأدب – باب لا يسب الرجل والديه، حديث (5973)، ومسلم: كتاب الإيمان – باب بيان الكبائر وأكبرها، حديث (90).
[5] ضعيف، عزاه الهيثمي في المجمع (8/137) للبزار ونحوه، وقال: رواه البزار بإسناد الذي قبله. وقال في الذي قبله: فيه الحسن بن أبي جعفر وهو ضعيف من غير كذب، وليس بن أبي سليم مدلس.
[6] صحيح، أخرجه احمد (2/13) والترمذي: كتاب البر والصلة – باب ما جاء في بر الخالة، حديث (3975)، وصححه ابن حبان (435) والحاكم (4/155)، والألباني، صحيح سنن الترمذي (1554)، صحيح الترغيب (2504).
[7] حسن بهذا اللفظ، أخرجه أحمد (3/229)، والبيهقي في شعب الإيمان حديث (7855)، وهو حسن من أهل ميمون بن سياه فهو صدوق يخطئ كما في التقريب (7094). قال المنذري: رواه احمد، ورواته محتج بهم في الصحيح، وهو في الصحيح باختصار ذكر البر الترغيب ((3/217)، وقال الهيثمي في المجمع: هو في الصحيح خلا بر الوالدين، رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح (8/136). قلت: أخرجه البخاري في كتاب البيوع – باب من أحب البسط في الرزق، حديث (2067)، ومسلم في البر والصلة والآداب – باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، حديث (2557).
[8] صحيح، أخرجه أحمد (6/36)، وأبو يعلى (4425)، وصححه ابن حبان (7014)، والحاكم (3/208). وقال الهيثمي: رواه أحمد وأبو يعلى ورجاله رجال الصحيح. مجمع الزوائد (9/313)، وصححه الألباني، السلسلة الصحيحة (913).
[9] صحيح، أخرجه مسلم: كتاب البر والصلة والآداب – باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، حديث (2552).
[10] انظر تخريج الحديث السابق.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فقد رأينا كيف أوجب الإسلام بر الوالدين والإحسان إليهما في الحياة الدنيا وإن كانا مشركين وإنهما لا يطاعان إذا أمرا بمعصية مع الأدب التام معهما، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما ورد في الحديث.
وعلمنا أن عقوق الوالدين من أكبر الكبائر وأن من عق والديه ملعون، أي مطرود من رحمة الله، والعقوق هو أحد الذنوب الذي تعجل عقوبته في الدنيا قبل الآخرة.
فعلينا جميعاً أن نتسابق لنيل فضل بر الوالدين، وأن نفر من معصية عقوقهما والإساءة إليهما، هيا بنا نحترمهما ونجلهما, ونكون خدماً تحت أقدامهما، لا نسيء إليهما ولو بنظرة أو كلمة، ولا نرفع في وجهيهما عيناً ولا نعصي لهما أمراً.
هيا بنا نفعل ما يسعدهما بالتفوق فيما يحبان أن نتفوق فيه، فهذا من البر بالوالدين، وإذا كان أحب الأعمال إلى الله تعالى سروراً تدخله على قلب امرئ مسلم فما بالنا بإدخاله على الوالدين.
هيا بنا ندعو لهما في كل صلاة وعقب كل صلاة وفي كل وقت وحين رَّبّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا، ندعو لهما بكل خير وندعو لأنفسنا لِيوفقنا سبحانه لبرهما.
هيا بنا لا نتصرف تصرفاً – ولو في حياتنا الشخصية كالزواج مثلاً أو السفر للرزق أو العلم– إلا بعد إرضائهما واستسماحهما وموافقتهما, وإلا فالوبال والخسران في الدنيا والآخرة.
هيا بنا نبتعد عن المعاصي والموبقات؛ لأن ذلك يشينهما ويجلب لهما العار وهذا من عقوقهما.
هيا بنا نتواصى جميعاً بآبائنا وأمهاتنا ولا ندع فينا من يسيء إليهما.
هيا بنا نطمئن عليهما دائماً ولا نبخل عليهما بالرسائل؛ لأنهما لا يريدان منا سوى أن يطمئنا علينا.
هيا بنا نضيق على أنفسنا وبيوتنا إن كان والدينا في حاجة إلى المال الذي معنا (إن لي مالاً وأولاداً، وأبي يريد مالي) قال صلى الله عليه وسلم: ((اذهب، أنت ومالك لأبيك))[1].
وأخيراً هيا لنفوز بخيري الدنيا والآخرة: ((من سره أن يمد له في عمره ويزاد له في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه))[2].
[1] صحيح، أخرجه أحمد (2/179، 204)، وأبو داود: كتاب البيوع – باب في الرجل يأكل من مال ولده، حديث (3530)، وابن ماجه: كتاب التجارات – باب ما للرجل من مال ولده، حديث (2291)، وصححه ابن حبان (410)، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح، خلا شيخ الطبراني حبوش بن رزق الله، ولم يضعفه أحد بجمع الزوائد (4/155). وقال البوصيري في مصباح الزجاجية: هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات على شرط البخاري (3/37). وذكره الحافظ في الفتح (5/211)، وصححه الألباني، إرواء الغليل (838).
[2] تقدم تخريجه، انظر الحاشية رقم (8).
| |
|